آن الآوان لنفقد عيوننا كي نستطيع أن نرى ببصيرة!
غزلان قتور
مدونة مغربية
26/5/2020
blogs رجل أمام مكتبة
في القرن الخامس قبل الميلاد، كتب سوفوكليس Sophocle مسرحيته الشهيرة أوديب ملكا (Œdipe roi) وهي تحكي أسطورة أوديب الذي يهرب من بلاده كورنثة Corinthe ويتّجه إلى طيبة Thèbes خوفا من قتل أبيه وزواجه من أمّه، في الطريق إلى المدينة، يقتل أوديب شيخا يقابله والذي لم يكن سوى ملك البلاد ووالده الحقيقي لايوس Laios ، ويستمر في الطريق إلى أن يصل الى مقرّ أنثى أبو الهول Sphinge التي تقطن على مشارف المدينة، تقفل الطّرقات وتعترض كل المسافرين بل وتفتك بهم إذا لم يستطيعوا حلّ لغزها : من هو الكائن الذي يمشي على أربع صباحا، وعلى اثنين ظهرا وعلى ثلاث مساء؟.
الوحش الذي طالما أرعب السّاكنة وأفزعها، هزم وانتحر بمجرد سماعه لجواب أوديب الشهير (الإنسان). وهكذا استطاع أوديب تخليص المدينة من شرور وبراثن الوحش، واستطاعت المعرفة والإنسانية التّغلّب على كل القوى الاستبدادية والمدمّرة التي قد تواجه الإنسان، يمكننا القول، أنّ شرط دخول طيبة كان ضرورة تملّك الإنسان للمعرفة والإنسانيّة خصوصا، وإلا لما اللّجوء إلى لغز يتطلّب حلّه الذّكاء الإنساني ويصوّر مضمونه الإنسان في مختلف مراحله؟ بعد دخول أوديب إلى طيبة، سيتزوّج جوكاستا Jocaste زوجة الملك الرّاحل وأمّه التي سينجب منها أربعة أطفال، دون أن يتكلّف عناء السّؤال عمن تكون جوكاستا أساسا ومن يكون زوجها الهالك. بل، ويمكن القول، إن غروره في كونه هزم أعظم الوحوش عماه عن التذكّر والتّفكير في كون جرمه بقتل الشيّخ يتزامن مع مقتل الملك. فما كان له الا (الطّاعون) جزاء لشناعة أفعاله اللاأخلاقية واللاإنسانية ولتفريطه في معرفة الحقيقة.
لقد حقق أوديب مكانة وسلطة كبيرة في مدينته الجديدة بفضل معرفته وشجاعته. فقد واجه أنثى أبو الهول وانتصر انتصاراً ساحقاً عليها. ولكن هل هذا كان كافيا للاستمرار في المدينة؟ بالطبع لا. فكما كان شرطا دخول المدينة هما المعرفة والإنسانية، كان شرطا المكوث فيها كذلك المعرفة والإنسانية. وباء الطّاعون أرغمه على اعادة حساباته والتّفكير مجدّدا في امكانياته المعرفيّة وإنسانيته، بعد استفسار أوديب عن الطّريق الذي مات فيه لايوس، ظهرت له الحقيقة: لقد قتل أباه جاهلًا وتزوّج أمّه بل وأنجب منها، فانهار تمامًا وفقأ عينيه وهو يصيح: ستظلان في الظلمة فلا تريان من كان يجب ألا ترياه، ولا تعرفان من لا أريد أن أعرف بعد اليوم، حتى لا ترى الشمس المقدسة إنسانا دنسًا فعل أكثر الجرائم بشاعة، ثم نفى نفسه حتى ينتهي الوباء.
نشهد معاناة أو موت العديد جرّاء الحروب والفيضانات والمجاعة وأوبئة فتاكة وغيرها. ولكن كلّ هذا لا يحرّك مشاعرنا وإنسانيتنا لأنه لا يعنينا أو لأنه ليس هناك اي مصلحة مالية ربحية من صده
وهكذا خرج من المدينة بعد أن اختلا شرطا المكوث فيها ألا وهما المعرفة والإنسانية. يظهر أن عمى أوديب ملتصق بالمعرفة، فعندما كان مبصرا لم يكن يعرف، وعندما عرف عمي. فإذا كان النور المفاجئ عمى مؤقتا، فالمعرفة المفاجئة كانت له أيضا عمى مؤقّتا، وسيرى بعدها ببصيرته لا ببصره. لأن المعرفة لا توجد دوما في الضوء ولا ترى دوما بالعين ولكنّها قد تكون في الظلمات ويجب التّقصي عنها. أما منفاه فهو في الحقيقة موت رمزي للإنسان فلا إنسانية دون تواجد الإنسان بين الإنسان.
الميثولوجيا الإغريقية تلقي بظلالها على وقتنا الحالي مع بعض من الاختلافات. لأن العالم التسليعي الذي نعيشه اليوم جعل قيمة البضاعة أكثر من قيمة المعرفة والإنسان. فلا شكّ أنه رغم كثرة المعرفة وتوفرّها في الوقت الرّاهن بتوفّر مختلف وسائل المعلوميّات، إلا أن الناس مغمورون في الجهل، العالم الاستهلاكي الحالي يصنع الجهل والتضليل بتسطيح مفهوم الثقافة واختزالها في بعض الفنون الهابطة أو تزييف الحقائق لصالح الشّركات العملاقة التي تدفع الملايين لتجهيل الأفراد حتى تدمن منتجاتها أو خدماتها. فيصبح الإنسان بهذا عاجزا عن إنتاج أي فكر عقلاني هادف أو قيم إنسانيّة سامية، رابطا وجوده بمشتريات وأفكار مستهلكة. وهذا بالفعل ما يسبب الفساد الفكري والروحي والأخلاقي والسلوكي والاقتصادي والسيّاسي فكما يقول أفلاطون (إن الجهل أشر الشّرور).
في هذا العالم التّسليعي باتت الإنسانية خاضعة أيضا لمبدأ الربح والصّرف. لأن الفرد أضحى يحدّد علاقته بنفسه على أساس أنه شيء يمكن استخدامه بنجاح في السّوق، كما أصبحت علاقاته مركنتيلية بحتة تحكمها قيم السوق، أي علاقات غير شخصية بين آلات، إن صحّ القول، تتّسم بالأنانية والمصلحة، ففي عدد من مناطق العالم، نشهد معاناة أو موت العديد جرّاء الحروب والفيضانات والمجاعة وأوبئة فتاكة وغيرها. ولكن كلّ هذا لا يحرّك مشاعرنا وإنسانيتنا لأنه لا يعنينا أو لأنه ليس هناك اي مصلحة مالية ربحية من صده أو التّضامن معه. فما كان لنا إلاّ فيروس كورونا لندرك مدى تفاهتنا وجهلنا ووحشيتنا أمام ما يمر به الإنسان في مختلف بقاع المعمور، عزلنا الآن ما هو إلا موت إنساني ينبّهنا بقرب نهايتنا في هذا العالم إن نحن لم ندرك جهلنا وإن لم نوقظ الإنسانيّة فينا.
وما علينا الآن إلا التحلّي بالشّجاعة لنفقأ عيوننا التي لم تكن ترى، كما فعل أوديب، لعلّنا نرى ببصيرتنا ونواجه مصيرنا أمام كورونا ونحن إنسانيّون أكثر ومتحلّون بالمعرفة أكثر، وكما يقول الكاتب ألبير كامو Albert Camus في كتابه (الطاعون): إن كل ما يستطيع الإنسان أن يربحه في معركة الطاعون والحياة هو المعرفة والتذكُّر.
غزلان قتور
مدونة مغربية
26/5/2020
blogs رجل أمام مكتبة
في القرن الخامس قبل الميلاد، كتب سوفوكليس Sophocle مسرحيته الشهيرة أوديب ملكا (Œdipe roi) وهي تحكي أسطورة أوديب الذي يهرب من بلاده كورنثة Corinthe ويتّجه إلى طيبة Thèbes خوفا من قتل أبيه وزواجه من أمّه، في الطريق إلى المدينة، يقتل أوديب شيخا يقابله والذي لم يكن سوى ملك البلاد ووالده الحقيقي لايوس Laios ، ويستمر في الطريق إلى أن يصل الى مقرّ أنثى أبو الهول Sphinge التي تقطن على مشارف المدينة، تقفل الطّرقات وتعترض كل المسافرين بل وتفتك بهم إذا لم يستطيعوا حلّ لغزها : من هو الكائن الذي يمشي على أربع صباحا، وعلى اثنين ظهرا وعلى ثلاث مساء؟.
الوحش الذي طالما أرعب السّاكنة وأفزعها، هزم وانتحر بمجرد سماعه لجواب أوديب الشهير (الإنسان). وهكذا استطاع أوديب تخليص المدينة من شرور وبراثن الوحش، واستطاعت المعرفة والإنسانية التّغلّب على كل القوى الاستبدادية والمدمّرة التي قد تواجه الإنسان، يمكننا القول، أنّ شرط دخول طيبة كان ضرورة تملّك الإنسان للمعرفة والإنسانيّة خصوصا، وإلا لما اللّجوء إلى لغز يتطلّب حلّه الذّكاء الإنساني ويصوّر مضمونه الإنسان في مختلف مراحله؟ بعد دخول أوديب إلى طيبة، سيتزوّج جوكاستا Jocaste زوجة الملك الرّاحل وأمّه التي سينجب منها أربعة أطفال، دون أن يتكلّف عناء السّؤال عمن تكون جوكاستا أساسا ومن يكون زوجها الهالك. بل، ويمكن القول، إن غروره في كونه هزم أعظم الوحوش عماه عن التذكّر والتّفكير في كون جرمه بقتل الشيّخ يتزامن مع مقتل الملك. فما كان له الا (الطّاعون) جزاء لشناعة أفعاله اللاأخلاقية واللاإنسانية ولتفريطه في معرفة الحقيقة.
لقد حقق أوديب مكانة وسلطة كبيرة في مدينته الجديدة بفضل معرفته وشجاعته. فقد واجه أنثى أبو الهول وانتصر انتصاراً ساحقاً عليها. ولكن هل هذا كان كافيا للاستمرار في المدينة؟ بالطبع لا. فكما كان شرطا دخول المدينة هما المعرفة والإنسانية، كان شرطا المكوث فيها كذلك المعرفة والإنسانية. وباء الطّاعون أرغمه على اعادة حساباته والتّفكير مجدّدا في امكانياته المعرفيّة وإنسانيته، بعد استفسار أوديب عن الطّريق الذي مات فيه لايوس، ظهرت له الحقيقة: لقد قتل أباه جاهلًا وتزوّج أمّه بل وأنجب منها، فانهار تمامًا وفقأ عينيه وهو يصيح: ستظلان في الظلمة فلا تريان من كان يجب ألا ترياه، ولا تعرفان من لا أريد أن أعرف بعد اليوم، حتى لا ترى الشمس المقدسة إنسانا دنسًا فعل أكثر الجرائم بشاعة، ثم نفى نفسه حتى ينتهي الوباء.
نشهد معاناة أو موت العديد جرّاء الحروب والفيضانات والمجاعة وأوبئة فتاكة وغيرها. ولكن كلّ هذا لا يحرّك مشاعرنا وإنسانيتنا لأنه لا يعنينا أو لأنه ليس هناك اي مصلحة مالية ربحية من صده
وهكذا خرج من المدينة بعد أن اختلا شرطا المكوث فيها ألا وهما المعرفة والإنسانية. يظهر أن عمى أوديب ملتصق بالمعرفة، فعندما كان مبصرا لم يكن يعرف، وعندما عرف عمي. فإذا كان النور المفاجئ عمى مؤقتا، فالمعرفة المفاجئة كانت له أيضا عمى مؤقّتا، وسيرى بعدها ببصيرته لا ببصره. لأن المعرفة لا توجد دوما في الضوء ولا ترى دوما بالعين ولكنّها قد تكون في الظلمات ويجب التّقصي عنها. أما منفاه فهو في الحقيقة موت رمزي للإنسان فلا إنسانية دون تواجد الإنسان بين الإنسان.
الميثولوجيا الإغريقية تلقي بظلالها على وقتنا الحالي مع بعض من الاختلافات. لأن العالم التسليعي الذي نعيشه اليوم جعل قيمة البضاعة أكثر من قيمة المعرفة والإنسان. فلا شكّ أنه رغم كثرة المعرفة وتوفرّها في الوقت الرّاهن بتوفّر مختلف وسائل المعلوميّات، إلا أن الناس مغمورون في الجهل، العالم الاستهلاكي الحالي يصنع الجهل والتضليل بتسطيح مفهوم الثقافة واختزالها في بعض الفنون الهابطة أو تزييف الحقائق لصالح الشّركات العملاقة التي تدفع الملايين لتجهيل الأفراد حتى تدمن منتجاتها أو خدماتها. فيصبح الإنسان بهذا عاجزا عن إنتاج أي فكر عقلاني هادف أو قيم إنسانيّة سامية، رابطا وجوده بمشتريات وأفكار مستهلكة. وهذا بالفعل ما يسبب الفساد الفكري والروحي والأخلاقي والسلوكي والاقتصادي والسيّاسي فكما يقول أفلاطون (إن الجهل أشر الشّرور).
في هذا العالم التّسليعي باتت الإنسانية خاضعة أيضا لمبدأ الربح والصّرف. لأن الفرد أضحى يحدّد علاقته بنفسه على أساس أنه شيء يمكن استخدامه بنجاح في السّوق، كما أصبحت علاقاته مركنتيلية بحتة تحكمها قيم السوق، أي علاقات غير شخصية بين آلات، إن صحّ القول، تتّسم بالأنانية والمصلحة، ففي عدد من مناطق العالم، نشهد معاناة أو موت العديد جرّاء الحروب والفيضانات والمجاعة وأوبئة فتاكة وغيرها. ولكن كلّ هذا لا يحرّك مشاعرنا وإنسانيتنا لأنه لا يعنينا أو لأنه ليس هناك اي مصلحة مالية ربحية من صده أو التّضامن معه. فما كان لنا إلاّ فيروس كورونا لندرك مدى تفاهتنا وجهلنا ووحشيتنا أمام ما يمر به الإنسان في مختلف بقاع المعمور، عزلنا الآن ما هو إلا موت إنساني ينبّهنا بقرب نهايتنا في هذا العالم إن نحن لم ندرك جهلنا وإن لم نوقظ الإنسانيّة فينا.
وما علينا الآن إلا التحلّي بالشّجاعة لنفقأ عيوننا التي لم تكن ترى، كما فعل أوديب، لعلّنا نرى ببصيرتنا ونواجه مصيرنا أمام كورونا ونحن إنسانيّون أكثر ومتحلّون بالمعرفة أكثر، وكما يقول الكاتب ألبير كامو Albert Camus في كتابه (الطاعون): إن كل ما يستطيع الإنسان أن يربحه في معركة الطاعون والحياة هو المعرفة والتذكُّر.