السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
يحارب بعض المسلمين الدعاة إلى الله بهذه الآية، وينتقدون أساليب هؤلاء الدعاة، ويرفضون دعوتهم، ويخطِّئونهم في مواجهة الناس ونصحهم وتذكيرهم، ويأخذون عليهم صراحتهم وجرأتهم وجهرهم بالحق!.
يلومونهم في كل هذا لأنهم يخالفون هذه الآية، ولا يلتزمون بتوجيهها في الدعوة إلى الله، ولا في المنهج الذي ترسمه في إيصال الدعوة للآخرين!.
لكن ما معنى الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن عند هؤلاء؟ إنهم لا يكادون يبيِّنون في هذا بياناً شافياً، كل ما في الأمر أن كل داعيةٍ صريحٍ جريءٍ، لا يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يجادل بالتي هي أحسن، وإنما هو متعصبٌ متطرفٌ قاسِ حادٌ منفرٌ مخالفٌ للسبيل القويم!.
الحكمة والموعظة الحسنة كأنها تعني عند هؤلاء: أن يتغاضى الداعية عن المنكرات والمفاسد والمعاصي التي تشوِّه وجه المجتمع، فإذا التفت إليها وأنكرها ونصح أصحابها، فإنه تارك للحكمة والموعظة الحسنة.
الحكمة والموعظة الحسنة عندهم: هي أن يُدعى الداعية إلى حفلةٍ أو مجلسٍ يُعصى فيه الله، أو تُرتكب فيه الفواحش، وتُفعل فيه المنكرات، فيجلس راضياً ساكتاً متفاعلاً مع الحضور، يتصرَّف معهم على أسس البروتوكول و " الإتكيت "، ويفعل معهم المنكرات. فإذا تكلم في المجلس وانتصر لدينه ونصح القوم -ولو بألين الكلام وأكثره هدوءاً- فإنه مخالف للحكمة والموعظة الحسنة.
الحكمة والموعظة الحنسة عندهم: أن يرضى الدّنية في دينه، ومواقف الذل في حياته، ويشارك باللقاءات والجلسات المشبوهة مع أعداء لهذا الدين، ملحدين أو مستعمرين أو يهود أو نصارى، ويقدم لهم الإسلام كما يريدونه باسم المرونة والتطور، وباسم الحكمة والموعظة الحسنة.
كم سمعنا كلاماً في تفسير هذه الآية يصدر على صورة نصيحةٍ أو تذكير من بعض الذين يشْغلون مراكز إسلاميةً رسميةً عليا، يطلبون من الدعاة إلى الله -وعاظاً أو أئمةً أو خطباء أو محاضرين أو كاتبين- أن يقدِّموا الإسلام للناس كما يريد الناس، ووفق أمزجتهم وشهواتهم وأهوائهم، وأن لا يكونوا صريحين في نصحهم جريئين في الجهر بالحق، ويعتمدون في كلامهم على هذه الآية: {بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَة}. فإذا لم يفعلوا ذلك كانوا مخالفين لتوجيهاتها.
عجيبٌ أن تصدر هذه التفسيرات الخاطئة لهذه الآية من هؤلاء المسلمين، وعجيبٌ أن تُوَظَّفَ هذه الآية عندهم في منع قول كلمة الحق، والجرأة في النصح، وإبداء الرأي، والرجولة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف، هذا عجيبٌ. ولكن الأعجب والأغرب أن يشارك في هذا التحريف لمعنى الآية، حملةٌ للعلم الشرعي والشهادات الشرعية، يشغلون وظائف إسلامية رسمية.
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، تدلُّنا هذه الآية على كيفية الدعوة إلى الله، وتُعرِّفنا على الوسائل التي نقدم الدعوة إلى الناس من خلالها.
بالحكمة والموعظة الحسنة: الباء باء الاستعانة، أي نستعين بهاتين الوسيلتين في تقديم الدعوة، ونستخدمها في توصيلها للناس. إنهما: الحكمة والموعظة الحسنة.
والحكمة: " هي إصابة الحق بالعلم والعقل ".
فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء، وإيجادها على غاية الإحكام.
ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات.
والموعظة مأخوذة من الوعظ. والوعظ: " زجرٌ مقترنٌ بتخويف ". قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.
على الداعية أن يدعو بالحكمة. بمعنى أن يقدم دعوته للناس، ويصيب في هذا التقديم الحق بالعلم والعقل، وُيعرف السامعين على الحق الذي معه، ليقبلوا عليه ويلتزموا به.
الحكمة هي: القول المناسب، في الوقت المناسب، بالقدر المناسب، والأسلوب المناسب.
وتستوقفنا هاتين الوسيلتين في الدعوة إلى الله: الحكمة والموعظة الحسنة، إنه لا بد من استخدامهما في كل دعوة لأي إنسان كان، إذ استخدام واحدة دون الأخرى لا يحقق الغاية ولا يوصل الدعوة.
الحكمة: هي الدعوة الفكرية: بأن يعرض فكرته على المدعو بهدف إقناعه بها، وأن يخاطب في هذا العرض عقله وفكره. لأن الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل. فيستخدم الداعية العلم والعقل في عرض الدعوة، ويؤثر في هذا على الناحية العلمية والعقلية عند المدعو. وعندما ينجح في هذا الأمر يكون قد أوجد عند المدعو قناعةً عقلية، وقبولاً نظرياً. فإذا اكتفى بهذه الخطوة فلن يحصل على ثمرةٍ عملية، ولا يحقق هدفاً عملياً من دعوته، لأن المدعو يبقى في دائرة الاقتناع النظري.
الموعظة الحسنة: وهي المرحلة الثانية في الدعوة، ولا بد أن يقوم بها كل داعية يحترم نفسه ودعوته، ويريد إيجاد الأهداف العملية الواقعية. والموعظة هي التذكير بالخير فيما يرق له القلب. يعني أن يخاطب قلب المدعو بما رقَّ ولَطُفَ وحَسُن، يعني أن يوصل المعلومات التي ألقاها في عقل المدعو إلى قلبه، يعني أن يشارك قلبُ المدعو عقلَه الاقتناعَ والرضا والقبول للدعوة. فإذا تمت هذه المشاركة، أثَّر القلب على باقي الكيان، فقام المدعو بخطوة عملية خارجية وهي أن يدخل في الدعوة ويلتزم بها.
قال الزمخشري في تفسير الآية: {اُدْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّك} -أي الإسلام- {بالحكمة} بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة.
والموعظة الحسنة: وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم فيها، وتقصد ما ينفعهم فيها.
ويجوز أن يريد القرآن: أي اُدعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة. وجادلهمْ بالتي هي أحسن: بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة، من الرفق واللين من غير فظاظةٍ ولا تعنيف.
وسائل الدعوة إلى الله في هذه الآية اثنتان فقط: الحكمة والموعظة الحسنة. أما الجدال بالتي هي أحسن فليس من وسائل الدعوة، ولا يقصد منه عرض الدعوة على الذي يجادله، غاية الجدال هي إقناع المعاندين بترك العناد، وبالبحث العلمي المنهجي، والهدف منه هو أن يزحزح هؤلاء عن مواقعهم عن طريق الجدال، لينتقلوا بعد ذلك إلى موقعٍ آخر، يكونون قريبين فيه من الدعوة، مستعدين لقبولها. عندها يستخدم معهم وسيلتي الدعوة: الحكمة والموعظة الحسنة، ليحقق الغاية، ويلتزموا بالدعوة. فالجدال إنما هو تقريبٌ للخصوم إلى باب الدعوة، وليس عرضها عليهم.
نأخذ هذا من صياغة الآية: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
فالموعظة معطوفةٌ على الحكمة، وهما متعلقتان بفعل الأمر " أُدْعُ " وباء الاستعانة. أما "جادلهم" فإنها معطوفة على " ادع " - لأنهما فعلا أمر. أي اُدع وجادل. ولو كان الجدال من أساليب الدعوة لقال: ادع بالحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن.
وفي هذا يقول الإمام الرازي: ومن لطائف هذه الآية أنه قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، فقصر الدعوة على هذين القسمين.
لأن الدعوة إن كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة، وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة. أما الجدال فليس من باب الدعوة، بل المقصود منه غرضٌ آخر، مغايرٌ للدعوة، وهو الإلزام والإفحام. فلهذا السبب لم يقل: اُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن، بل قطع الجدل عن باب الدعوة، تنبيهاً على أنه لا يُحصِّل الدعوة، وإنما الغرض منه شيء آخر. والله أعلم.
ودُمتم بحفظ الله ورعايته