الحاجة الفاضلة ام احمد (ست الاخوة موسى عليان) ، كنز صفافي ومرجعية لكل باحث عن تاريخ القرية منذ الانتداب البريطاني الى يومنا هذا ولحسن الحظ انها تملك ذاكرة ذهبية ، لدرجة انها اعتادت على المقابلات الصحافية الاجنبية والعربية ،
قررت ان استفتح مشروعي الآني في توثيق العرس الصفافي وموروثاتنا الشعبية في قرية بيت صفافا بأول زيارة ميدانية عند الحاجة (سِتْ لِخوة) كما نلفظها باللهجة المحكية ، سميت بهذا الاسم نسبة لجدتها ويبدو ان جدتها كانت وحيدة بين مجموعة اخوة ذكور ، ست لخوة كفيلة ان تجذبك بحديثها فتنسى معها كل الحاضر فتعيش الماضي بكل تفاصيله واصالته لمهارتها واسلوبها الجذاب في السرد ،ليس بمقدورك الا ان توظف كل جوارحك معها حتى لا تضيع معلومة هنا او هناك ، واحيانا تتشعب المواضيع والمداخلات لتكتشف انك تحتاج الجلوس معها عدة لقاءات وكل لقاء يمكن ان ينبثق منه عدة مقابلات ، لن تبخل عليك بأي معلومة بل وتعطيك كل شي وزيادة .
خلال لقائي معها سألتها عن تفاصيل خِطبتها وزفافها لمعرفتي السابقة بأن لها حكاية تستحق تسليط الضوء عليها لأنها مرتبطة بشريط الحدود الذي قسم قريتنا الى قسمين هلم ال ٤٨ ، قسم أحتل عام ال 48 والاخر تم احتلاله عام 67 والذي سلطتُ الضوء عليه سابقا في سلسلة (بيت صفافا بين عامي 48-67) ،
زواج ست لخوة كان زواج بين دولتين وجنسيتين والعريس ابن خالها .
- خرفيني يا حجة عن خطبتك.
-يا بيييه شو بدي اخرفتش لأخرفتش
سندتْ حالها الحاجة (ست الاخوة ) وضبطت جلستها لتقول حكايتها بكل اريحية لعل الذاكرة تنشط معها اكثر فأكثر، وهذا مطلبي ..
- خطبتْ يا بنيتي قبل ما يدخلوا اليهود في ال 47 ، كان عمري اقل من 15 سنة ، اجا خالي حسن وقال لأمي : بدي ست لخوة لابني ابراهيم ،
وعشان خالي ابراهيم اخوها الوحيد قالتله سوي زي ما بدك يا خوي والله ما بزعلك ، على بركة الله ..
والله يا ام طارق لا انا نقّيت العريس ولا هو نقّاني ، الاخوة اتفقوا واحنا نفذنا .
لا لبّسوني ذبلة ولا خاتم ولا ثوب جديد ولا قعدوني على لوج ، جابوا هالخروف ذبحوه وطبخوه وأكلوه . و100 ليرة اردني دفعهن خالي فيد (مهر) وامي اخذتهن وراحت خطبت فيهن بنت خالتي خديجة لأخوي ابراهيم .
وبلا طولة سيرة دخلوا اليهود في ال 48 على البلد وانا اسعانت (ما زلت) خاطبة واحتلوا نص البلد وانقسمت البلد قسمين نص مع اليهود ونص خلوه مع الاردن ، دار ابوي كانت في قسم الاسرائيلي ، وخالي رغم انه بيته في قسم الاسرائيلي معنا بس رفض يظل تحت حكم اليهود ، حمل عيلته ورحل على بيت لحم قبل ما ينصبوا الشريط .
وصار خطيبي في دُولة وانا في دُولة ، وفي ال 49 صاروا الناس يطلبوني لقلة البنات في القسم المحتل ، إمي وَدّت خبر لاخوها من ورى الشريط مع اختي ام يوسف ( كان الشريط جهة دار صافي بنص البلد مش عالي وكنا احيانا نلتقي بالخفية عن الجيش ) قالتلها : خبري خالك على لساني ان الست الاخوة قاعدين الشباب بطلبوها وانا مش عارفة شو اسوي ،
عندما عرف خالي بالخبر جنّ جنونه وارسل خبر بأنه سيقوم باللازم وسوف يتم نقل الست الاخوة للجانب الاخر ليتم زواجها على خطيبها مهما كلّف الامر .
وتم الاتفاق سرا مع ضابط اردني على غض الطرف وتمريري من ناحية الشريط المنخفض الى القسم الاخر وتم دفع ضريبة عبور في قسم البصة في بيت لحم وتسجيلي هناك كمواطنة جديدة .
سكتت الست الاخوة ثم عادت لتسرد روايتها كأنها تعيشها اليوم بكل تفاصيلها : ما كانش عندي قرايب أسكن عندهم في بيت لحم ليحين وقت عرسي غير ابن عمي ومرته (عيسى برهوم) ظليت عندهم 15 يوم لحد ما تزوجت . ويوم عرسي زفوني على الشريط في البلد عشان اهلي يحضروا الزفة ووصلوني عند دار سيدي (دار مازن عليان) اقضي هناك انا وعريسي كم يوم ، وانتقلنا انا وزوجي بعدها لدار حماي في بيت لحم ،دار حماي كانت مجرد غرفة وحدة ساكنين فيها عشر تنفار (افراد) سيد وست جوزي ، وحماي وحماتي واسلافي وانا وابو احمد .
بعد كل فصل من فصول حياتها كانت ام احمد تسكت هنيهة وتكرر جملتها :
شو بدي اخرفتش لأخرفتش ، وتنهيدة عميقة كأنها تتصعد من اعماق روحها :
والله يا ام طارق لما بتذكر هذيك الايام احيانا بصير اعيط وبستغرب كيف كنا نتحمل كل هالعيشة ، في اول الخمسينات سافر زوجي للكويت كنت انا مخلفة ابني البكر احمد ، صار عمر احمد ست سنوات وهو ما يعرف ابوه ولا شافه لحد ما سافرت انا عنده وكان احمد بالصف الاول ، سنوات قضيتها في بلد بعيدة عن اهلي غريبة في بيت لحم بعرفش حدا في غرفة وحدة مع عيلة كبيرة . لا كنت اشوف امي ولا حدا من اهلي ، ماتت امي وانا في الكويت وما شبعت منها ، ما انا طلعت من عندها يا كشيلي وانا بنت خمستعشر سنة ، في هذه اللحظة كانت تجلس بجانبي ام احمد الطفلة المحتاجة لحنان والدتها التي لم تشبع من حضنها ، فضممتها ودعوت لها بالصحة والسعادة وبعض كلمات الشكر لهذه الجلسة الثمينة .
قصة ست لَخوة واحدة من آلاف القصص التي كانت وليدة النكبة والنكسة وما زالت تتكرر منذ ٦٧عاما من الاحتلال ربما لن تصل الينا وستبقى طي ثنايا القلوب والتنهيدات .
— مع ست لخوة احسن واحدة ستتي العزيزة.