طه حسين.. ومذهبه فى الشعر الجاهلي
محمود جميل
بكالوريوس في العلوم- جامعة الأزهر
blogs طه حسين
1/7/2018
"ولا يضبط الشعر إلا أهله"
– ابن سلام الجُمحى..طبقات فحول الشعراء
لقد كانت قضية الشعر الجاهلي وانتحاله من أهم القضايا التي أُثيرت بين المثقفين في القرن الماضي، أثارها الدكتور طه حسين في كتابه القيم "في الشعر الجاهلي"، ومن خلال إثارة طه حسين للقضية أثار بجانبها قضايا تخص القيم الدينية الموروثة، ونحن لا نريد أن نقف عند تلك القضايا الدينية والتي بلا شك أخطأ فيها الدكتور طه حسين كل الخطأ، وبدون أدنى ريب أو حيرة أكاد أقول: إن طه حسين في كتابه لم يكن هو الذي اعتدت أن أقرأ له، والذي كان دائمًا قِبلة للمثقفين والباحثين في الأدب واللغة والتاريخ وعلوم الاجتماع.
لكنني رغم كل ذلك أصررت على أن أصف كتابه بالقيم! ولِمَ لا؟ أليس شك طه حسين في كل شيء يخص الشعر الجاهلي وطرحه لتلك القضية وبهذا المقصد قد أثار عاصفة من الجدل الديني والاجتماعي والأدبي لم تهدأ لفترة بعيدة؟ أليس هذا الشك من طه حسين قد أثار حفيظة كثير من الكُتاب والأدباء ورجال الدين ممن تقدموا للدفاع عن الشعر الجاهلي والرد على طه حسين؟ بلا شك قد كان كل هذا مما أنتج في نهاية الأمر حياة عقلية وأدبية جديرة بالاحترام والتقدير، والحياة العقلية عادة لا تنشط إلا في مثل هذا الجو من الشك الذي يتبعه النقد والتحليل والتعليل.
لقد كان لقيام الدولة الفاطمية في مصر والشام -وهي دولة شيعية قامت تدعو لمذهبها وتشحذ الهمم لنشره في كل الآفاق وبكل وسيلة أتيحت لها- تبني المساجد وتشيد المدارس وتنفق على العلماء، فصحب ذلك ردة فعل قوية يؤيدها من يوافقها في العقيدة والمذهب، ويخالفها من يرفض ذلك المذهب وإن اتفق في العقيدة، وعلى رأس المخالفين الخليفة العباسي والذي يدين بالمذهب السني؛ فلم يرقه فعل الدولة الفاطمية؛ ما جعله يستدعي حجة الإسلام أبا حامد الغزالي لتأليف كتابه "فضائح الباطنية".
أقرّ جميع من انتقدوا الدكتور طه حسين في منحاه للشعر الجاهلي بأنه ذهب إلى ما ذهب إليه متأثرًا ببعض المستشرقين وعلى رأسهم مرجليوث
نعم لقد أثار القضية قبل طه حسين بخمسة عشر عامًا الأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي وأجاد فيما ذهب إليه، ذكر ما أثير قديمًا في صحة الشعر الجاهلي من أقوال ابن سلام الجمحي وغيره، وأضاف إليه إضافة جيدة تطمئن إليها النفوس، لكنّ ما أتى به طه حسين كان جديدا في بابه؛ لم يأتِ به أيّ كاتب عربي كتب في تاريخ أدب العرب، وإن انتقص الإثبات والدليل؛ بل لم يتعرض طه حسين لناقديه بالرد وإقامة الحجة ضد ما قالوه، واكتفى بالصمت العاجز الذي يعوزه المنطق والاستدلال.
إن أكثر ما يثير حفيظة القارئ وهو يقرأ عن تلك القضية المهمة -التي أعتبرها من أهم القضايا الأدبية في القرن الماضي- أن يندفع البعض بالهجوم على طه حسين وكتابه فيقول: لقد كان من الأفضل في الرد على هذا الكتاب وصاحبه وهرطقاته ألا نرد ولا ندع الكتاب يأخذ أكبر من حجمه الفكري الضئيل الذي لا يستحق الاحترام، ومن ثَمَّ لا يستحق عناء الرد، إذن فمن أين نأتي بأقلام قادرة على النقد والتمحيص وتتحمل الوقوف أمام كل التيارات والأفكار التي تتردد في كل المجتمعات إن لم يتصدر أرباب العلم والفكر للوقوف في وجه كل القضايا والأطروحات مهما كان حجمها؟ إن العقول القوية لا تُبنى إلا بالممارسة وطول المدارسة، مثلها تمامًا مثل نُظم الحياة المتعددة.
انبرت أقلام كثيرة للرد على طه حسين نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، الإمام محمد الخضر حسين، والأستاذ محمد فريد وجدي، والدكتور محمد أحمد الغمراوي، والأستاذ محمد لطفي جمعة، وجاء بعدهم بسنوات أعلام فكتبوا عن القضية وفي تفنيد آراء طه حسين من أمثال الدكتور شوقي ضيف والدكتور محمد رجب البيومي، وكل هؤلاء الأعلام وغيرهم أحرجوا طه حسين أشد الإحراج في كل ما ذهب إليه، أليس جديرًا بعد كل ما تقدم وبعد كل الردود التي قدمها كل هؤلاء الأعلام أن نصف كتاب "في الشعر الجاهلي" بأنه قيم في بابه بما أحدثه من نزوة فكرية في مجتمعه الذي طُرح فيه؟
وقف طه حسين عند مقالة مرجليوث موقف الباحث المطلع على التراث العربي، فأخذ من مرجليوث وترك وأخذ من غيره من المستشرقين وترك وعلى رأسهم أيضًا المستشرق هوار
لقد أقرّ جميع من انتقدوا الدكتور طه حسين في منحاه للشعر الجاهلي بأنه ذهب إلى ما ذهب إليه متأثرًا ببعض المستشرقين وعلى رأسهم مرجليوث، والحقيقة أننا لا يهمنا في كل الأحوال أأخذ طه حسين موضوع بحثه عن المستشرقين، أم كان حرًّا خالصًا من أفكار رأسه، المهم أنه ارتضى به ودافع عنه وأعلن أنه لا يستطيع كتمانه، وكان على من تعرض لنقد طه حسين ألا يخوض في هذا الحديث وأن يوجه همه لتفنيد ما ذهب إليه من حيث موضوعه وهو الشعر الجاهلي دون أن يُرمى الرجل بالتبعية والانبهار بأفكار مرجليوث وغيره من المستشرقين، ولقد ذهب إلى هذا السبيل في مناقشة طه حسين الإمام محمد الخضر حسين؛ فكثيرًا ما اتهمه بأن أفكاره راجعة إلى مرجليوث، وأن طه حسين لا حول له ولا قوة في كل ما قرره من أفكار وآراء، وإن كانت ردود الخضر حسين على طه حسين هي أقوى الردود وأكثرها حجة في كل ما كُتب من ردودٍ على الإطلاق.
الدكتور طه حسين على كل حال قد تعرض لمقالة مرجليوث -منشأ الشعر العربي- ووعاها كما وعى مقالات أخرى لبعض المستشرقين ممن كتبوا عن الأدب العربي وهم كثير جدًّا، لكنه وقف عندها موقف الباحث المطلع على التراث العربي، فأخذ من مرجليوث وترك وأخذ من غيره من المستشرقين وترك وعلى رأسهم أيضًا المستشرق هوار الذي لا يخفي طه حسين إعجابه به، وفي نهاية الأمر أخرج لنا هذا البحث الذي رضي به وظنّ أن الباحثين -وخاصة من أطلق عليهم المجددين- سيرضون به فكان السخط والغضب.
محمود جميل
بكالوريوس في العلوم- جامعة الأزهر
blogs طه حسين
1/7/2018
"ولا يضبط الشعر إلا أهله"
– ابن سلام الجُمحى..طبقات فحول الشعراء
لقد كانت قضية الشعر الجاهلي وانتحاله من أهم القضايا التي أُثيرت بين المثقفين في القرن الماضي، أثارها الدكتور طه حسين في كتابه القيم "في الشعر الجاهلي"، ومن خلال إثارة طه حسين للقضية أثار بجانبها قضايا تخص القيم الدينية الموروثة، ونحن لا نريد أن نقف عند تلك القضايا الدينية والتي بلا شك أخطأ فيها الدكتور طه حسين كل الخطأ، وبدون أدنى ريب أو حيرة أكاد أقول: إن طه حسين في كتابه لم يكن هو الذي اعتدت أن أقرأ له، والذي كان دائمًا قِبلة للمثقفين والباحثين في الأدب واللغة والتاريخ وعلوم الاجتماع.
لكنني رغم كل ذلك أصررت على أن أصف كتابه بالقيم! ولِمَ لا؟ أليس شك طه حسين في كل شيء يخص الشعر الجاهلي وطرحه لتلك القضية وبهذا المقصد قد أثار عاصفة من الجدل الديني والاجتماعي والأدبي لم تهدأ لفترة بعيدة؟ أليس هذا الشك من طه حسين قد أثار حفيظة كثير من الكُتاب والأدباء ورجال الدين ممن تقدموا للدفاع عن الشعر الجاهلي والرد على طه حسين؟ بلا شك قد كان كل هذا مما أنتج في نهاية الأمر حياة عقلية وأدبية جديرة بالاحترام والتقدير، والحياة العقلية عادة لا تنشط إلا في مثل هذا الجو من الشك الذي يتبعه النقد والتحليل والتعليل.
لقد كان لقيام الدولة الفاطمية في مصر والشام -وهي دولة شيعية قامت تدعو لمذهبها وتشحذ الهمم لنشره في كل الآفاق وبكل وسيلة أتيحت لها- تبني المساجد وتشيد المدارس وتنفق على العلماء، فصحب ذلك ردة فعل قوية يؤيدها من يوافقها في العقيدة والمذهب، ويخالفها من يرفض ذلك المذهب وإن اتفق في العقيدة، وعلى رأس المخالفين الخليفة العباسي والذي يدين بالمذهب السني؛ فلم يرقه فعل الدولة الفاطمية؛ ما جعله يستدعي حجة الإسلام أبا حامد الغزالي لتأليف كتابه "فضائح الباطنية".
أقرّ جميع من انتقدوا الدكتور طه حسين في منحاه للشعر الجاهلي بأنه ذهب إلى ما ذهب إليه متأثرًا ببعض المستشرقين وعلى رأسهم مرجليوث
نعم لقد أثار القضية قبل طه حسين بخمسة عشر عامًا الأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي وأجاد فيما ذهب إليه، ذكر ما أثير قديمًا في صحة الشعر الجاهلي من أقوال ابن سلام الجمحي وغيره، وأضاف إليه إضافة جيدة تطمئن إليها النفوس، لكنّ ما أتى به طه حسين كان جديدا في بابه؛ لم يأتِ به أيّ كاتب عربي كتب في تاريخ أدب العرب، وإن انتقص الإثبات والدليل؛ بل لم يتعرض طه حسين لناقديه بالرد وإقامة الحجة ضد ما قالوه، واكتفى بالصمت العاجز الذي يعوزه المنطق والاستدلال.
إن أكثر ما يثير حفيظة القارئ وهو يقرأ عن تلك القضية المهمة -التي أعتبرها من أهم القضايا الأدبية في القرن الماضي- أن يندفع البعض بالهجوم على طه حسين وكتابه فيقول: لقد كان من الأفضل في الرد على هذا الكتاب وصاحبه وهرطقاته ألا نرد ولا ندع الكتاب يأخذ أكبر من حجمه الفكري الضئيل الذي لا يستحق الاحترام، ومن ثَمَّ لا يستحق عناء الرد، إذن فمن أين نأتي بأقلام قادرة على النقد والتمحيص وتتحمل الوقوف أمام كل التيارات والأفكار التي تتردد في كل المجتمعات إن لم يتصدر أرباب العلم والفكر للوقوف في وجه كل القضايا والأطروحات مهما كان حجمها؟ إن العقول القوية لا تُبنى إلا بالممارسة وطول المدارسة، مثلها تمامًا مثل نُظم الحياة المتعددة.
انبرت أقلام كثيرة للرد على طه حسين نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، الإمام محمد الخضر حسين، والأستاذ محمد فريد وجدي، والدكتور محمد أحمد الغمراوي، والأستاذ محمد لطفي جمعة، وجاء بعدهم بسنوات أعلام فكتبوا عن القضية وفي تفنيد آراء طه حسين من أمثال الدكتور شوقي ضيف والدكتور محمد رجب البيومي، وكل هؤلاء الأعلام وغيرهم أحرجوا طه حسين أشد الإحراج في كل ما ذهب إليه، أليس جديرًا بعد كل ما تقدم وبعد كل الردود التي قدمها كل هؤلاء الأعلام أن نصف كتاب "في الشعر الجاهلي" بأنه قيم في بابه بما أحدثه من نزوة فكرية في مجتمعه الذي طُرح فيه؟
وقف طه حسين عند مقالة مرجليوث موقف الباحث المطلع على التراث العربي، فأخذ من مرجليوث وترك وأخذ من غيره من المستشرقين وترك وعلى رأسهم أيضًا المستشرق هوار
لقد أقرّ جميع من انتقدوا الدكتور طه حسين في منحاه للشعر الجاهلي بأنه ذهب إلى ما ذهب إليه متأثرًا ببعض المستشرقين وعلى رأسهم مرجليوث، والحقيقة أننا لا يهمنا في كل الأحوال أأخذ طه حسين موضوع بحثه عن المستشرقين، أم كان حرًّا خالصًا من أفكار رأسه، المهم أنه ارتضى به ودافع عنه وأعلن أنه لا يستطيع كتمانه، وكان على من تعرض لنقد طه حسين ألا يخوض في هذا الحديث وأن يوجه همه لتفنيد ما ذهب إليه من حيث موضوعه وهو الشعر الجاهلي دون أن يُرمى الرجل بالتبعية والانبهار بأفكار مرجليوث وغيره من المستشرقين، ولقد ذهب إلى هذا السبيل في مناقشة طه حسين الإمام محمد الخضر حسين؛ فكثيرًا ما اتهمه بأن أفكاره راجعة إلى مرجليوث، وأن طه حسين لا حول له ولا قوة في كل ما قرره من أفكار وآراء، وإن كانت ردود الخضر حسين على طه حسين هي أقوى الردود وأكثرها حجة في كل ما كُتب من ردودٍ على الإطلاق.
الدكتور طه حسين على كل حال قد تعرض لمقالة مرجليوث -منشأ الشعر العربي- ووعاها كما وعى مقالات أخرى لبعض المستشرقين ممن كتبوا عن الأدب العربي وهم كثير جدًّا، لكنه وقف عندها موقف الباحث المطلع على التراث العربي، فأخذ من مرجليوث وترك وأخذ من غيره من المستشرقين وترك وعلى رأسهم أيضًا المستشرق هوار الذي لا يخفي طه حسين إعجابه به، وفي نهاية الأمر أخرج لنا هذا البحث الذي رضي به وظنّ أن الباحثين -وخاصة من أطلق عليهم المجددين- سيرضون به فكان السخط والغضب.