( أَمَّن يُجيبُ المُضطَرَّ إذَا دَعَاهُ ويَكشِفُ السُّوءَ..)
زهير سالم*
وفي موقفنا الشرعي : الكرامات حق " وأثبتن للولي الكرامة " والإيمان بكرامة بعينها خيار ، ومن رفض الاعتقاد بصحة أي واقعة لا شيء عليه . والمعجزة للنبي ، والكرامة للولي . وقالوا في الفرق بينهما أن معجزة النبي تظل حاضرة ، قابلة للتكرار أو الاستدعاء عند التحدي ، بينما كرامة الولي ليست كذلك .
وتصورنا لشخصية الولي تحتاج إلى مراجعة . وقوله تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) تشمل شريحة من الخلق أكبر بكثير مما يعد العادون.. وقوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) في تنزل مفتوح غير محدود ...سماع بشراهم يقتضي تصحيح أجهزة الاستقبال ، وإعادة توليف الموجات ...
وكان مما روى ابن كثير في تاريخه " البداية والنهاية " أن مكاريا - والمكاري في زمنه مثل سائق سيارة الأجرة في زمننا - كان له بغل ينقل عليه الناس بين دمشق والزبداني .
وكان هذا المكاري رجلا صالحا مستورا راضيا برزقه ، يحمل الراكب على بغله من دمشق إلى الزبداني لقاء أجر معلوم ، يعول به نفسه وعياله .
يحكي ابن كثير :
وأنه ذات يوم اتفق لهذا المكاري رجل يريد الذهاب إلى الزبداني ، فحمله كما جرت عادته إلى بغيته . وفي الطريق طلب الراكب من المكاري أن ينحرف به في طريق فرعي ، حيث أنه يعرف طريقا أقرب ..رد المكاري : بأنه ابن الطريق ويسلكها منذ سنين ، وأنه لا طريق أقرب من الذي يسلك !! ولكن الرجل أصر ، وأنه سيكون بذلك قد قدم للمكاري خدمة بدلالته على طريق مختصر . وتحت إلحاح الراكب انحرف المكاري عن الطريق ، وسلك حيث أراد صاحبه .
بعد وقت قصير وجد المكاري نفسه في طريق مهجور ، وأمامه واد مليء بالجثث والأشلاء وعظام القتلى فعلم أنه وقع ..
فأقبل على الرجل يسترضيه ويستعطفه : إن كنت تريد البغل فالبغل لك ، وإن كنت تريد المال فليس عندي غير الأجر الذي أخذته منك أرده عليك ، وأنا رجل فقير ، وليس خلفي إلا بنات ضعيفات أعيلهن مع أمهن ، وكلما زاد الرجل في الشرح والاستعطاف ، زاد الرجل في المكابرة والإصرار أنه لا بد من قتل المكاري ، وهو يمسك به وسكين حاد في يده ..
يئس المكاري من نفسه ومن قاتله ومن حياته ، فقال للراكب أو القاتل : إن كان لا بد من قتلي فدعني أصلي ركعتين ..
- صلّ يقولها القاتل لا مباليا وساخرا ..
ويتوجه الرجل المستضعف إلى القبلة ، وقد كان من عادته أن يظل على وضوء ليصلي حيثما تدركه الصلاة ..يتوجه إلى القبلة ويدخل في الصلاة ، وكل خلية في جسده ترتجف خوفا وذعرا ..
يحكي ابن كثير :
ودخل الرجل في صلاته ، فأُغلق عليه ، حتى سورة الفاتحة لا تجد سبيلها إلى لسانه ...فلا يدري ما يتلو ، ولا ما يدعو ، ولا ماذا يقول
والقاتل ينادي عليه بصوت أجش يقطر لؤما : ألم تنتهي بعد ..
الرجل في خوفه وحيرته وتردده ويأسه وانقطاع أمله ، وعقله الشارد خلف بناته الضعيفات ينتظرن عودته برزق يومهن ..قد جف ريقه ـ والتصق لسانه بسقف حلقه ، وبلغ قلبه حنجرته من شدة الخفقان ؛ واجم ساكن ... حتى جرى على لسانه وهو في حاله تلك قول الله تعالى ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..؟! ) فيرتلها قلبه ، وتهتف بها كل خلية في جسده ، وكل شعرة في رأسه : ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ..؟!) رتلوها معه ...
ويرفع بصره ، فإذا فارس على فرس ، يطعن القاتل برمح فيرديه ، وينطلق مبتعدا ..
يقطع الرجل الخائف المستجير بالذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء ، صلاته .. ويلحق بالفارس ، ويمسك بذيل فرسه : لا أتركك تذهب حتى تخبرني من أنت؟!
يجيبه الفارس بثقة ووضوح : أنا عبد من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ..!!
وانتهت رواية ابن كثير ..
منذ ستين سنة ، وكلما مر أخوكم على الآية ، تذكر حال المكاري المستضعف ، وقد جف لسانه ، والتصق لسانه بسقف حلقه ، وبلغ قلبه حنجرته وهو يرتل : أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ؟!.
لندن : 25 / رمضان / 1441
18/ 5 / 2020
__________
*مدير مركز الشرق العربي