المشي إلى الوراء
كان يواصل سيره مطرقا رأسه إلى الأرض، ممسكا بيده طفله الصغير الذي يجر معه دبا من القطن البني. يتحسسه الصبي بين الفينة و الأخرى و يطوف بعينين لماعتين في ما حوله . منذ وصوله إلى هذه القرية و هو يختفي من اوجاع تتعدد ، يعرف أين تسير به خطاه و يدري انه هارب من وجع يطحنه إلى وجع لا يقل شراسة!
كان الصبي نحيف القد ممشوقا، يمص سبابته كأنه بذلك يستعيد حنانا ضيعه، يعتصر الطفل دبه عصرا ليظل به لصيقا ... . يتوقف الصبي ممتعضا و يسأل والده:"ابي. .إلى متى سنظل هكذا على الطريق؟ ثم أنا اشتقت لأمي! " نهره أبوه بلطف لا يخلو من حدة و سول له الاستقبال الذي سيحضى به عندما يصل إلى حضن الجدة التي لم تره بعد. .سافر قبل خمسة أعوام ينشد الرزق و السيارة الفخمة ، هناك تلقفته الحانات و المقاهي و تحول البائع المتجول في قريته البعيدة إلى بائع مخدرات بالمدينة التي لا تنام و لا تغرق في العتمة. لعب الورق و النساء و لم تثنه المخاطر التي تحف بحياته من كل صوب.
أمه البعيدة كانت تتباهى بنجاحاته و بالحوالات التي تصل عبر البريد و غيره؛ فتحول قتامة شبابها شيخوخة مترفة ؛ تخبر جيرانها أنه يحمل هذه البطاقات المذهبة التي تنجب ورقا نقديا حال ولوجها الثقب في الحائط .
مشى سيرا على الأقدام منذ غادر سيارة الأجرة وسط القرية و عليه الآن شق هذه المسارب التي طالما سلكها صغيرا . تهتز أقدامه بعصبية تذكره بالصبى الدامي على حافات الشوك في الشوارع ... ينظر يمنة يقابله شجر الصبار بشوكه ساخرا من سرواله الجينز وحذائه الامع، مال علىى طفله و حدثه في همس:"هذا المسرب شهد صراخي و الرفاق في غدونا و رواحنا أيام الدراسة، كانت الكلاب الضالة تنبح فتمزق اردية الفجر و المساء و تجعل أصواتنا في الحلق تموت، نتسلح بحجر و ما شابه! توقف برهة عن الحديث ثم تابع :" ويل للذي يعوق الموعد و يشق هذا الخلاء وحيدا!" لم يبتسم و هو يهمس لابنه بهذا. احرقته دمعة ندم و هو يعود بابنه ذي الأربع سنوات ليسلك به نفس المسلك سيرا على الأقدام بعد أن كان اسفلت باريس لا يعرف للصغير خطى.. .
مسح على صوته نبرة الأنين التي شابته و أعاد شد يد الطفل من جهة و شد سرواله من الجهة الاخرى، تأكد من ثبات البنطلون على الخصر علامة رجولة لا تنكسر.
فكر بأمه التي سيصيبها الفرح لرؤيته و يغمى عليها. .. ابتسم ببلاهة و تمتم أنها لا تقوى على الفرح و لا على الترح ..غالبا ما تخور قواها و تسقط أرضا من وقع الصدمة. ..لكنه يهاب في الآن ذاته تلك العيون السائلة عن هذا الصغير الذي لا يشبه أحدا في القرية و عن هذا المترجل الذي طالما زمجرت تحت دواساته المحركات! عائد هو بيد فارغة إلا من الصبي و شوق عارم لطوق نجاة من هؤلاء الذين طاردوه و حصدوا أنفاس زوجته انتقاما لصفقة خاسرة!
-------
فتحية داب