بسم الله الرحمن الرحيم
انهيار غير مسبوق لأسعار النفط الأمريكي، الأسباب والتداعيات
لم يحدث أبدا أن دَفَع مالك بضاعة للمستهلك مقابل تصريف بضاعته! هذه سابقة لم يتوقّعها حتّى مَن وضعوا أكثر السيناريوهات تشاؤما، فقد تراجعت أسعار النفط الأمريكي إلى ما دون الصفر للمرة الأولى في التاريخ، حيث وصل سعر برميل النفط إلى - 37.63 دولارا (بالسالب)، وهو ما يعني أن شركات النفط تدفع للعملاء كي يحصلوا على منتجاتها، خشية تراكم مخزون الخام لديها خلال الشهر المقبل. لقد تراجع الطلب على النفط ومشتقاته خلال الأشهر الماضية بسبب إجراءات الإغلاق في مختلف دول العالم إثر تفشي وباء كورونا واضطرار الناس للبقاء في منازلهم، وتوقف العمل في العديد من المصانع. واضطرت شركات النفط إلى استئجار ناقلات نفط ضخمة لتخزين الخام الفائض، ولذا أصبحت الشركات تدفع للمشترين لنقل الخام بعيدا عن منشآتها تفاديا لدفع أموال أكثر لتخزينه.
الانهيار الجديد في أسعار النفط يرجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية؛ الأول هو فشل منظمة أوبك وحلفائها في التوصل إلى اتفاق مبكر لخفض الإنتاج، يحافظ على التوازن في الأسواق، بالإضافة إلى أن هذا الاتفاق سيدخل حيز التنفيذ في 1 أيار/مايو المقبل وليس الآن، أما السبب الثاني فهو أزمة كورونا، والسبب الثالث هو الأزمة المقبلة التي تلوح في الأفق، وهي أزمة تخزين النفط الفائض عن حاجة السوق العالمي. لكن التراجع الكبير في أسعار الخام يعود كذلك إلى أسباب تقنية تتعلّق باقتراب انقضاء مهلة عقد أيار/مايو الاثنين.
وقد عقد بعض وزراء أوبك مؤتمرا عبر الهاتف الثلاثاء 21 نيسان/أبريل، لمناقشة الهبوط الحاد في أسعار النفط وإجراءات إضافية محتملة لدعم السوق، لكن المؤتمر لم تشارك فيه الدول الخليجية الرئيسية ولا روسيا، وهو ما يبرز انقساما متناميا داخل المنظمة، ويشير إلى استمرار تفاقم الأزمة في الأيام المقبلة.
إن الوضع الحالي لو استمر فقد يساهم في أزمة حقيقية في صناعة الطاقة العالمية، ولن تستطيع الدول المصدرة الإنفاق على حقولها الخاصة بالنفط. إن الوضع الحالي كان يمكن تجاوزه بيُسر لو لم تحدث جائحة كورونا التي لا يزال العالم يبحث عن طريقة ما لتجاوز تداعياتها، وبالتالي فالحلّ المؤقت الوحيد للدول النفطية لن يخرج عن تخفيض الإنتاج وعن تعاون أكبر بدلا مما وقع في الأيام الماضية من معارك في رفع الأسعار.
التأثير على دول الخليج:
سيتأثر العالم بشكل عام بما حصل، ودول الخليج بوجه خاص، فهو ولا شك سيؤدي إلى نقص الإيرادات وعجز إضافي، ما سيدفع الدول الخليجية إلى تأجيل مشاريعها الضخمة أو إلى إعادة جدولتها على مدار السنوات اللاحقة، وقد تفكر في فرض ضرائب جديدة، لكن نظراً للتداعيات الخطيرة لجائحة كورونا على الاقتصاد المحلي، فخطوة من هذا القبيل لا يمكن الإقدام عليها إذا كانت تلك الدول تحترم نفسها أو تراعي حاجات شعوبها. وفي هذا السياق، نعلم جميعا أن دول الخليج تنفق أكثر بكثير مما تسمح به أسعار النفط المنخفضة، ما سيؤدي إلى نفاد الاحتياطي النقدي في غضون سنوات قليلة. وهذا ما سيدفع تلك الدول إلى إصدار سندات إضافية، فقد أعلنت إمارة أبو ظبي الأحد 19 نيسان/ أبريل الحالي أنها أصدرت سندات سيادية بقيمة سبعة مليارات دولار. وكانت السعودية جمعت الأسبوع الماضي سبعة مليارات دولار في عملية إصدار سندات، بينما قامت قطر الغنية بالغاز بإصدار سندات بقيمة عشرة مليارات دولار قبل أسبوعين.
كان من المتوقع أن تسجل كل دولة من دول الخليج عجزاً في ميزانيتها حتى قبل أن تنفجر أزمتا كورونا وتدهور أسعار النفط، فإن هذا العجز في ميزانيات الدول سيتفاقم الآن بشكل كبير، وسينعكس ذلك تباعاً على ارتفاع الدين العام لدى الكثير من دول الخليج. أما من ناحية ميزان المدفوعات، فمن الممكن أن تدخل دول عدة (خصوصاً البحرين وعمان) في خطر استنزاف ما لديها من العملات الصعبة، وإدخالها في مرحلة حرجة قد تعجز بعدها عن تثبيت سعر عملتها إذا امتد ذلك لفترة من الزمن. أما من ناحية الوظائف، فيبدو أن القطاع الخاص سيتلقى الضربة الكبرى في المدى القصير، خصوصاً الوافدين الذين قد يتوقف الكثير منهم عن العمل.
إن هاتين الأزمتين (كورونا وسوق النفط) قد أوضحتا بشكل جلي أن هناك خللاً مزمناً في منظومة الحكم ليس في دول الخليج فحسب، بل في المنظومة العالمية برمتها. فحتى قبل الأزمتين، ما انفك إسراف دول الخليج يزداد مع تضخم السكان والاستهلاك المحلي والمشاريع البراقة التي تتبناها الدول؛ من مدن ضخمة ومسابقات رياضية عالمية، حتى أصبح الإنفاق العام أعلى من الإيرادات في دولة مثل الكويت، التي من المفترض أن لديها نسبة عالية من ريع النفط لكل فرد. وعلى الرغم من أن كل دول الخليج آثرت امتصاص الصدمة على الاقتصاد المحلي عبر توسعة عجوزات الميزانية والسحب من احتياطها والاقتراض، فليس بإمكانها ترحيل هذه المشكلة إلى الأبد، ويبدو أن مرحلة الحساب قد أصبحت أقرب مما كانوا يتصورون. وقد تكون البحرين أوضح مثال على ذلك، حيث تخطى الدين العام 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
التأثير على العالم بشكل عام:
وفقاً للعديد من الاقتصاديين، فإن خطر انهيار سوق الأوراق المالية في عام 2020م، كبير بالفعل، نظراً للوضع والتوقعات الحالية. سيكون انهيار سوق الأسهم وشيكاً. ووفقاً لبعض المحللين، فإن انهيار السوق أكثر خطورة مما كان عليه في الأزمة الاقتصادية 2008م.
في الواقع، بدأ الاقتصاد العالمي بالفعل في إظهار علامات الضعف في عام 2019م، خاصة في أوروبا. وقد أدى فيروس كورونا، الذي انتشر بسرعة في آسيا، ثم في أوروبا والولايات المتحدة، إلى تفاقم الوضع، لا سيما من خلال الكشف عن نقاط الضعف في مختلف قطاعات الاقتصاد العالمي. كما ستُلقي الأزمة بظلالها السلبية على البنوك، التي قدمت قروضها للشركات العاملة في مجالات النفط، استكشافاً وإنتاجاً ونقلاً، وتجارة، وهو ما يعني الدخول في دوامة جديدة من الأزمة المالية، قد تؤدي لإفلاس العديد من البنوك الكبيرة، وارتفاع نسبة البطالة بشكل لم يسبق له مثيل. لذلك يبدو أن الانهيار الجديد سيكون أكثر ترجيحاً، ويحتمل أن يكون بنفس خطورة الكساد الاقتصادي الذي صاحب الأزمة الاقتصادية 2008م.
التأثير على قناة السويس:
إن قناة السويس هي المتأثر الأكبر من انهيار أسعار البترول، لأنه لم يعد هناك ميزة تنافسية لقناة السويس في ظل تعريفتها، مقابل سعر البترول المنخفض، بالإضافة إلى عامل الوقت الذي لم يعد مجديا لدى معظم الأسواق حيث هناك تراجع غير مسبوق من كافة الدول على كافة السلع. وإن كان على القائمين على قناة السويس التمهل قبل اتخاذ خطوات لتخفيض تعريفتها، خاصة أنه لا يزال لديها تعاقدات حاليا تقوم بتنفيذها الخطوط الملاحية على الأسعار السابقة للبترول، خاصة وأنها قامت بتخفيض أسعار تعريفتها مطلع نيسان/أبريل الحالي.
التأثير على دعم الثورات المضادة في العالم العربي:
من المؤكد أن تبعات التقشف وشد الأحزمة والبطالة والفقر، الناجمة عن انهيار أسعار النفط لن تؤثر فقط على دول الخليج، بل أيضا على الدول العربية الأخرى التي استفادت حتى الآن من عوائد النفط على شكل قروض وإعانات وسياحة كمصر، وعلى الدعم المالي الكبير الذي كان يتلقاه حفتر في ليبيا، وأيضا على حرب اليمن التي تستنفد الخزانة السعودية وكذلك الإماراتية، ولعل ما تم من خلال قرار وقف السعودية والإمارات إطلاق النار في اليمن منذ أيام قليلة خير دليل على ذلك.
ليس من الواضح إلى متى يمكن للسعودية ودول الخليج الأخرى الصمود في وجه العاصفة الجديدة، لا سيما وأن اقتصادياتها تعاني من أحادية أو قلة مصادر الدخل. وفي كل الأحوال فإن المعطيات الحالية تشير إلى أن سنوات عجافاً بانتظار غالبية الدول العربية وفي مقدمتها السعودية والدول النفطية الأخرى. لكن من الواضح أن العالم على مشارف تغيير كبير، يتخلى فيه عن نظام رأسمالي مهترئ بان للناس عواره وانكشفت سوءته، ولا نظام أصلح للبشرية من نظام الإسلام المتمثل في دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي ستكون رحمة للعالمين وإنقاذا للبشرية مما تتردى فيه من أوحال الرأسمالية.
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حامد عبد العزيز