وصار رجلاً ..............
في مركز الملاحظة حيث ينتظر الأحداث الذين يقرر القاضي توقيفهم قبل صدور الحكم النهائي.. كان هناك رجلاً صغيراً يجلس والدموع تترقرق في عينيه دون أن يسمح لها بالخروج.. طمأنته وشددت من أزره فأومأ برأسه شاكرا ، ثم أعطاني رسالة صغيرة رجاني أن أسلمها لوالده ومعها العنوان .
حملت الرسالة وخرجت من المركز أتألم لألمه ، أتساءل بيني وبين نفسي عن فحوى الرسالة.
خلته يخاطب والده، تردد صوته في أعماقي، توقعته يقول له :
ـ والدي العزيز ..
عندما أتيت بنا إلى هذا العالم كنت أنانياً، أنجبتنا إلى الحياة، ثم نزعت الحياة من قلوبنا.
صبرت أمي وتحملتك من أجل عيوننا، لكنك تماديت في غيّك وفي ضلالك. أكلتها لحماً ورميتها عظماً، ورحت تطلب منها أن تدوس على كرامتها وكبريائها ، وتعيش معك مذلولة كسيرة .
ولأن مشاعرنا كانت صادقة واضحة ، فهي لم تقبل التفاوض ولا المساومة ، قلنا كلمتنا الحرة ، وقلت فينا كلمتك .
تعال يا والدي.. سآخذك معي في رحلة إلى أيام مضت ، فعلى الرغم من عدم كمال حياتنا وإهمالك لنا ، إلا أن السعادة كانت تغمرني ، وأنا أنعم بأسرة جميلة مترابطة ، يجمعها بيت واحد ، فأشعر أنني في جنة تجري فيها أنهار العسل.
كنت أرسل أذني إلى زقزقة العصافير ، أقفز إلى أشجاري التي تناطح السحاب .
كانت لدينا شمس تسطع وفراشات تطير ، كان عندما حقل يموج وزهور تميل ، وبلابل تغرد ، وسنابل ترقص .
تعال وانظر بعينيَّ هاتين إلى أحلامي التي تركتُها في عالمي الوردي.. لقد نسيتُها هناك فهل لك أن تجلبها لي ؟!
في داخلي حديقة غنَّاء رعتها أمي خير رعاية ، سقتها بتعب وسهر على أمل أن تكبر الأشجار وتنضج الثمار ، لكنك أحرقتها.
وفي روحي جنة من الوداعة والحب والسلام ، لكنك أخرجتني منها، فغادرتُها مرغماً إلى نار الحقد والبغض والانتقام .
راقب الآن زهور الياسمين وهي ترمي نفسها منتحرة إلى الأرض، لتذبل وتموت وتدوسها الأقدام .
تعال يا والدي لتشاهد ما جنته يداك .. تعال لتشهد على عذاب الورود وموت الياسمين .
تعال لتودع معي جنة تحولت إلى صحراء قاحلة وأرض جرداء .
تعال لتنعي أشجاري الخضراء وقد تحولت إلى أغصان يابسة.. تعال فأنت لم ترني منذ سنين.. ستجدني قد نضجت.. لا تستغرب كلامي ، إذ ليس النضوج في أن تتزوج وتنجب الأطفال . فكم من شباب يتزوجون وينجبون ويكبرون فقط بأجسادهم دون أن ينضجون.. فالنضوج يا والدي يعني أن تتحمل مسؤولية رعيتك ، وواجب ألقي على عاتقك .
هو ذلك الشعور برغبة في إسعاد من حولك حتى ولو كان على حساب نفسك .
الرجولة ليست صوتاً يثخن ، وشارباً يطول ، وجسداً يكتمل .. بل هي استيعاب لفحوى المهمة ، وإدراك لأهمية الاكتشاف بأنك أخطأت في حق من تحب..
الرجولة أن تعترف بخطأ فعلته ، أن تعتذر عن ذنب اقترفته ، وجرح سببته ..
لا أن تعلق أخطاءك على شماعة الآخرين .
هل سألت نفسك يوماً وأنت تنظر في مرآتك لتراقب تفاصيل جسدك ، إن كنت قد أصبحت رجلاً؟!..
إن كانت الإجابة نعم.. فاسمح لي يا والدي العزيز أن أخبرك بأن مرآتك قد خدعتك وضللتك ، وبأنها لا تقول الحقيقية .
هل تدري يا والدي؟! .. لقد ناديتك كثيراً ولكنك لم تسمعني ، صرختُ مستغيثاً ولكنك قررت أن تعطّل حواسك ، فلا تسمع ولا ترى ولا تتكلم .
أنا لم أرغب في أن أكون قاتلاً ، ولم أكن كذلك .
عملت ما بوسعي كي لا أنحرف كما انحرف غيري من الأحداث ، فسلكوا طريق الجنوح . استجبت لنداء عقلي وابتعدت عن الطريق المشبع بالظلمة، رغم انهيار كيان الأسرة التي شَرَّدها تصرفك اللامسؤول ،ورغم الضغوط .
حلمت كثيراً في استكمال تعليمي وشق طريقي إلى النجاح ، تمنيت لو أستطيع تحقيق آمال أمي لتكون فخورة بي.. حاولت مساعدة أخوتي لينجحوا ويتفوقوا فتسعد أمي بهم وتخرج من كآبتها وعزلتها..
تمنيت أن أعوضها عن كل السنوات المرة ، لكنني فقدت كل شيء..
ألقيتُ في بحر هائج بعد أن جُردت من ملابسي ومجذافي وقاربي ، وحتى يداي التي أسبح بها..
قُطِّعتْ أوصالي ورُميت وسط الأمواج لتتقاذفني هنا وهناك كلعبة مكسورة ملَّتها طفلة صغيرة.. فغرقت.. ثم طفتُ على مياه المحيط بلا أطراف .
بقيت هكذا لوقتٍ طويل أنتظر من يدفنني ، من يحملني إلى مقبرتي بسلام . نعتوني بالمجرم ، نادوني بالقاتل ، لكنهم نسوا القاتل الحقيقي يسرح ويمرح . زجوني في سجن أسموه مركز الملاحظة ، وتركوا القاتل يرتع خارجاً ، وقد ارتكب الجريمة بحق الكثيرين .
قتل أسرته ، قادها إلى وكر للثعابين ، ألقى بها هناك ، وقفل راجعاً وكأن شيئاً لم يكن ليعيش حياته بشكل طبيعي من دون أن يؤنبه الضمير ، أو يعذبه الشعور بالخطيئة .
رفضوا أن يصدقوني ، قلت لهم بأنني لم أذنب ، ولم أقتل.. أفشيت لهم السر الذي يخنقني ، أرشدتهم إلى القاتل الفعلي ، دللتهم عليك ، لكنهم لم يستجيبوا لي..
إن الإنسان في هذه الحياة يولد ليؤدي رسالته بصدق وأمانة وإخلاص لأنه سيُسأل يوماً ، سيقف أمام محكمة الآخرة .
لذلك فأنا لست خائفاً أبداً ، فحقوقي وحقوق أمي وأخوتي لن تضيع.. الآلام لها ثمنها، والدموع لها ديَّتها ، والعذاب الذي لقيناه ستلقى أضعاف أضعافه .
وستموت في يوم من الأيام ، سيرحل جسدك إلى العالم الآخر محملاً بالذنوب ، مضرَّجاً بالخطايا .
ستتعفن جثتك ، وسيسعى إليك ملك الموت حينما يُتلى عليه اسمك لتنضم إلى قافلة الموتى ، ولكنه سيدُهش ... لأنه سيتذكر أنه قد قبض روحك منذ زمن طويل ، لأن قلبك كان قاسياً كالصخر ، وعيونك مغمضة لا تُفتح ، وحواسك معطَّلة ، وشعورك جامداً لم يتحرك قط .
سيعلن موتك للمرة الثانية ، ثم تعود وتحيا للمثول أمام محكمة الآخرة ، وستخسر أمام خالقك بعد أن تُردَّ جميع حججك ومبرراتك .
ستخلد في جهنم نادماً ، وستدرك عندها كم أخطأت.. ستندم يا والدي يوم لا ينفع الندم .
هاأنا ذا أدفع ثمن عثراتك ، أسدد ديونك ، ولا ذنب لي في هذه الدنيا سوى أنني كنت إبنك..
سأدفع الثمن مرغماً مهاناً مكسور الفؤاد ، سألقى مصيري المحتوم ، وسأكف عن النداء .
لن أرجوهم أن يبحثوا عنك ، ويضعوك مكاني ، فقد بدأت أعتاد المكان .
إن كنت تقرأ كلماتي الآن ، إذاً فقد وصلتك رسالتي ، ووصلتك صورك الممزَّقة .. فلتأخذها وترحل..
لتبقى بعيداً عن عالمنا النظيف ، فأنت لا تنتمي إليه ، ولا نحن ننتمي إليك .. لتبقى غارقاً في الوحل ، ولتأخذ صورك وبقايا أشلائك من نفوسنا.. ولكن إياك أن تترك هنا شيئاً لك ، فما نسيناه لا نريد تذكره .
ولتذرف الآن دموع الندم ، فما فات لا يعود ، وما ذهب لن يرجع ...
قصة : وصار رجلاً .. من مجموعتي القصصية نسائم ملوثة
--------
فاتن ديركي