عبد الواحد جعفر
إن تبني المسلم لحكم شرعي معين أمر لازم ولا مناص منه ولا بوجه من الوجوه عندما يباشر العمل، ومجرد العمل بالحكم الواحد، فرضاً كان أو مندوباً أو حراماً أو مكروهاً أو مباحاً، يحتم تبني حكم معين، وإذا تبنى حكماً معيناً صار هذا الحكم الشرعي هو حكم الله في حقه وصار ملزماً به يعمل بموجبه وحده ويعلمه للناس ويدعو للإسلام بحسبه، لأن معنى تبني المسلم غير طاعة ما تبناه غيره، فإذا تبنى الخليفة حكماً وجبت طاعته ولم يجب تبنيه، ولذلك يطيع المسلم ما تبناه الخليفة فرضاً ويترك ما تبناه هو في العمل لأن أمر الإمام نافذ، ولكنه يجوز له أن يُعلِّم غير ما تبناه الخليفة وأن يدعو للإسلام بغير ما تبناه الخليفة. أما إذا تبنى هو حكماً معيناً فإن الواجب عليه أن يعمل بهذا الحكم وأن يعلمه وأن يدعو إليه، ولا يجوز له غير ذلك، لأن معنى تبني المسلم للحكم هو العمل به وتعليمه لغيره والدعوة له حين يدعو لأحكام الإسلام وأفكاره، سواء تبناه اجتهاداً بأن استنبط هو الحكم أو تبناه تقليداً بأن قلد هو غيره في هذا الحكم. وإذا تبنى المسلم حكماً شرعياً معيناً صار هذا الحكم بعينه هو حكم الله في حقه، وصار غيره ليس حكم الله في حقه، فإذا كان المسلم مقلداً كان تبنيه بتقليد غيره سواء أكان عامياً كعامة المسلمين أو كان كطلبة العلم، وإذا كان المسلم مجتهداً كان تبنيه بناء على استنباطه هو للحكم باجتهاده هو. والمجتهد والمقلد يجوز لكل منهما أن يترك ما تبناه من أحكام وتبني غيرهما إذا كان يراد جمع كلمة المسلمين على رأي واحد، لِما ثبت عن عثمان -رضي الله عنه- أنه قَبِلَ أن يبايَع من الناس على كتاب الله وسنة رسوله، ورأي الشيخين من قبله أبي بكر وعمر، وهو ترك لما تبناه هو وتبنٍ لما سبق أن تبناه غيره، وكان ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة، وهو مما يُنكر مثله لأنه ترك لحكم الله في حقه إلى غيره، ولم ينكِر عليه منكِر، فكان إجماعاً. فهذا العمل من عثمان هو تبنٍ لما تبناه غيره وليس طاعة لما تبناه غيره. ولكن الصحابة الذين بايعوه يعتبر عملهم بما تبناه عثمان طاعة وليس تبنياً، فيجوز لهم أن يعلِّموا خلافه وأن يدعوا إلى خلافه، ولكن لا يجوز لهم أن يعملوا بغير ما تبناه عثمان. أما عثمان نفسه فيجب عليه أن يعملَ بما تبناه أبو بكر وعمر وأن يعلمه وأن يدعو إليه، ولا يجوز له غير ذلك مطلقاً. وعلى هذا فإن ما سبق له أن تبنى حكماً يجوز له أن يتبنى غيره في حالات منها هذه الحالة؛ أي لا يجب عليه ولكنه إذا تبنى ما تبناه غيره أصبح ملزماً بهذا الشيء بالعمل والتعليم والدعوة، فلا يجوز له أن يعمل أو يعلِّم أو يدعو لغيره مطلقاً، ولذلك فهو يطيع فيما يخالف رأيه، وأيضاً هو يعلِّم ما يخالف رأيه ويدعو لما يخالف رأيه؛ لأنه قد تبنى الرأي تبنياً فصار ملزماً بالعمل والتعليم والدعوة وليس ملزماً بالعمل فقط لأنه تبنٍ وليس بطاعة فحسب.
وعلى ذلك فإن الخليفة أو الإمام الأعظم إذا تبنى في مسألة غطاء الوجه حكماً معيناً، وهو وجوب غطاء الوجه، فإن كان تبنيه مبنياً على دليل شرعي، ولو كان بالنسبة لغيره شبهة دليل، فإن طاعته في هذه الحال تكون واجبة. فالمسلمون مأمورون بالطاعة في غير المعصية، فإذا تبنى الإمام رأياً وجب على المسلمين طاعته في ذلك. لكن الأصل في التبني هو توحيد العمل بالحكم الشرعي بين المسلمين حفاظاً على وحدتهم أو بقدر ما يلزم من تطبيق الإسلام؛ لذلك يقتصر فيه على قدر الحاجة فقط. مع ملاحظة أن تبني الخليفة لا يجبر المسلمين على تبني ما تبناه، بل يجبرهم فقط على العمل بما تبناه.
ثانياً: إن الله تعالى أمر بطاعة السلطان، وتنفيذ أوامره. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ومَن يُطع الأمير فقد أطاعني ومَن يَعصِ الأمير فقد عصاني"، غير أن طاعة السلطان مُقَيّدة بما جُعل له أن يقوم به برأيه واجتهاده، لا بكل شيء، فهو لا يُحلُّ حراماً، ولا يُحرِّم حلالاً بحجة أن الله أمر بطاعته، وإنما ينفذ أحكام الشرع على الناس، فالطاعة إنما هي طاعة الشرع وقد جعل الله له أن ينفذ أحكامه برأيه واجتهاده، فوجبت طاعته في هذا، وما عداه فالطاعة هي لله ورسوله لا للسلطان. والسلطان إنما ينفذ شرع الله، وبما أن الأحكام الشرعية اختلف الصحابة فيها، واختلف المجتهدون فيها، ففهم بعضهم من النصوص الشرعية غير ما فهمه البعض الآخر، وبذلك تعدّد فَهْم الأحكام، فإن الشارع قد جعل للخليفة أن يتبنى رأياً من هذه الآراء، ويُلزم الناس بالعمل به وتجب طاعته في هذا، وقد انعقد إجماع الصحابة على أن للخليفة أن يتبنى أحكاماً، وأنه إذا تبنى حكماً وجبت طاعته، وصار هو حكم الله في حق المسلمين جميعاً. صحيح ان طاعة الخليفة فيما تبنى مِن الأحكام واجبة، وله أن يُلزم الناس بأحكام مُعينة، ولكن القيام بذلك ليس قياماً بأمر الخليفة، وإنما هو قيام بما أمر الله، والخليفة إنما عَيَّن فهماً مُعيَّناً مِن أفهام متعددة للنص الشرعي، فالعمل إنما يكون بالحكم الشرعي لا بأمر الخليفة، بدليل أنه لو تبنى غير الحكم الشرعي لما وجبت طاعته، بل حرمت طاعته. ومن هنا لم يكن الالتزام بما تبنى الخليفة طاعة لأمر الخليفة في أمر مِن أوامره هو، وإنما هو طاعة لله فيما أمر الله، فهو قيام بما أمر الله، لا بما أمر الخليفة، ومن هنا لم يكن للسلطان أن يجبر الناس على قواعد معينة يضعها لهم، إلا في حالة واحدة هي ما جعل الله له أن يقوم به برأيه واجتهاده.
والله تعالى أعلم
---------------
منقول