أحاول جاهدا أن لا أفعل
تقدم المحامي الشاب من المنصة بعد أن وضع المعطف والقبعة مكانه. وتظاهر بتعديل هيأته كي يتجنب النظر في عيني القاضي. والتفت يمنة ويسرة، لكنه لم ير مما حوله شيئا. حاول أن يجمع أي مفردات ذات معنى على لسانه الذرب، فلم يجد. وفجأة باغته القاضي بسؤال ضاعف ارتباكه وحيرته:"هذه أول مرة تقف فيها أمام هذه المنصة، أليس كذلك؟" عندها أسقط في يدي صاحبنا، فتمتم بصوت كالفحيح: "نعم سيدي القاضي .. ولكن كيف عرفت؟" فرد القاضي متهكما: "لأنك وضعت معطفك بعيدا عن ناظريك."
لم يتعلم المحامي الشاب في كتب القانون التي حفظها عن ظهر وعي أن دار العدالة أفضل مكان للسرقة، وأن كفتي الميزان ليستا صارمتين كما يجب، وأن الأحكام لا تيمم رأسها دوما نحو الحق أو الحقيقة، وأن قسطا لا يستهان به من المواد والأحكام تظل حبيسة الرفوف والأدراج والعقول، وأن الواقع أكثر خبرة من قاعات الدرس، وقبحا من ياقات أساتذة الحقوق البيضاء.
لا تكذب القوانين ولا تجامل، لكنها تظل طيعة وقابلة للتشكيل والتحريف والتأويل. وهو ما يدفع بعض السذج الطيبين كأمثال "لورد مانسفيلد" إلى رفع أياديهم وعقائرهم أحيانا في ساحة القضاء، اعتراضا على أحكام رجال من أمثال القاضي "داننج": "لو كان هذا هو القانون سيدي، فسأذهب من فوري لأحرق كل الكتب التي أضعها فوق رفوف خزانتي." لم يعرف مانسفيلد الطيب أنه حفظ متن الكتب ولم يقرأ التأويل الذي منه تخرج كل شياطين الأحكام جيدا، ولم يدرك الرجل أن الواقع القضائي فضفاض إلى حد تختلط فيه الألوان والنسب والمعطيات. وهو ما جعل "داننج" يرد عليه بكل تبجح: "لا تحرقها، ولكن عد إلى بيتك واقرأها مرة أخرى."
يقرأ القاضي القانون فيفهمه كيفما يشاء، ويقرأه المحامي، فيهمه كما يريد. ويأتي المحلفون ورؤساء النيابة، ليمارسوا دورهم غير المتناسق في المط واللي والتحريف، فينزل النص في غير موضعه، فيساق الطيبون إلى غياهب السجون سوقا، ويخرج المنحرفون والمجرمون وقطاع الطرق من أرحام السجون ليمارسوا أدوارهم الشيطانية في إفساد الحياة بعد إصلاحها، فإذا رفعت عقيرتك منددا بحكم تراه ويراه الناس جائرا، أتاك صوت "داننج" من أعماق نيويورك "عد إلى بيتك واقرأ كتب القانون أولا."
كذبت كتب القانون ولو صدقت أيها المتشبثون بالحواشي والمتون، وكذبت تخرصات تأتي بشمس الحقائق من مغاربها لتعرضها في بلاط العدل شاحبة باهتة حتى لا يتعرف عليها أصحابها. لا أعترض هنا بالطبع على أحكام القضاء، ولكنني أطالب بتحكيم القضاء ليأمن الناس على مصالحهم وذراريهم. أطالب هنا بتأميم المحاكم التي خصخصتها المطامع والمصالح والشهوات حتى تقف كفتا الميزان في مستوى واحد بين يدي قضاة لا يخشون في الحق لومة حاكم.
أطالب بإخراج دور العدالة من معادلات الأحزاب والفرق والجماعات ليخلع الناس عندها أحذيهم ومعاطفهم وقبعاتهم دون خوف من سرقة أو تأويل أو تحريف. وإلا عمد الناس إلى كتب القانون فأحرقوها، وإلى الدساتير فازدروها، وإلى دور العدالة فسرقوها. يحكي أن "ستيفنز" استشاط غضبا ذات يوم من حكم جائر أصدره قاض في إحدى محاكم بنسلفانيا، فألقى كتبه، والتقط قبعته، وظل يلتفت يمنة ويسرة وهو يصب اللعنات على الدساتير والأحكام، فاستوقفه القاضي قائلا: "تريد أن تعبر عن ازدرائك لهيئة المحكمة الموقرة؟" فما كان من "ستيفنز" إلا أن رد قائلا: "لا يا سيدي، أحاول جاهدا أن لا أفعل."
عبد الرازق أحمد الشاعر
تقدم المحامي الشاب من المنصة بعد أن وضع المعطف والقبعة مكانه. وتظاهر بتعديل هيأته كي يتجنب النظر في عيني القاضي. والتفت يمنة ويسرة، لكنه لم ير مما حوله شيئا. حاول أن يجمع أي مفردات ذات معنى على لسانه الذرب، فلم يجد. وفجأة باغته القاضي بسؤال ضاعف ارتباكه وحيرته:"هذه أول مرة تقف فيها أمام هذه المنصة، أليس كذلك؟" عندها أسقط في يدي صاحبنا، فتمتم بصوت كالفحيح: "نعم سيدي القاضي .. ولكن كيف عرفت؟" فرد القاضي متهكما: "لأنك وضعت معطفك بعيدا عن ناظريك."
لم يتعلم المحامي الشاب في كتب القانون التي حفظها عن ظهر وعي أن دار العدالة أفضل مكان للسرقة، وأن كفتي الميزان ليستا صارمتين كما يجب، وأن الأحكام لا تيمم رأسها دوما نحو الحق أو الحقيقة، وأن قسطا لا يستهان به من المواد والأحكام تظل حبيسة الرفوف والأدراج والعقول، وأن الواقع أكثر خبرة من قاعات الدرس، وقبحا من ياقات أساتذة الحقوق البيضاء.
لا تكذب القوانين ولا تجامل، لكنها تظل طيعة وقابلة للتشكيل والتحريف والتأويل. وهو ما يدفع بعض السذج الطيبين كأمثال "لورد مانسفيلد" إلى رفع أياديهم وعقائرهم أحيانا في ساحة القضاء، اعتراضا على أحكام رجال من أمثال القاضي "داننج": "لو كان هذا هو القانون سيدي، فسأذهب من فوري لأحرق كل الكتب التي أضعها فوق رفوف خزانتي." لم يعرف مانسفيلد الطيب أنه حفظ متن الكتب ولم يقرأ التأويل الذي منه تخرج كل شياطين الأحكام جيدا، ولم يدرك الرجل أن الواقع القضائي فضفاض إلى حد تختلط فيه الألوان والنسب والمعطيات. وهو ما جعل "داننج" يرد عليه بكل تبجح: "لا تحرقها، ولكن عد إلى بيتك واقرأها مرة أخرى."
يقرأ القاضي القانون فيفهمه كيفما يشاء، ويقرأه المحامي، فيهمه كما يريد. ويأتي المحلفون ورؤساء النيابة، ليمارسوا دورهم غير المتناسق في المط واللي والتحريف، فينزل النص في غير موضعه، فيساق الطيبون إلى غياهب السجون سوقا، ويخرج المنحرفون والمجرمون وقطاع الطرق من أرحام السجون ليمارسوا أدوارهم الشيطانية في إفساد الحياة بعد إصلاحها، فإذا رفعت عقيرتك منددا بحكم تراه ويراه الناس جائرا، أتاك صوت "داننج" من أعماق نيويورك "عد إلى بيتك واقرأ كتب القانون أولا."
كذبت كتب القانون ولو صدقت أيها المتشبثون بالحواشي والمتون، وكذبت تخرصات تأتي بشمس الحقائق من مغاربها لتعرضها في بلاط العدل شاحبة باهتة حتى لا يتعرف عليها أصحابها. لا أعترض هنا بالطبع على أحكام القضاء، ولكنني أطالب بتحكيم القضاء ليأمن الناس على مصالحهم وذراريهم. أطالب هنا بتأميم المحاكم التي خصخصتها المطامع والمصالح والشهوات حتى تقف كفتا الميزان في مستوى واحد بين يدي قضاة لا يخشون في الحق لومة حاكم.
أطالب بإخراج دور العدالة من معادلات الأحزاب والفرق والجماعات ليخلع الناس عندها أحذيهم ومعاطفهم وقبعاتهم دون خوف من سرقة أو تأويل أو تحريف. وإلا عمد الناس إلى كتب القانون فأحرقوها، وإلى الدساتير فازدروها، وإلى دور العدالة فسرقوها. يحكي أن "ستيفنز" استشاط غضبا ذات يوم من حكم جائر أصدره قاض في إحدى محاكم بنسلفانيا، فألقى كتبه، والتقط قبعته، وظل يلتفت يمنة ويسرة وهو يصب اللعنات على الدساتير والأحكام، فاستوقفه القاضي قائلا: "تريد أن تعبر عن ازدرائك لهيئة المحكمة الموقرة؟" فما كان من "ستيفنز" إلا أن رد قائلا: "لا يا سيدي، أحاول جاهدا أن لا أفعل."
عبد الرازق أحمد الشاعر