حقاً إنها تحفة....
يقول سري السقطي : سهرت ليلة من الليالي .. وقلقت قلقاً شديداً .. فلم أُطق الغمض مع ما حرمته من التهجد .. فلما صليت صلاة الصبح خرجت لا يقر لي قرار ، فوقفت في الجامع أستمع بعض القُصّاص ، لعلي أجد لقلبي راحة ، فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة ! فمضيت ووقفت ببعض الوعّاظ وجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة ! فقلت أمضي إلى بعض أطباء القلوب ومن يُدل المحبّ على المحبوب ، فمضيت فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة ! فقلت أمضي إلى أهل الشرطة أعتبر بمن يعاقب في الدنيا ، فمضيت ، فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة ! فقلت أمضي إلى المارستان (دار مرضى العقول) لعلي أتروع وأنزجر بمن ابتلى ، فلما ولجت المارستان وجدت قلبي قد انفسح ، وصدري قد انشرح ، وإذا أنا بجارية من أنضر الناس وجهاً ، عليها أطمار حسنة رفيعة ، وشممت منها رائحة عطرية ، عفيفة المنظر ، وسيمة الخطر ، وهي مقيدة الرجلين ، مغلولة اليدين .. فلما رأتني تغرغرت عيناها بالدموع ، وأنشأت تقول : أعيذك أن تغل يدي .. بغير جريمة سبقت تغل يدي إلى عنقي .. وما خانت وما سرقت وبين جوانحي كبد .. أحس بها قد احترقت وحقك يا منى قلبي .. يميناً برة صدقت فلو قطعتها قطعاً .. وحقك ، عنك ما رجعت قال السري – رضي الله عنه – فلما سمعت كلامها قلت لصاحب المارستان : ما هذه؟ قال : مملوكة اختل عقلها ، فحبسها مولاها ، لعلها تنصلح .. فلما تمّ كلام القيّم (صاحب المارستان) اغرورقت عيناها بالدموع ، ثم جعلت تقول : معشر الناس ، ما جُننت ولكن .. أنا سكرانة وقلبي صاحي أغللتم يدي ولم آت ذنباً .. غير جهدي في حبه وافتضاحي أنا مفتونة بحب حبيب .. لست أبغي عن بابه من براحي فصلاحي الذي زعمتم فسادي .. وفسادي الذي زعمتم صلاحي ما على من أحب مولى الموالي .. وارتضاه لنفسه من جناح قال السري : فسمعت كلاماً أقلقني وأشجاني ، وأحرقني وأبكاني ، فلما رأت دموعي قالت : يا سري ، هذا بكاؤك على صفته ، فكيف لو عرفته حق معرفته ؟ ثم أغمي عليها ساعة ، فلما أفاقت قالت : ألبستني ثوب وصل طاب ملبسه .. فأنت مولى الورى حقاً ومولائي كانت بقلبي أهواء مفرقة .. فاستجمعت ، مذ رأتك العين ، أهوائي من غص داوى بشرب الماء غصته .. فكيف يصنع من قد غُص بالماء قلبي حزين على ما فات من زللي .. والنفس في جسدي من أعظم الداء والشوق في خاطري مني وفي كبدي .. والحب مني مصون في سويدائي إليك مني قصدت الباب معتذراً .. وأنت تعلم ما ضمته أحشائي فقلت لها : يا جارية ، قالت : لبيك يا سري ، قلت : من أين عرفتني؟ قالت : ما جهلت مذ عرفت ، ولا فترت مذ خدمت ، ولا انقطعت مذ وصلت ، وأهل الدرجات يعرف بعضهم بعضاً . قلت : أسمعك تذكرني المحبة ، فمن تحبين؟ قالت : لمن تعرّف إلينا بنعمائه ، وجاء علينا بجزيل عطائه ، فهو قريب إلى القلوب ، مجيب لطلب المحبوب ، سميع ، بديع ، عليم ، حكيم ، جواد ، كريم ، غفور ، رحيم . فقلت لها : من حبسك ها هنا؟ قالت : حاسدون تعاونوا ، وتعاقدوا ، وتراسلوا . ثم شهقت شهقة حتى ظننت أنها فارقت الحياة ، ثم أفاقت وأنشدت تقول : قلبي أراه إلى الأحباب مرتاحاً .. سكران من راح حب ، بالهوى باحا يا عين جودي بدمع خوف هجرهم .. فرب دمع أتى للخير مفتاحا ورب عين رآها الله باكية .. بالخوف منا تنال الروح والراحا لله عبد جنى ذنباً فأحزنه .. فبات يبكي ويذري الدمع سفاحا مستوحش خائف مستيقن فطن .. كان في قلبه للنور مصباحاً فقلت لقيّم المارستان : أطلقها ، ففعل . فقلت : اذهبي حيث شئت ، قالت : يا سري ، إلى أين أذهب ، وما لي عنه مذهب ، إن حبيب قلبي قد سلكني لبعض مماليكه ! فإن رضي مالكي ذهبت ، وإلا صبرت واحتسبت . قلت : هذه والله أعقل مني . وبينما هي تخاطبني إذ دخل مولاها ، فقال للقيّم : أين تُحفة؟ قال : هي في الداخل ، وعندها سري السقطي رضي الله عنه ، ففرح ، ودخل ، وسلّم عليّ ورحّب بي ، وعظّمني .. فقلت له : هي أولى بالتعظيم منّي ، فما الذي تكره منها؟ قال : أمور كثيرة ، فهي لا تأكل ولا تشرب ، ذاهلة العقل ، مدهوشة اللب ، ولا تنام ولا تدعنا ننام ! كثيرة الفكرة ، سريعة القبرة ، ذات زفرة وحنين ، وبكاء وأنين ، وهي بضاعتي اشتريتها بكل مالي ، بعشرين ألف درهم ، وأمّلت أن أربح فيها مثل ثمنها ، لحسن صنعتها . قلت : وما صنعتها؟ قال : مطربة . قلت : ومذ كم كان بها هذا الداء ؟ قال : منذ سنة . قلت : وما كان بدؤه ؟ قال : بينما العود في حجرها وهي تغني وتقول : وحقك لا نقضت الدهر عهداً .. ولا كدرت بعد الصفو ودا ملأت جوانحي والقلب وجداً .. فكيف ألذ أو أسلو أو أهدأ فيا من ليس لي مولى سواه .. تراك تركتني في الناس عبدا ثم كسرت العود .. وقامت ، وبكت ، وانتحبت ، فاتهمتها بمحبة إنسان ! فكشفت عن ذلك فلم أجد له أثراً . فقلت لها : أهكذا كان الحديث ؟ فأجابتني بلسان طلق وقلب محترق ، وهي تقول : خاطبني الحق من جناني .. فكان وعظي على لساني قربني منه بعد بُعد .. وخصني الله واصطفاني أجبت لما دعيت طوعاً .. ملبياً للذي دعاني وخفت مما جنيت قدما .. فأوقع الحب بالأماني قال السري ، رضي الله عنه ، فقلت : على الثمن وأزيدك ، فصاح وقال : وافقراه ، من أين لك ثمن هذه الجارية وأنت رجل فقير؟! فقلت له : لا تعجل علي ، تكون في المارستان حتى آتي بثمنها .. ثم ذهبت باكي العين ، حزين القلب ، ووالله ما عندي من ثمنها درهم ، وبقيت طوال الليل أتضرع وأدعو الله عز وجل ، فلم أطعم غمضاً ، وأقول يا رب ، إنك تعلم سري وجهري ، وقد عوّلت على فضلك فلا تفضحني عند مالكها . وبينما أنا في المحراب ، وإذ ا بقارع يقرع الباب ، فقلت : من بالباب؟ قال : حبيب من الأحباب ، جاء في سبب من الأسباب ، بأمر الملك الوهاب . ففتحت الباب ، وإذا برجل معه أربعة غلمان وشمعة ، فقال : يا أستاذ أتأذن لي في الدخول ؟ فقلت : ادخل ، فدخل ، فقلت له : من أنت؟ قال أنا أحمد بن المثنى ، قد أعطاني من إذا أعطى لا يبخل بالعطاء . كنت الليلة نائم .. فهتف بي هاتف يقول احمل خمس بدرات (أكياس من المال) إلى السريّ تطيب بها نفسه ، ويشتري بها « تحفة » فإن لنا بها عناية . فسجدت لله شكراً على ما أولاني من نعمة ، وجلست أتوقع الفجر .. فلما صليت الصبح خرجت ، وأخذت بيد أحمد ، ومضيت به إلى المارستان ، فإذا الموكل بها يلتفت يميناً وشمالاً ، فلما رآني قال : مرحباً ، ادخل فإن لها عند الله عناية ، هتف بي البارحة هاتف ، وهو يقول : إنها منا ببال .. ليس تخلو من نوال قربت ثم ترقت .. وعلت في كل حال قال السري – رضي الله عنه – فلما رأتنا تحفة تغرغرت عيناها بالدموع ، وقالت : شهرتني بين المخلوقين .. ثم أنشأت تقول : قد تصبرت إلى أن .. يميل في حبك صبري ضاق من قيدي وغلي .. وامتهاني فيك ، صدري ليس يخفى عليك أمري .. يا منى سؤلي وذخري قال السري : فبينما نحن جلوس إذ دخل مولاها ، وهو باكي العين ، حزين القلب ، متغير اللون ، فقلت له : لا تبك ، فقد جئناك بما وزنت وربح خمسة آلاف . فقال : لا والله ، فقلت : ربح عشرة آلاف ، فقال : لا والله ، فقلت : وربح المثل ، فقال : لو أعطيتني الدنيا ما قبلت ، هي حرة لوجه الله تعالى . فقلت له : ما القصة؟ فقال : يا أستاذ وُبّخت البارحة ، أشهدك أني قد خرجت من جميع مالي هارباً إلى الله تعالى ، اللهم كن لي في السعة كفيلاً وبالرزق جميلاً . فالتفت إليّ ابن المثنى ، فرأيته يبكي ، فقلت له : ما يبكيك؟ فقال : كأن الحق ما رضيني لما ندبني إليه ، أشهدك أني قد تصدقت بجميع مالي لوجه الله . فقلت : ما أعظم بركة « تحفة » على الجميع . فقامت تحفة فنزعت ما كان عليها ، ولبست مدرعة من شعر ، وخرجت وهي تبكي ، فقلنا لها : قد أطلقك الله تعالى ، فما يبكيك؟ فأنشأت تقول : هربت منه إليه .. بكيت منه عليه وحقه هو مولى .. لا زلت بين يديه حتى أنا حظي وأحظى .. بما رجوت لديه قال : ثم خرجنا من الباب .. فلما سرنا في بعض الطريق طلبناها فلم نجدها . ومات ابن المثنى في الطريق ، ودخلت أنا ومولاها « مكة » ، فبينما نحن في الطواف إذ سمعت كلام مجروح من كبد مقروح وهو يقول : محب الله في الدنيا سقيم .. تطاول سقمه فدواه داه سقاه من محبته بكأس .. فأرواه المهيمن إذ سقاه فهام بحبه وسما إليه .. فليس يريد محبوباً سواه كذاك من ادعى شوقا إليه .. يهيم بحبه حتى يراه فتقدمت إليها ، فلما رأتني قالت : يا سري ، قلت : لبيك .. من أنت يرحمك الله ؟ قالت : لا إله إلا الله .. وقع التناكر بعد المعرفة ، أنا تحفة . فإذا هي كالخيال .. فقلت : يا تحفة ما الذي أفادك الحق بعد انفرادك عن الخلق ؟ قالت : آنسني بقربه ، وأوحشني من غيره . فقلت : مات ابن المثنى ، فقالت : رحمه الله ، لقد أعطاه مولاي من الكرامات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وهو بجواري في الجنة . فقلت : جاء معي مولاك الذي أعتقك ، فدعت بدعاء خفي ، فلم يكن أسرع ما عاينتها تلقاء الكعبة ميتة .. فلما نظرها سيّدها لم يتمالك أن سقط على وجهه ، فحركته ، فإذا هو قضى نحبه ، فأخذت في جهازهما ، ودفنهما ، رحمة الله عليهما .
روض الرياحين لليافعي
يقول سري السقطي : سهرت ليلة من الليالي .. وقلقت قلقاً شديداً .. فلم أُطق الغمض مع ما حرمته من التهجد .. فلما صليت صلاة الصبح خرجت لا يقر لي قرار ، فوقفت في الجامع أستمع بعض القُصّاص ، لعلي أجد لقلبي راحة ، فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة ! فمضيت ووقفت ببعض الوعّاظ وجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة ! فقلت أمضي إلى بعض أطباء القلوب ومن يُدل المحبّ على المحبوب ، فمضيت فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة ! فقلت أمضي إلى أهل الشرطة أعتبر بمن يعاقب في الدنيا ، فمضيت ، فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة ! فقلت أمضي إلى المارستان (دار مرضى العقول) لعلي أتروع وأنزجر بمن ابتلى ، فلما ولجت المارستان وجدت قلبي قد انفسح ، وصدري قد انشرح ، وإذا أنا بجارية من أنضر الناس وجهاً ، عليها أطمار حسنة رفيعة ، وشممت منها رائحة عطرية ، عفيفة المنظر ، وسيمة الخطر ، وهي مقيدة الرجلين ، مغلولة اليدين .. فلما رأتني تغرغرت عيناها بالدموع ، وأنشأت تقول : أعيذك أن تغل يدي .. بغير جريمة سبقت تغل يدي إلى عنقي .. وما خانت وما سرقت وبين جوانحي كبد .. أحس بها قد احترقت وحقك يا منى قلبي .. يميناً برة صدقت فلو قطعتها قطعاً .. وحقك ، عنك ما رجعت قال السري – رضي الله عنه – فلما سمعت كلامها قلت لصاحب المارستان : ما هذه؟ قال : مملوكة اختل عقلها ، فحبسها مولاها ، لعلها تنصلح .. فلما تمّ كلام القيّم (صاحب المارستان) اغرورقت عيناها بالدموع ، ثم جعلت تقول : معشر الناس ، ما جُننت ولكن .. أنا سكرانة وقلبي صاحي أغللتم يدي ولم آت ذنباً .. غير جهدي في حبه وافتضاحي أنا مفتونة بحب حبيب .. لست أبغي عن بابه من براحي فصلاحي الذي زعمتم فسادي .. وفسادي الذي زعمتم صلاحي ما على من أحب مولى الموالي .. وارتضاه لنفسه من جناح قال السري : فسمعت كلاماً أقلقني وأشجاني ، وأحرقني وأبكاني ، فلما رأت دموعي قالت : يا سري ، هذا بكاؤك على صفته ، فكيف لو عرفته حق معرفته ؟ ثم أغمي عليها ساعة ، فلما أفاقت قالت : ألبستني ثوب وصل طاب ملبسه .. فأنت مولى الورى حقاً ومولائي كانت بقلبي أهواء مفرقة .. فاستجمعت ، مذ رأتك العين ، أهوائي من غص داوى بشرب الماء غصته .. فكيف يصنع من قد غُص بالماء قلبي حزين على ما فات من زللي .. والنفس في جسدي من أعظم الداء والشوق في خاطري مني وفي كبدي .. والحب مني مصون في سويدائي إليك مني قصدت الباب معتذراً .. وأنت تعلم ما ضمته أحشائي فقلت لها : يا جارية ، قالت : لبيك يا سري ، قلت : من أين عرفتني؟ قالت : ما جهلت مذ عرفت ، ولا فترت مذ خدمت ، ولا انقطعت مذ وصلت ، وأهل الدرجات يعرف بعضهم بعضاً . قلت : أسمعك تذكرني المحبة ، فمن تحبين؟ قالت : لمن تعرّف إلينا بنعمائه ، وجاء علينا بجزيل عطائه ، فهو قريب إلى القلوب ، مجيب لطلب المحبوب ، سميع ، بديع ، عليم ، حكيم ، جواد ، كريم ، غفور ، رحيم . فقلت لها : من حبسك ها هنا؟ قالت : حاسدون تعاونوا ، وتعاقدوا ، وتراسلوا . ثم شهقت شهقة حتى ظننت أنها فارقت الحياة ، ثم أفاقت وأنشدت تقول : قلبي أراه إلى الأحباب مرتاحاً .. سكران من راح حب ، بالهوى باحا يا عين جودي بدمع خوف هجرهم .. فرب دمع أتى للخير مفتاحا ورب عين رآها الله باكية .. بالخوف منا تنال الروح والراحا لله عبد جنى ذنباً فأحزنه .. فبات يبكي ويذري الدمع سفاحا مستوحش خائف مستيقن فطن .. كان في قلبه للنور مصباحاً فقلت لقيّم المارستان : أطلقها ، ففعل . فقلت : اذهبي حيث شئت ، قالت : يا سري ، إلى أين أذهب ، وما لي عنه مذهب ، إن حبيب قلبي قد سلكني لبعض مماليكه ! فإن رضي مالكي ذهبت ، وإلا صبرت واحتسبت . قلت : هذه والله أعقل مني . وبينما هي تخاطبني إذ دخل مولاها ، فقال للقيّم : أين تُحفة؟ قال : هي في الداخل ، وعندها سري السقطي رضي الله عنه ، ففرح ، ودخل ، وسلّم عليّ ورحّب بي ، وعظّمني .. فقلت له : هي أولى بالتعظيم منّي ، فما الذي تكره منها؟ قال : أمور كثيرة ، فهي لا تأكل ولا تشرب ، ذاهلة العقل ، مدهوشة اللب ، ولا تنام ولا تدعنا ننام ! كثيرة الفكرة ، سريعة القبرة ، ذات زفرة وحنين ، وبكاء وأنين ، وهي بضاعتي اشتريتها بكل مالي ، بعشرين ألف درهم ، وأمّلت أن أربح فيها مثل ثمنها ، لحسن صنعتها . قلت : وما صنعتها؟ قال : مطربة . قلت : ومذ كم كان بها هذا الداء ؟ قال : منذ سنة . قلت : وما كان بدؤه ؟ قال : بينما العود في حجرها وهي تغني وتقول : وحقك لا نقضت الدهر عهداً .. ولا كدرت بعد الصفو ودا ملأت جوانحي والقلب وجداً .. فكيف ألذ أو أسلو أو أهدأ فيا من ليس لي مولى سواه .. تراك تركتني في الناس عبدا ثم كسرت العود .. وقامت ، وبكت ، وانتحبت ، فاتهمتها بمحبة إنسان ! فكشفت عن ذلك فلم أجد له أثراً . فقلت لها : أهكذا كان الحديث ؟ فأجابتني بلسان طلق وقلب محترق ، وهي تقول : خاطبني الحق من جناني .. فكان وعظي على لساني قربني منه بعد بُعد .. وخصني الله واصطفاني أجبت لما دعيت طوعاً .. ملبياً للذي دعاني وخفت مما جنيت قدما .. فأوقع الحب بالأماني قال السري ، رضي الله عنه ، فقلت : على الثمن وأزيدك ، فصاح وقال : وافقراه ، من أين لك ثمن هذه الجارية وأنت رجل فقير؟! فقلت له : لا تعجل علي ، تكون في المارستان حتى آتي بثمنها .. ثم ذهبت باكي العين ، حزين القلب ، ووالله ما عندي من ثمنها درهم ، وبقيت طوال الليل أتضرع وأدعو الله عز وجل ، فلم أطعم غمضاً ، وأقول يا رب ، إنك تعلم سري وجهري ، وقد عوّلت على فضلك فلا تفضحني عند مالكها . وبينما أنا في المحراب ، وإذ ا بقارع يقرع الباب ، فقلت : من بالباب؟ قال : حبيب من الأحباب ، جاء في سبب من الأسباب ، بأمر الملك الوهاب . ففتحت الباب ، وإذا برجل معه أربعة غلمان وشمعة ، فقال : يا أستاذ أتأذن لي في الدخول ؟ فقلت : ادخل ، فدخل ، فقلت له : من أنت؟ قال أنا أحمد بن المثنى ، قد أعطاني من إذا أعطى لا يبخل بالعطاء . كنت الليلة نائم .. فهتف بي هاتف يقول احمل خمس بدرات (أكياس من المال) إلى السريّ تطيب بها نفسه ، ويشتري بها « تحفة » فإن لنا بها عناية . فسجدت لله شكراً على ما أولاني من نعمة ، وجلست أتوقع الفجر .. فلما صليت الصبح خرجت ، وأخذت بيد أحمد ، ومضيت به إلى المارستان ، فإذا الموكل بها يلتفت يميناً وشمالاً ، فلما رآني قال : مرحباً ، ادخل فإن لها عند الله عناية ، هتف بي البارحة هاتف ، وهو يقول : إنها منا ببال .. ليس تخلو من نوال قربت ثم ترقت .. وعلت في كل حال قال السري – رضي الله عنه – فلما رأتنا تحفة تغرغرت عيناها بالدموع ، وقالت : شهرتني بين المخلوقين .. ثم أنشأت تقول : قد تصبرت إلى أن .. يميل في حبك صبري ضاق من قيدي وغلي .. وامتهاني فيك ، صدري ليس يخفى عليك أمري .. يا منى سؤلي وذخري قال السري : فبينما نحن جلوس إذ دخل مولاها ، وهو باكي العين ، حزين القلب ، متغير اللون ، فقلت له : لا تبك ، فقد جئناك بما وزنت وربح خمسة آلاف . فقال : لا والله ، فقلت : ربح عشرة آلاف ، فقال : لا والله ، فقلت : وربح المثل ، فقال : لو أعطيتني الدنيا ما قبلت ، هي حرة لوجه الله تعالى . فقلت له : ما القصة؟ فقال : يا أستاذ وُبّخت البارحة ، أشهدك أني قد خرجت من جميع مالي هارباً إلى الله تعالى ، اللهم كن لي في السعة كفيلاً وبالرزق جميلاً . فالتفت إليّ ابن المثنى ، فرأيته يبكي ، فقلت له : ما يبكيك؟ فقال : كأن الحق ما رضيني لما ندبني إليه ، أشهدك أني قد تصدقت بجميع مالي لوجه الله . فقلت : ما أعظم بركة « تحفة » على الجميع . فقامت تحفة فنزعت ما كان عليها ، ولبست مدرعة من شعر ، وخرجت وهي تبكي ، فقلنا لها : قد أطلقك الله تعالى ، فما يبكيك؟ فأنشأت تقول : هربت منه إليه .. بكيت منه عليه وحقه هو مولى .. لا زلت بين يديه حتى أنا حظي وأحظى .. بما رجوت لديه قال : ثم خرجنا من الباب .. فلما سرنا في بعض الطريق طلبناها فلم نجدها . ومات ابن المثنى في الطريق ، ودخلت أنا ومولاها « مكة » ، فبينما نحن في الطواف إذ سمعت كلام مجروح من كبد مقروح وهو يقول : محب الله في الدنيا سقيم .. تطاول سقمه فدواه داه سقاه من محبته بكأس .. فأرواه المهيمن إذ سقاه فهام بحبه وسما إليه .. فليس يريد محبوباً سواه كذاك من ادعى شوقا إليه .. يهيم بحبه حتى يراه فتقدمت إليها ، فلما رأتني قالت : يا سري ، قلت : لبيك .. من أنت يرحمك الله ؟ قالت : لا إله إلا الله .. وقع التناكر بعد المعرفة ، أنا تحفة . فإذا هي كالخيال .. فقلت : يا تحفة ما الذي أفادك الحق بعد انفرادك عن الخلق ؟ قالت : آنسني بقربه ، وأوحشني من غيره . فقلت : مات ابن المثنى ، فقالت : رحمه الله ، لقد أعطاه مولاي من الكرامات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وهو بجواري في الجنة . فقلت : جاء معي مولاك الذي أعتقك ، فدعت بدعاء خفي ، فلم يكن أسرع ما عاينتها تلقاء الكعبة ميتة .. فلما نظرها سيّدها لم يتمالك أن سقط على وجهه ، فحركته ، فإذا هو قضى نحبه ، فأخذت في جهازهما ، ودفنهما ، رحمة الله عليهما .
روض الرياحين لليافعي