صدى الجدران
دينا سليم
أمسك بذيول الصبا وما زال الطفل داخلي، أتدرج حيث باب العمود أدخل أسوار المدينة العتيقة، تتراقص حولي نغمات حَيْرتي، نغمات شرائط الكاسيت،( يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي...) ومن بين الضجيج تبتهلُ الأسارير لها. لكم آمنت بأن الموسيقى غذاء الروح والنفس! أطأ الساحة الواسعة ومن بين المارة والبائعين المتعبين أختفي.
رعشة القلب توقظني وصورة طفلي تلاحقني حتى وأنا أمام أم مكافحة تعرض عليّ الجبن الأبيض الذي أحب، تحتضن طفلها الرضيع وبمساعدة قدميها تهدىء من روع جوعهِ، تزن فتعطيني قسمتي من الجبن.
حافية القدمين أسابق خطواتي الى سريره في منتصف الليل أمنحهُ من عظمة الخالق حتى يستكين ظمأهُ فيعود الى السبات مُطمئناً . ما كان مني إلا :
- ابنكِ جائع يا حجة ، لماذا لا تطعمينهُ من خيراتكِ ؟
استحالت الكلمة الى غصّة :
- انهُ حفيدي، لقد فقدَ والديهِ منذ زمن.
وتبقى الكلمة قيد السّكون...نهض الوجدان على بغتةٍ ، غادرني العقل وأصبحتُ أسيرة الأسر. أخذتني خطواتي حيث ممرات القسوة، دخلتها والحجارة المُرة ترمقني، أحتار بي من رآني وتغشمّ عني الذي يعرفني ومن تعرف عليّ ثارت في نفسهِ التساؤلات الصّارمة. العيون تتساءل ، والدموع تتصابى.
وصلت بيتنا القديم، الباب موصد والنافذة مغلقة وكأني أرى أبي يتكيء على الحائط الخارجي متألما،ً وأتخيل جدتي تلوّح لي وبأعلى صوتها تناديني:
- يا وردة نيسان ...الغد يظهر في الأفق...قلتُ :
- أيام عصيبة أمَرّ من العلقم مرّت عليّ... قالت:
- لليّل انحناءاتهِ والظلمة تتوغلهُ...هل أخافكِ وَعيد النوارس والهجران؟ قلتُ:
- كيف تسألين والخوف ما يزال في قبضتي! لقد سُرقت اللقمة من يدي، نمتُ والدموع في كفي.
أسرار السماء تسكن هذا المكان، قوة الخالق تحافظ عليهِ وعشقي لهُ بلا نهاية، كلما مررتُ حيث خطوات الطفولة أحظى بعمر جديد، السنوات هنا لا تموت والدقائق تنتحل القرون، يا لقداسة جدرانك يا قدس ويا لخشوعِ خائفيكَ يا الهي! الابتسامة تتوسط وجوه الخلق. كلما دخلتكِ تبرأ جراحات المثقلين، لقمة تُشبع المئات ، والمئات يسيرون باختلاف لغاتهم، أجناسهم ودياناتهم أسرابا داخل أزقتكِ الحية، الأكتاف على الأكتاف والنظرات في سباق، الحوانيت مشرعة لا تهدأ ولا ينام أصحابها.
درب الآلام يعاتبني :" تأخرتِ"، كلما مررتُ أتركُ يدي في أماكن ثارت عليها الذكريات، أركن خدي على الجدار وأبكي، تسيل دموعي حتى تسقط من نهايات ذقني .
المارة بأشكالهم المختلفة، مسرعون يعتلونهُ وكأنهم يتسلقون سلم الهاوية، يمشون بهِ بثبات يتوعدون الأرض حتى بلوغ نهايتهِ. احتار بهذا الجمع ويحتار بي كل من يراني.
يركضون خلف يمامة بيضاء تتخبط عند الشرفات المنخفضة، يطردون الريح من وجهها، لم تتآكل رغم السنين والجدران تخفي وراءها الحقائق، والحقيقة يجب أن تظهر اليست... مدينة الله !
تهددها النظرات وترتفع الصيحات فيمتزج صوت فيروز بالصياح ليصل خلجان البحار البعيدة، تعود من جديد الى الأزقة تهزج وتتوعد، تنتحب وتضحكُ، تبدأ حيث تنتهي... وتنتشر ذيول الأصداء خلف الجدران...ذيول مكررة مستنسخة تضرب الضلال وتتحدى الصمت ولا يتبقى منها سوى أنين الظلام وضحكات استهتار.
فما كان منها الا الارتطام بأحد السقوف في ساعة المغيب فتهوى جريحة تتخبط بدمائها . تتركُ صرختها داخل درب الآلام فيصل صداها السماء، لو كان بيدي لحولتُ صرخة الألم الى هتاف سلام ، والصدى الى حقيقة والدماء الى سراب. فقدتُ روحي وصار جسدي صنما أصم، نسيتُ يدي على الحائط المتألم والطير يلطخهُ بدمائهِ .
ابتسامة طفلة توقظ مشاعري وتلهب فؤادي المستعر بين ضلوعي، تظهر لي من بين العتمة، تأخذني من يدي بهدؤ وتركن بي أحد الأزقة ، تربتُ على شعري بنعومة ، تتلفت يمينا ويسارا تمسح بنظراتها الطريق، وبصوتها الملائكي بينما تحجب فمها بأناملها الصغيرة ، تهمس:
- هل تبحثين أنتِ أيضا عن والدتكِ؟
قلتُ بينما أضع يدي على فمي :
- أمي راحت مع الوطن ، وأنا أبحث عن طفولتي الضائعة في ذاكرة الحجارة...
دينا سليم
أمسك بذيول الصبا وما زال الطفل داخلي، أتدرج حيث باب العمود أدخل أسوار المدينة العتيقة، تتراقص حولي نغمات حَيْرتي، نغمات شرائط الكاسيت،( يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي...) ومن بين الضجيج تبتهلُ الأسارير لها. لكم آمنت بأن الموسيقى غذاء الروح والنفس! أطأ الساحة الواسعة ومن بين المارة والبائعين المتعبين أختفي.
رعشة القلب توقظني وصورة طفلي تلاحقني حتى وأنا أمام أم مكافحة تعرض عليّ الجبن الأبيض الذي أحب، تحتضن طفلها الرضيع وبمساعدة قدميها تهدىء من روع جوعهِ، تزن فتعطيني قسمتي من الجبن.
حافية القدمين أسابق خطواتي الى سريره في منتصف الليل أمنحهُ من عظمة الخالق حتى يستكين ظمأهُ فيعود الى السبات مُطمئناً . ما كان مني إلا :
- ابنكِ جائع يا حجة ، لماذا لا تطعمينهُ من خيراتكِ ؟
استحالت الكلمة الى غصّة :
- انهُ حفيدي، لقد فقدَ والديهِ منذ زمن.
وتبقى الكلمة قيد السّكون...نهض الوجدان على بغتةٍ ، غادرني العقل وأصبحتُ أسيرة الأسر. أخذتني خطواتي حيث ممرات القسوة، دخلتها والحجارة المُرة ترمقني، أحتار بي من رآني وتغشمّ عني الذي يعرفني ومن تعرف عليّ ثارت في نفسهِ التساؤلات الصّارمة. العيون تتساءل ، والدموع تتصابى.
وصلت بيتنا القديم، الباب موصد والنافذة مغلقة وكأني أرى أبي يتكيء على الحائط الخارجي متألما،ً وأتخيل جدتي تلوّح لي وبأعلى صوتها تناديني:
- يا وردة نيسان ...الغد يظهر في الأفق...قلتُ :
- أيام عصيبة أمَرّ من العلقم مرّت عليّ... قالت:
- لليّل انحناءاتهِ والظلمة تتوغلهُ...هل أخافكِ وَعيد النوارس والهجران؟ قلتُ:
- كيف تسألين والخوف ما يزال في قبضتي! لقد سُرقت اللقمة من يدي، نمتُ والدموع في كفي.
أسرار السماء تسكن هذا المكان، قوة الخالق تحافظ عليهِ وعشقي لهُ بلا نهاية، كلما مررتُ حيث خطوات الطفولة أحظى بعمر جديد، السنوات هنا لا تموت والدقائق تنتحل القرون، يا لقداسة جدرانك يا قدس ويا لخشوعِ خائفيكَ يا الهي! الابتسامة تتوسط وجوه الخلق. كلما دخلتكِ تبرأ جراحات المثقلين، لقمة تُشبع المئات ، والمئات يسيرون باختلاف لغاتهم، أجناسهم ودياناتهم أسرابا داخل أزقتكِ الحية، الأكتاف على الأكتاف والنظرات في سباق، الحوانيت مشرعة لا تهدأ ولا ينام أصحابها.
درب الآلام يعاتبني :" تأخرتِ"، كلما مررتُ أتركُ يدي في أماكن ثارت عليها الذكريات، أركن خدي على الجدار وأبكي، تسيل دموعي حتى تسقط من نهايات ذقني .
المارة بأشكالهم المختلفة، مسرعون يعتلونهُ وكأنهم يتسلقون سلم الهاوية، يمشون بهِ بثبات يتوعدون الأرض حتى بلوغ نهايتهِ. احتار بهذا الجمع ويحتار بي كل من يراني.
يركضون خلف يمامة بيضاء تتخبط عند الشرفات المنخفضة، يطردون الريح من وجهها، لم تتآكل رغم السنين والجدران تخفي وراءها الحقائق، والحقيقة يجب أن تظهر اليست... مدينة الله !
تهددها النظرات وترتفع الصيحات فيمتزج صوت فيروز بالصياح ليصل خلجان البحار البعيدة، تعود من جديد الى الأزقة تهزج وتتوعد، تنتحب وتضحكُ، تبدأ حيث تنتهي... وتنتشر ذيول الأصداء خلف الجدران...ذيول مكررة مستنسخة تضرب الضلال وتتحدى الصمت ولا يتبقى منها سوى أنين الظلام وضحكات استهتار.
فما كان منها الا الارتطام بأحد السقوف في ساعة المغيب فتهوى جريحة تتخبط بدمائها . تتركُ صرختها داخل درب الآلام فيصل صداها السماء، لو كان بيدي لحولتُ صرخة الألم الى هتاف سلام ، والصدى الى حقيقة والدماء الى سراب. فقدتُ روحي وصار جسدي صنما أصم، نسيتُ يدي على الحائط المتألم والطير يلطخهُ بدمائهِ .
ابتسامة طفلة توقظ مشاعري وتلهب فؤادي المستعر بين ضلوعي، تظهر لي من بين العتمة، تأخذني من يدي بهدؤ وتركن بي أحد الأزقة ، تربتُ على شعري بنعومة ، تتلفت يمينا ويسارا تمسح بنظراتها الطريق، وبصوتها الملائكي بينما تحجب فمها بأناملها الصغيرة ، تهمس:
- هل تبحثين أنتِ أيضا عن والدتكِ؟
قلتُ بينما أضع يدي على فمي :
- أمي راحت مع الوطن ، وأنا أبحث عن طفولتي الضائعة في ذاكرة الحجارة...