أديبة وروائية دينا سليم
ارتمت (مريم) في حضن أمها مذعورة، ناشدت الأمان فربتت والدتها على جسدها النحيل المرتعش تهدىء من روعها:
- لا تخافي يا حبيبتي انه الرّعد ...
كان ذلك نذير معركة جديدة اندلعت بين البيوت، قذيفة كبيرة داخل دار الجيران:
- يا الهي، يا ساتر أستر علينا، احمنا..
تفقدت الأم بعينيها شقوق السقف والجدران التي اهتزت أركانها، تتحسس بأناملها زجاج النوافذ، تختلس النظر من خلالها، الحارة... فلا من شخص، اختفى المارة بسرعة البرق، أغلقت الحوانيت وانسحب الباعة بعرباتهم المكدسة. خيّم الهدوء وسكنت الأرواح داخل البيوت تنهل منها..(الأمان)..
وإذا بشبح يترنّح بمحاذاة الجدران يتأبط زجاجة، يتوارى ويحاول الاسراع متفاديا نيران المدافع ونيازك الدبّابات، حتى تنتهي به الطريق فيدخل باب العمارة العتيق، يتسلق سلالمها بتثاقل يصل آخرهُ وكأن الدرجات تنطوي من تحته محاولا النهوض ومتابعة التدرج بعد السّقوط.
يرمي بجسده المنهك على أريكة بالية مهترئة غطيت حتى جوانبها بشرشف أخضر كالح. يغفو ورائحة الخمرة تملأ المكان.
الظلام الكئيب يملأ الغرفة وهو ما يزال نائما . تأتيه (مريم) الصغيرة تتلمس وجنتيه:
- أبي، أبي...
ينهرها بعينيه المثقلة:
- ماذا تريدين؟
- أريد قرشا.
َ - ولمَ القرش؟
- لشراء كعكة.
يدس يده ببطء في جيب قميصه المبلل فتبرز منه فتات أوراق بالية رطّبها عرقه الكريه يبحث عن فكّة، فاذا بقرش أبيض يهوى فيرن الارض رنا .
تباغتهما مرة اخرى أصوات القذائف، يرتعد اساس البيت وتهتز أركانه، يخترق الصوت الهائل ظلاما دامسا فتتلاقى أضواء المدافع ببريق العيون الخائفة .
استمرت الغارات طوال ساعات الليل فليس من رجاء ولا شفيع الا رحمة الله تعالى.
تمكنت الشمس من اختراق نهار جديد تغمرهُ أصوات الثكالى قلقا وآهات الجرحى وجلا وآلام المفجوعين غمّا.
مدّت (مريم) يدها الصغيرة ومن خلال ظلام النهار تبحث عن القرش حتى وجدتهُ، فرحت به وشدّت خطواتها الضيقة فتشرد نحو حانوت (العم ابو زهير) تشتري كعكة.
2
تخرج حتى الشّارع العام ورائحة الدماء تنتشر في الهواء الرطب، خريفيّ ممزوج بغبار القذائف، تخترق أسرابا من الاطفال تمرّغت وجوههم بالتراب المعفر برائحة الرّصاص يلتقطون أشلاءهم من بين الأنقاض ...
تمرّ الأيام و(مريم) تنتظر بفارغ الصبر عودة والدها. عيناها لا تبارحان النافذة المغلقة تارة وباب الشقّة تارة أخرى، فما من طارق يطرق ولا فاتح يفتح، ما كان عليها إلا إخراج بعض ملابسها من خزانتها غير متناسية دميتها التي خيطت من مجموعة خرق، تخرج قاصدة والدها تبحث عنه، تخفي القرش براحة يدها الناعمة.
مضت تسعى حانوت (العم ابو زهير) واذا بها تلمحه يسلك ذات الطريق يتقدّمها بخطواته السريعة، يعرج فيدخل باب بيت مقابل، بيت (الست ايمان).
تلحق به وابتسامتها الحزينة لا تفارق ثغرها، وجهها البريء يتعب من النداء. الباب موصد، تطرقه طرقات خفيفة متتالية وتنادي بصوتها الرخيم أباً ما عاد بامكانه سماعها، لقد أصبح داخل بيت آخر غير البيت الذي تعهده. انتظرتهُ كما انتظرته والدتها من قبل.
جلست على الحافة تراقب الباب حيث غاب داخله ولم يخرج، لم يشعر بوجودها خانَهُ احساس الأبوة وابنته في خطر . فلتت دموعها من مآقيها، تغرق وجنتيها والقرش ما يزال في راحتها.
قذيفة قاتلة تخترق السماء فتقتحم المكان، لا أماكن آمنة ولا أرصفة متينة والبيوت تتساقط سقوفها فتبدو وكأنها ما كانت.
يتزاحم المارة و(مريم) واقفة كالصنم مشدوهة لا تبتعد من باب البيت الموصد، هناك والدها فهو ملجأُها، أبوّته تعادل البيوت الآيلة والسقوف الهاوية، حضنه يكفيها وملمس يده يرضيها، أنفاسه تدفؤها وذراعاه ينجيانها من غضب فضوليّ هدام.
نيران المدافع تطرحها أرضا، أسهم النار تضيء جسدها الهامد وكيس ملابسها يتدحرج حيث باب الانتظار يلحق به قرش واحد مستدير.
صورة والدتها داخل بؤبؤي عينيها، تلمحها مقتربة فتبقي عيناها مفتوحتين وشفاهها تهمس همسات أخيرة، مودّعة، مُعلّقة النظرات:
- إنه.. الرعد.. يا..أماهُ
ارتمت (مريم) في حضن أمها مذعورة، ناشدت الأمان فربتت والدتها على جسدها النحيل المرتعش تهدىء من روعها:
- لا تخافي يا حبيبتي انه الرّعد ...
كان ذلك نذير معركة جديدة اندلعت بين البيوت، قذيفة كبيرة داخل دار الجيران:
- يا الهي، يا ساتر أستر علينا، احمنا..
تفقدت الأم بعينيها شقوق السقف والجدران التي اهتزت أركانها، تتحسس بأناملها زجاج النوافذ، تختلس النظر من خلالها، الحارة... فلا من شخص، اختفى المارة بسرعة البرق، أغلقت الحوانيت وانسحب الباعة بعرباتهم المكدسة. خيّم الهدوء وسكنت الأرواح داخل البيوت تنهل منها..(الأمان)..
وإذا بشبح يترنّح بمحاذاة الجدران يتأبط زجاجة، يتوارى ويحاول الاسراع متفاديا نيران المدافع ونيازك الدبّابات، حتى تنتهي به الطريق فيدخل باب العمارة العتيق، يتسلق سلالمها بتثاقل يصل آخرهُ وكأن الدرجات تنطوي من تحته محاولا النهوض ومتابعة التدرج بعد السّقوط.
يرمي بجسده المنهك على أريكة بالية مهترئة غطيت حتى جوانبها بشرشف أخضر كالح. يغفو ورائحة الخمرة تملأ المكان.
الظلام الكئيب يملأ الغرفة وهو ما يزال نائما . تأتيه (مريم) الصغيرة تتلمس وجنتيه:
- أبي، أبي...
ينهرها بعينيه المثقلة:
- ماذا تريدين؟
- أريد قرشا.
َ - ولمَ القرش؟
- لشراء كعكة.
يدس يده ببطء في جيب قميصه المبلل فتبرز منه فتات أوراق بالية رطّبها عرقه الكريه يبحث عن فكّة، فاذا بقرش أبيض يهوى فيرن الارض رنا .
تباغتهما مرة اخرى أصوات القذائف، يرتعد اساس البيت وتهتز أركانه، يخترق الصوت الهائل ظلاما دامسا فتتلاقى أضواء المدافع ببريق العيون الخائفة .
استمرت الغارات طوال ساعات الليل فليس من رجاء ولا شفيع الا رحمة الله تعالى.
تمكنت الشمس من اختراق نهار جديد تغمرهُ أصوات الثكالى قلقا وآهات الجرحى وجلا وآلام المفجوعين غمّا.
مدّت (مريم) يدها الصغيرة ومن خلال ظلام النهار تبحث عن القرش حتى وجدتهُ، فرحت به وشدّت خطواتها الضيقة فتشرد نحو حانوت (العم ابو زهير) تشتري كعكة.
2
تخرج حتى الشّارع العام ورائحة الدماء تنتشر في الهواء الرطب، خريفيّ ممزوج بغبار القذائف، تخترق أسرابا من الاطفال تمرّغت وجوههم بالتراب المعفر برائحة الرّصاص يلتقطون أشلاءهم من بين الأنقاض ...
تمرّ الأيام و(مريم) تنتظر بفارغ الصبر عودة والدها. عيناها لا تبارحان النافذة المغلقة تارة وباب الشقّة تارة أخرى، فما من طارق يطرق ولا فاتح يفتح، ما كان عليها إلا إخراج بعض ملابسها من خزانتها غير متناسية دميتها التي خيطت من مجموعة خرق، تخرج قاصدة والدها تبحث عنه، تخفي القرش براحة يدها الناعمة.
مضت تسعى حانوت (العم ابو زهير) واذا بها تلمحه يسلك ذات الطريق يتقدّمها بخطواته السريعة، يعرج فيدخل باب بيت مقابل، بيت (الست ايمان).
تلحق به وابتسامتها الحزينة لا تفارق ثغرها، وجهها البريء يتعب من النداء. الباب موصد، تطرقه طرقات خفيفة متتالية وتنادي بصوتها الرخيم أباً ما عاد بامكانه سماعها، لقد أصبح داخل بيت آخر غير البيت الذي تعهده. انتظرتهُ كما انتظرته والدتها من قبل.
جلست على الحافة تراقب الباب حيث غاب داخله ولم يخرج، لم يشعر بوجودها خانَهُ احساس الأبوة وابنته في خطر . فلتت دموعها من مآقيها، تغرق وجنتيها والقرش ما يزال في راحتها.
قذيفة قاتلة تخترق السماء فتقتحم المكان، لا أماكن آمنة ولا أرصفة متينة والبيوت تتساقط سقوفها فتبدو وكأنها ما كانت.
يتزاحم المارة و(مريم) واقفة كالصنم مشدوهة لا تبتعد من باب البيت الموصد، هناك والدها فهو ملجأُها، أبوّته تعادل البيوت الآيلة والسقوف الهاوية، حضنه يكفيها وملمس يده يرضيها، أنفاسه تدفؤها وذراعاه ينجيانها من غضب فضوليّ هدام.
نيران المدافع تطرحها أرضا، أسهم النار تضيء جسدها الهامد وكيس ملابسها يتدحرج حيث باب الانتظار يلحق به قرش واحد مستدير.
صورة والدتها داخل بؤبؤي عينيها، تلمحها مقتربة فتبقي عيناها مفتوحتين وشفاهها تهمس همسات أخيرة، مودّعة، مُعلّقة النظرات:
- إنه.. الرعد.. يا..أماهُ