طه حسين.. ومذهبه في الشعر الجاهلى (2)
محمود جميل
بكالوريوس في العلوم- جامعة الأزهر
blogs طه حسن و الشعر الجاهلي
10/7/2018
(ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حجب الكتمان فتقرأ بين السطور وتعرف في لحن القول)
– الدكتور محمد عبد الله دراز، كتاب النبأ العظيم.
لقد شك طه حسين في كل شيء يخص الشعر الجاهلي، شك في لغة القحطانيين وفي اقترابها من لغة العدنانيين، شك في لهجات القبائل العدنانية؛ بل شك في القبائل العدنانية نفسها وفي أننا لا نعرفها معرفة تامة، شك طه حسين في كل خبر أتى لنا عن طريق القُصاص والرواة، لأن من وجهة نظر طه حسين كيف نستطيع أن نثق في أشعار أمة لا تستطيع الكتابة؟ وكيف علينا أن نصدق أن كل هذا الشعر خرج من بطن هذه الأمة وكأنها جُبِلت على الشعر وكان جزءًا من سليقتها.
هذا الشك والغلو فيه من طه حسين والذي أعتقد أنه مذهب ديكارتي جعل ناقديه يعترضون عليه كمبدأ للنقد والتحليل، فيقول الأستاذ محمد أحمد الغمراوي: "وليس الغلو في الشك في ذاته بمحمدة، فيذكرها العلم والتاريخ لأحدٍ، لا، لم تكن عظمة ديكارت راجعة إلى أنه شك، ولكن إلى أنه تطلب مخرجًا من الشك، واهتدى إلى طريقة في البحث وخرج بها إلى بحبوحة اليقين، ثم ترجع إلى أنه طبَّق تلك الطريقة في نواحٍ مختلفة فأثمرت معه ثمرًا حسنًا في بعض النواحي، ولم تثمر معه في بعض، أثمرت في الرياضة ولم تثمر في الفلسفة إلا قليلا" إذن فنحن لا نعترض على طه حسين في أنه شك، ولكننا نعترض على الغلو في هذا الشك، وكأن الشك كان بابًا فتحه طه حسين على مصراعيه ثم تركه وولَّى غير محاول أن يوصده، وهو شيء واضح في كل ثنايا كتاب "في الشعر الجاهلي".
تطرق طه حسين لموضوع لهجات العرب العدنانية والتي تمثلها قبائل ربيعة وقيس وتميم، فأنكر أن يكون هذا الاختلاف في اللهجات العدنانية قد يأتي أيضًا بشعر عربي موحد
بداية اعتقد طه حسين أن الحياة الجاهلية لا بد وأن تُلتمس من القرآن الكريم وليس من الشعر الجاهلي؛ فالقرآن الكريم هو أصدق مرآة للحياة وليس الشعر الجاهلي، وأن هذه الحياة الجاهلية التي نلتمسها من القرآن سوف نجدها حياة قيمة مشرقة ممتعة مخالفة لهذه الحياة التي نجدها في شعر الجاهليين، وفوق هذا سنجدها حياة مليئة بالتدين.
الحقيقة أن القرآن الكريم قد صوَّر الحياة الجاهلية أدق تصوير، ولقد أصاب طه حسين في ذلك، لكنه أخطأ حينما جعل تصوير القرآن لهذه الحياة كان ممتعًا وشيقًا، فهو -أي القرآن- كان حقًّا يمثلها لكنه في نفس الوقت يُمثل بها أنكى تمثيل، ومن ثَمَّ فإن صورة الحياة الجاهلية في الشعر الجاهلي الذي أنكره طه حسين قريبة جدًّا من تصوير القرآن لهذه الحياة مع الفارق في المقصد، ورغم كل هذا لم يأتِ لنا طه حسين بمثال واضح في القرآن عن هذه الحياة المشرقة الممتعة الممزوجة بالتدين. فرَّق طه حسين بين العرب القحطانيين والعرب العدنانيين كما هو شائع معروف، وأنه كان هناك فرق بين لغة كل منهما.
وفي نهاية الأمر أكد أن هذه الفروق بين اللغتين لا يمكن أن تأتي في نهاية الأمر بشعر عربي موحد وبلغة عربية موحدة هي لغة العدنانيين، وطه حسين الذي يؤكد وفي نفس صفحات الكتاب على اتصال العرب بالأمم المجاورة وبما لهذا الاتصال من تأثير قوي على الحياة السياسية والاجتماعية، يؤكد هذا كله ثم لا يريد حتى أن يشك -وهو الرجل الذي كتب واهتم بعلوم الاجتماع- أن اتصال العدنانيين بالقحطانيين وبما كان لهم من معاملات مع بعضهم البعض منذ مئات السنين قد يكون عاملًا قويًّا في تقارب اللغات بعد هذا الاتصال والمجاورة التي استمرت لقرون.
وضع طه حسين أسبابًا لانتحال الشعر، وعَدَّ منها: العصبية والسياسة والدين والشعوبية، وهي أسباب حقيقية وموضوعية لانتحال الشعر
حقيقةً إن هذا المحور من محاور الكتاب أكثر ما أحزنني؛ لأنه خرج من فم عالم متمرس بعلوم الاجتماع، وهو لا يكاد في كل موضوعات كتاباته يحدثنا عن أهمية هذا العلم في دراسة أيّ وقعة من وقائع التاريخ، أو أثناء دراسة أيّ شخصية من شخصياته والتي تعرَّض طه حسين لبعضها كسيدنا عثمان بن عفان أو سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- أو كأبي العلاء المعري وغيرهم.
تطرق طه حسين لموضوع لهجات العرب العدنانية والتي تمثلها قبائل ربيعة وقيس وتميم، فأنكر أن يكون هذا الاختلاف في اللهجات العدنانية قد يأتي أيضًا بشعر عربي موحد إلا أن يكون قد انتحل انتحالًا، وفي ذلك يقول لنا المستشرق الألمانى كارل بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي": "ولا شك أن لغة الشعر القديم هذه لا يمكن أن يكون الرواة والأدباء اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكن لغة جارية في الاستعمال العام؛ بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات وإن غذتها جميع اللهجات". وأظن أن طه حسين كان رجلًا يدرك تمامًا الفرق بين لهجات دارجة يستعملها المجتمع وأخرى فنية يستخدمونها لتسجيل تاريخهم وآدابهم وعلومهم.
وضع طه حسين أسبابًا لانتحال الشعر، وعَدَّ منها: العصبية والسياسة والدين والشعوبية، وهي أسباب حقيقية وموضوعية لانتحال ليس فقط الشعر؛ بل ممكن من خلالها انتحال أحاديث تُروى عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو انتحال قصص وحِكَم عن ملوك وأمراء وانتحال تاريخ بأكمله، وليس ذلك قاصرًا على تاريخ الحضارة العربية؛ بل سارٍ في أيّ أمة من الأمم، ولسنا حقيقة نريد أن نقول كما قال بعض ناقديه: إن طه حسين أراد من خلال هذه الأسباب النفوذ إلى قِيَم دينية للشك فيها؛ بل نقتصر على القول بأنها أسباب طبيعية من خلالها يسهل انتحال أيّ شيء كما قلنا. وأهم من ذلك أن طه حسين لم يعرض صورًا كافية لانتحال الشعر من أجل هذه الأسباب، وكان كل ما قاله قد قاله مَن تعرَّض لنقد الشعر قبله وعلى رأسهم ابن سلام الجمحي.
محمود جميل
بكالوريوس في العلوم- جامعة الأزهر
blogs طه حسن و الشعر الجاهلي
10/7/2018
(ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حجب الكتمان فتقرأ بين السطور وتعرف في لحن القول)
– الدكتور محمد عبد الله دراز، كتاب النبأ العظيم.
لقد شك طه حسين في كل شيء يخص الشعر الجاهلي، شك في لغة القحطانيين وفي اقترابها من لغة العدنانيين، شك في لهجات القبائل العدنانية؛ بل شك في القبائل العدنانية نفسها وفي أننا لا نعرفها معرفة تامة، شك طه حسين في كل خبر أتى لنا عن طريق القُصاص والرواة، لأن من وجهة نظر طه حسين كيف نستطيع أن نثق في أشعار أمة لا تستطيع الكتابة؟ وكيف علينا أن نصدق أن كل هذا الشعر خرج من بطن هذه الأمة وكأنها جُبِلت على الشعر وكان جزءًا من سليقتها.
هذا الشك والغلو فيه من طه حسين والذي أعتقد أنه مذهب ديكارتي جعل ناقديه يعترضون عليه كمبدأ للنقد والتحليل، فيقول الأستاذ محمد أحمد الغمراوي: "وليس الغلو في الشك في ذاته بمحمدة، فيذكرها العلم والتاريخ لأحدٍ، لا، لم تكن عظمة ديكارت راجعة إلى أنه شك، ولكن إلى أنه تطلب مخرجًا من الشك، واهتدى إلى طريقة في البحث وخرج بها إلى بحبوحة اليقين، ثم ترجع إلى أنه طبَّق تلك الطريقة في نواحٍ مختلفة فأثمرت معه ثمرًا حسنًا في بعض النواحي، ولم تثمر معه في بعض، أثمرت في الرياضة ولم تثمر في الفلسفة إلا قليلا" إذن فنحن لا نعترض على طه حسين في أنه شك، ولكننا نعترض على الغلو في هذا الشك، وكأن الشك كان بابًا فتحه طه حسين على مصراعيه ثم تركه وولَّى غير محاول أن يوصده، وهو شيء واضح في كل ثنايا كتاب "في الشعر الجاهلي".
تطرق طه حسين لموضوع لهجات العرب العدنانية والتي تمثلها قبائل ربيعة وقيس وتميم، فأنكر أن يكون هذا الاختلاف في اللهجات العدنانية قد يأتي أيضًا بشعر عربي موحد
بداية اعتقد طه حسين أن الحياة الجاهلية لا بد وأن تُلتمس من القرآن الكريم وليس من الشعر الجاهلي؛ فالقرآن الكريم هو أصدق مرآة للحياة وليس الشعر الجاهلي، وأن هذه الحياة الجاهلية التي نلتمسها من القرآن سوف نجدها حياة قيمة مشرقة ممتعة مخالفة لهذه الحياة التي نجدها في شعر الجاهليين، وفوق هذا سنجدها حياة مليئة بالتدين.
الحقيقة أن القرآن الكريم قد صوَّر الحياة الجاهلية أدق تصوير، ولقد أصاب طه حسين في ذلك، لكنه أخطأ حينما جعل تصوير القرآن لهذه الحياة كان ممتعًا وشيقًا، فهو -أي القرآن- كان حقًّا يمثلها لكنه في نفس الوقت يُمثل بها أنكى تمثيل، ومن ثَمَّ فإن صورة الحياة الجاهلية في الشعر الجاهلي الذي أنكره طه حسين قريبة جدًّا من تصوير القرآن لهذه الحياة مع الفارق في المقصد، ورغم كل هذا لم يأتِ لنا طه حسين بمثال واضح في القرآن عن هذه الحياة المشرقة الممتعة الممزوجة بالتدين. فرَّق طه حسين بين العرب القحطانيين والعرب العدنانيين كما هو شائع معروف، وأنه كان هناك فرق بين لغة كل منهما.
وفي نهاية الأمر أكد أن هذه الفروق بين اللغتين لا يمكن أن تأتي في نهاية الأمر بشعر عربي موحد وبلغة عربية موحدة هي لغة العدنانيين، وطه حسين الذي يؤكد وفي نفس صفحات الكتاب على اتصال العرب بالأمم المجاورة وبما لهذا الاتصال من تأثير قوي على الحياة السياسية والاجتماعية، يؤكد هذا كله ثم لا يريد حتى أن يشك -وهو الرجل الذي كتب واهتم بعلوم الاجتماع- أن اتصال العدنانيين بالقحطانيين وبما كان لهم من معاملات مع بعضهم البعض منذ مئات السنين قد يكون عاملًا قويًّا في تقارب اللغات بعد هذا الاتصال والمجاورة التي استمرت لقرون.
وضع طه حسين أسبابًا لانتحال الشعر، وعَدَّ منها: العصبية والسياسة والدين والشعوبية، وهي أسباب حقيقية وموضوعية لانتحال الشعر
حقيقةً إن هذا المحور من محاور الكتاب أكثر ما أحزنني؛ لأنه خرج من فم عالم متمرس بعلوم الاجتماع، وهو لا يكاد في كل موضوعات كتاباته يحدثنا عن أهمية هذا العلم في دراسة أيّ وقعة من وقائع التاريخ، أو أثناء دراسة أيّ شخصية من شخصياته والتي تعرَّض طه حسين لبعضها كسيدنا عثمان بن عفان أو سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- أو كأبي العلاء المعري وغيرهم.
تطرق طه حسين لموضوع لهجات العرب العدنانية والتي تمثلها قبائل ربيعة وقيس وتميم، فأنكر أن يكون هذا الاختلاف في اللهجات العدنانية قد يأتي أيضًا بشعر عربي موحد إلا أن يكون قد انتحل انتحالًا، وفي ذلك يقول لنا المستشرق الألمانى كارل بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي": "ولا شك أن لغة الشعر القديم هذه لا يمكن أن يكون الرواة والأدباء اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكن لغة جارية في الاستعمال العام؛ بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات وإن غذتها جميع اللهجات". وأظن أن طه حسين كان رجلًا يدرك تمامًا الفرق بين لهجات دارجة يستعملها المجتمع وأخرى فنية يستخدمونها لتسجيل تاريخهم وآدابهم وعلومهم.
وضع طه حسين أسبابًا لانتحال الشعر، وعَدَّ منها: العصبية والسياسة والدين والشعوبية، وهي أسباب حقيقية وموضوعية لانتحال ليس فقط الشعر؛ بل ممكن من خلالها انتحال أحاديث تُروى عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو انتحال قصص وحِكَم عن ملوك وأمراء وانتحال تاريخ بأكمله، وليس ذلك قاصرًا على تاريخ الحضارة العربية؛ بل سارٍ في أيّ أمة من الأمم، ولسنا حقيقة نريد أن نقول كما قال بعض ناقديه: إن طه حسين أراد من خلال هذه الأسباب النفوذ إلى قِيَم دينية للشك فيها؛ بل نقتصر على القول بأنها أسباب طبيعية من خلالها يسهل انتحال أيّ شيء كما قلنا. وأهم من ذلك أن طه حسين لم يعرض صورًا كافية لانتحال الشعر من أجل هذه الأسباب، وكان كل ما قاله قد قاله مَن تعرَّض لنقد الشعر قبله وعلى رأسهم ابن سلام الجمحي.