هل هذه فلسطين؟ معتقلو الرأي: إرهابٌ فكري وقمعٌ للحريات
أشجان عجوز
إنّ حرية التعبير والكلام والمعتقَد مضمونة لجميع فئات الشعب، ويستطيع أيّ مواطن عربي في أيّ بلد عربي أن يدخل على أيّ مسؤول، ويقول ما يشاء، ولكن متى يخرج فهذه مسألة أخرى ــــ محمد الماغوط
كنّا نعتقد بأنّ فلسطين حالة استثنائية في الوطن العربي، وأنّها بعيدة عن ممارسات الاعتقال السياسي، لأنّها البلد العربي الذي يخضع لاستعمار استيطاني اقتلاعي، ويعيش قضية تحرّر وطني. لكن تبيّن أنّ النظام السياسي لسلطة الحكم الذاتي القابعة تحت الاحتلال، لا يختلف عن ديكتاتورية اﻷنظمة العربية التابعة للمنظومة الرأسمالية، وهو جزء من الإرث القمعي القائم على عقلية ذكورية استبدادية تتشابك مع عنف الهيمنة الغربية. تمارس السلطة الفلسطينية، كباقي الدول العربية، الاعتقال المنهجي بحق النقاد وأصحاب الرأي المختلف والمعارضين، إضافة إلى التضييق عليهم لوقف نشاطاتهم. وتقوم القوات الأمنية، خلال الاعتقالات التعسّفية، بمعاقبة وإهانة المعتقلين، واستخدام وسائل تعذيب لا تفْرِق عن تلك التي تُستخدم في سجون الاحتلال، كما وثّقتها المؤسسات الحقوقية.
يُعتبر الاعتقال السياسي ضرباً للهوية الوطنية واضطهاداً وإرهاباً فكريّاً، لا يمكن أن تمارسه سلطة وطنية هدفها الأساس هو النضال ضد الاحتلال. إنّ الاعتقال التعسّفي، بسبب رأي معارض أو تظاهرة بطرق سلمية في بقايا وطن سرقه الاحتلال، يسيء إلى تاريخ الشعب الفلسطيني، فلا يمكن أن تكون سلطة «وطنية» في الضفة الغربية، أو حركة «مقاومة» في قطاع غزة، عندما تمارس فعل الاعتقال. هل يمكن لسلطة ذاتية بلا سيادة ممنوحة من استعمار استيطاني هو امتداد للاستعمار الرأسمالي، أن تكون ديموقراطية؟ هذه التشكيلة لا يمكن أن تحترم الرأي الناقد والمعارض. لقد أشار فرانز فانون إلى أنّ المستعْمَرين يتحاربون في معارك جانبية، وينسون مواجهة المعركة الحقيقية مع المستعْمِر. ويُعتبر الاعتقال السياسي في الديموقراطيات العرجاء والتابعة دليلاً صارخاً على هذه المعارك الداخلية، فهذه سمات الأنظمة المهزومة التي قام فانون بتحليلها سيكولوجياً، ووضّح لنا كيف ينشغل المستعمرون بالصراعات بينهم، لرغبتهم بالشعور بالنصر في انتصاراتٍ وهمية تعوّضهم عن الهزيمة في المعركة الحقيقة ضد المستعْمِر.
يعيش الشعب الفلسطيني حالةً من عدم الثقة بالقيادة الفلسطينية، ويزداد غضب المواطنين الذين ليسوا بحاجة لقهر سياسي وضغط إضافي، في زمن التيه الفلسطيني الذي أصبح أكبر من قدرة الناس على احتماله. إنّ هذه الممارسات القمعية هي إضافة غير محتملة لمعاناة الفلسطينيين من الاحتلال الصهيوني، وما تتعرّض له قضية فلسطين من «صفقة القرن»، حيث يعلن الاحتلال خطةَ الضمّ، وهي المهزلة الأخيرة من فخ أوسلو. ألا يكفي القهر والمعاناة لشعب يرزخ تحت احتلالٍ بغيضٍ، يبطش بالوطن ويقمع حقوقنا الوطنية؟ لا يبرّر قمع الاحتلال السكوت على هذه الانتهاكات، وعدم مقاومتنا لهذا القهر الذي تمارسه قوى الأمن في حق المعارضين. فلا يجوز سلب حرية الرأي، ولكلّ إنسان الحق في الأمن والأمان. تحرج هذه الممارساتُ المناضلين عن حرية فلسطين، خصوصاً أنّ منظمات حقوق الإنسان باتت تدين قمع الحريات على المستوى العالمي، وتنتقد انتهاك السلطات الفلسطينية لمعتقلي الرأي.
ما جرى، أخيراً، من اعتقال الناشطين في الحراك الفلسطيني ضد الفساد من قِبل السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، أثناء وقفة احتجاجية في مدينة رام الله، هو اعتداء على حق الإنسان الفلسطيني بالتعبير عن الرأي والنضال ضد الفساد. يذكّرنا ذلك بمشهد قمع قوات الأمن للمتظاهرين ضد التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، الذي يبيّن الارتباط مع الاحتلال لاحتواء المقاومة وحماية أمن المحتل. وتأتي هذه الاعتقالات ضمن حملة واسعة من الاعتقال السياسي على أيدي السلطات الفلسطينية بقيادة «فتح» في الضفة الغربية، وما يسمّى بإدارة الأمر الواقع بقيادة «حماس» في قطاع غزّة. حيث برزت، في السنوات الماضية، ظاهرة الاعتقالات التعسّفية لقمع الأصوات المعارِضة الصادرة عن الناشطين والصحافيين والكتّاب وطلبة الجامعات. يتمّ اضطهاد واعتقال كلّ من يعبّر عن رفضه لسياسات السلطة ومظاهر الفساد فيها، إمّا بالتظاهر أو بالكتابة، أو فقط لمجرّد التعبير عن الرأي سلمياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
يؤكد هذا الاعتقال لنشطاء الحراك، أنّ لا وجود للحرية وللعدالة، بل التعامل بلغة القوة وشريعة الغاب بقمع الحق في التظاهر السلمي والاحتجاج ضد ظاهرة الفساد. مقاومة الفساد في مؤسسات السلطة جزء أساسي من النضال الوطني، وقد أشار الدكتور عادل سمارة في مقاله «الاقتصاد السياسي للفساد التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية»، إلى أنّ هناك اقتصاداً سياسياً للفساد في ظلّ أوسلو، وكأنّ سلطة الحكم الذاتي ملك مشروع خاص يمنح ويوزّع الوظائف، وهي طبقة مهيمنة وسلطة بلا سيادة ونظامها السياسي نظام رأس المال المتحكّم بالوطن. يبيّن جوزيف مسعد كيف تمّ تحويل النضال الفلسطيني من أجل التحرّر من الاستعمار الصهيوني الاستيطاني إلى مشروع تمكينٍ لرجال الأعمال الفلسطينيين، الطبقة المنتفعة من أوسلو والشرطة الفلسطينية التي تحميهم وتحمي الاحتلال.
اعتقال نشطاء الحراك، الذين يناضلون ضدَّ الفساد، يعني رفض المحاسبة والاستمرار بالمحسوبية واستفحال الفساد في البنية. إنّ رفض الاحتجاج هو حماية للفاسدين وإعطاؤهم الضوء الأخضر لمواصلة فسادهم واستغلالهم، أمّا الطبقات الفقيرة التي تعيش المعاناة في ظلّ احتلالٍ ظالمٍ فهي من يدفع الثمن. يزيد الاعتقال السياسي معاناة أهالي الأسرى، ومن المؤلم أن نرى أمهات الشهداء والأسرى أمام سجون السلطة يطالبن بتحرير أبنائهن، في حين يتمّ الاعتداء على زوجات الأسرى من قبل القوات الأمنية خلال الاعتصامات.
لقد أصبح التعبير عن الرأي جريمة، حيث تقوم القوات الأمنية بتطوير آليات الاضطهاد، من اعتقالات وتعذيب وتهديدات ومضايقات، لقمع المعارضة والنقد السلمي. الاعتقال السياسي هو أداة النظام الاستبدادي، للتعامل مع المعارضين بلغة العنف لسحق المعارضة وتكميم الأفواه. إنّ حرية التعبير هي أبسط حقّ من حقوق الإنسان. الإرهاب الفكري الذي تمارسه القوى الأمنية، هو انتهاك للكرامة الإنسانية. إنّ الأنظمة الديكتاتورية في الوطن العربي، لا تسمح بانتقاد السياسات العامّة ومعارضتها سلمياً، وتضع سقفاً محدّداً للحريات لا يسمح للنقّاد بتجاوزه، وما زال الكثير من المفكّرين والمعارضين يقبعون في السجون بسبب الرأي المخالِف للنظام. وفي فلسطين، ارتفعت وتيرة الاعتقال السياسي، خلال السنوات الماضية، وقامت السلطات باعتقال العشرات بسبب التعبير عن الرأي والانتقاد على وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب آرائهم أو تنظيم نشاطات واحتجاجات. ومع ازدياد حدّة الصراع بين كل من سلطة «فتح» في الضفة و«حماس» في غزة، تزداد الاعتقالات على خلفية الانتماء السياسي، حيث يستهدف كلُّ طرفٍ الطرفَ الآخر. تقوم السلطة في الضفة باعتقال أعضاء «حماس»، وتقوم حركة «حماس» باعتقال نشطاء «فتح». عن أية مصالحة وطنية يتحدّثون، وهم يمارسون الاعتقالات التي تزيد من حدّة الانقسام وتعطي الضوء الأخضر للاحتلال ليزيد في بطشه؟
يتم اتّهام معتقلي الرأي بالتحريض ضد الدولة وبالتطاول على مقامات عليا، فإن كتب أحدهم «سنقاوم ضد السلطة كما نناضل ضد الاحتلال»، يتم اتّهامه بتهديد نظام الدولة والتخطيط لانقلاب. ومن الانتهاكات التي تمارسها أجهزة المخابرات والأمن الوقائي التابعة للسلطة الوطنية في الضفة، أو الأمن الداخلي التابع لـ«حماس» في غزة، التعذيب خلال الاعتقال وإهانة الكرامة في ظروف اعتقال غير إنسانية. وبحسب تقارير المؤسسات الحقوقية، فإنّ أساليب التعذيب هي الشبح، ومنها الخضوع لوضعيات مؤلمة، وهذه الانتهاكات تشبه الممارسات القمعية في السجون الإسرائيلية ضد الأسرى الفلسطينيين. كما أنّ هناك انعدام المساءلة للقوى الأمنية باستعمال القوة وسوء المعاملة والتعذيب، فلا يتم إخضاع عناصر الأمن للمحاكمة بتهمة التعذيب غير المشروع. وهناك طرق أخرى لمعاقبة النقّاد والنشطاء، مثل منعهم من السفر ومصادرة أجهزتهم الإلكترونية، وطلب التعهّد منهم بعدم المشاركة في نشاطات معارضة مستقبلية. وتخترق القوى الأمنية الهواتف وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي، كما تحجب المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي لمعاقبة المعارضين وردعهم.
ترفض روح الشعب الفلسطيني الحرّة التي قاومت الاحتلال بأساليب نضال مختلفة كلَّ أنواع القمع والاضطهاد، ولا تقبل سلب الحرية وإهانة الكرامة الإنسانية. سيستمر الشعب الفلسطيني الحر بابتداع طرقٍ لمقاومة كلّ أشكال القهر، سواء ضد الاحتلال أو السلطة. على سبيل المثال، يقوم المعتقلون السياسيون بالإضراب عن الطعام كوسيلةٍ لحماية كرامتهم، وكما كتبتُ في مقالٍ سابق عنوانه «الأسرى الفلسطينيون ما بين عنف الاحتلال والسلطة الفلسطينية»: «الإضرابُ عن الطعام وسيلة لا يستخدمها المعتقلون السياسيون الفلسطينيون فقط لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن أيضاً للاحتجاج على ممارسات السلطة الفلسطينية. إنّ القوات الأمنية التابعة للسلطة الوطنية، تستخدم الوسائل نفسها التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي، من ممارسات العنف والاعتقال السياسي ضد الأسرى الفلسطينيين. لذا، يلجأ الأسرى إلى استخدام أدوات المقاومة ذاتها لمواجهة عنف السلطة، ومنها الإضراب عن الطعام في السجون الفلسطينية كوسيلة مقاومة لحماية إنسانيّتهم وكرامتهم، ليس فقط من المحتلّ الإسرائيلي نقيضنا الوجودي، ولكن من السلطة الفلسطينية التي من المفترض أن يكون دورُها حماية مناضلي الوطن ورموز الشعب الفلسطيني ومقاومته. بل على العكس، تعمل كوكيل للاحتلال لاحتواء المقاومة، من خلال ما يُسمي التنسيق الأمني، والذي يُبيّن لنا مدى ارتباطها البنيوي مع الاستعمار. وبذا، أضحى هدفها حماية أمن المحتل من خلال التعاقد من الباطن».
لن نقبل أن يذهب نضال الشهداء والأسرى وتضحيات الشعب الفلسطيني أدراج الرياح. وسنظلّ نقاوم كلَّ أشكال القمع والقهر، بابتكار أدوات مقاومة جديدة، حتى تبقى فلسطين التي نحلم بها حرّة.
* باحثة فلسطينية
:::::
أشجان عجوز
إنّ حرية التعبير والكلام والمعتقَد مضمونة لجميع فئات الشعب، ويستطيع أيّ مواطن عربي في أيّ بلد عربي أن يدخل على أيّ مسؤول، ويقول ما يشاء، ولكن متى يخرج فهذه مسألة أخرى ــــ محمد الماغوط
كنّا نعتقد بأنّ فلسطين حالة استثنائية في الوطن العربي، وأنّها بعيدة عن ممارسات الاعتقال السياسي، لأنّها البلد العربي الذي يخضع لاستعمار استيطاني اقتلاعي، ويعيش قضية تحرّر وطني. لكن تبيّن أنّ النظام السياسي لسلطة الحكم الذاتي القابعة تحت الاحتلال، لا يختلف عن ديكتاتورية اﻷنظمة العربية التابعة للمنظومة الرأسمالية، وهو جزء من الإرث القمعي القائم على عقلية ذكورية استبدادية تتشابك مع عنف الهيمنة الغربية. تمارس السلطة الفلسطينية، كباقي الدول العربية، الاعتقال المنهجي بحق النقاد وأصحاب الرأي المختلف والمعارضين، إضافة إلى التضييق عليهم لوقف نشاطاتهم. وتقوم القوات الأمنية، خلال الاعتقالات التعسّفية، بمعاقبة وإهانة المعتقلين، واستخدام وسائل تعذيب لا تفْرِق عن تلك التي تُستخدم في سجون الاحتلال، كما وثّقتها المؤسسات الحقوقية.
يُعتبر الاعتقال السياسي ضرباً للهوية الوطنية واضطهاداً وإرهاباً فكريّاً، لا يمكن أن تمارسه سلطة وطنية هدفها الأساس هو النضال ضد الاحتلال. إنّ الاعتقال التعسّفي، بسبب رأي معارض أو تظاهرة بطرق سلمية في بقايا وطن سرقه الاحتلال، يسيء إلى تاريخ الشعب الفلسطيني، فلا يمكن أن تكون سلطة «وطنية» في الضفة الغربية، أو حركة «مقاومة» في قطاع غزة، عندما تمارس فعل الاعتقال. هل يمكن لسلطة ذاتية بلا سيادة ممنوحة من استعمار استيطاني هو امتداد للاستعمار الرأسمالي، أن تكون ديموقراطية؟ هذه التشكيلة لا يمكن أن تحترم الرأي الناقد والمعارض. لقد أشار فرانز فانون إلى أنّ المستعْمَرين يتحاربون في معارك جانبية، وينسون مواجهة المعركة الحقيقية مع المستعْمِر. ويُعتبر الاعتقال السياسي في الديموقراطيات العرجاء والتابعة دليلاً صارخاً على هذه المعارك الداخلية، فهذه سمات الأنظمة المهزومة التي قام فانون بتحليلها سيكولوجياً، ووضّح لنا كيف ينشغل المستعمرون بالصراعات بينهم، لرغبتهم بالشعور بالنصر في انتصاراتٍ وهمية تعوّضهم عن الهزيمة في المعركة الحقيقة ضد المستعْمِر.
يعيش الشعب الفلسطيني حالةً من عدم الثقة بالقيادة الفلسطينية، ويزداد غضب المواطنين الذين ليسوا بحاجة لقهر سياسي وضغط إضافي، في زمن التيه الفلسطيني الذي أصبح أكبر من قدرة الناس على احتماله. إنّ هذه الممارسات القمعية هي إضافة غير محتملة لمعاناة الفلسطينيين من الاحتلال الصهيوني، وما تتعرّض له قضية فلسطين من «صفقة القرن»، حيث يعلن الاحتلال خطةَ الضمّ، وهي المهزلة الأخيرة من فخ أوسلو. ألا يكفي القهر والمعاناة لشعب يرزخ تحت احتلالٍ بغيضٍ، يبطش بالوطن ويقمع حقوقنا الوطنية؟ لا يبرّر قمع الاحتلال السكوت على هذه الانتهاكات، وعدم مقاومتنا لهذا القهر الذي تمارسه قوى الأمن في حق المعارضين. فلا يجوز سلب حرية الرأي، ولكلّ إنسان الحق في الأمن والأمان. تحرج هذه الممارساتُ المناضلين عن حرية فلسطين، خصوصاً أنّ منظمات حقوق الإنسان باتت تدين قمع الحريات على المستوى العالمي، وتنتقد انتهاك السلطات الفلسطينية لمعتقلي الرأي.
ما جرى، أخيراً، من اعتقال الناشطين في الحراك الفلسطيني ضد الفساد من قِبل السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، أثناء وقفة احتجاجية في مدينة رام الله، هو اعتداء على حق الإنسان الفلسطيني بالتعبير عن الرأي والنضال ضد الفساد. يذكّرنا ذلك بمشهد قمع قوات الأمن للمتظاهرين ضد التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، الذي يبيّن الارتباط مع الاحتلال لاحتواء المقاومة وحماية أمن المحتل. وتأتي هذه الاعتقالات ضمن حملة واسعة من الاعتقال السياسي على أيدي السلطات الفلسطينية بقيادة «فتح» في الضفة الغربية، وما يسمّى بإدارة الأمر الواقع بقيادة «حماس» في قطاع غزّة. حيث برزت، في السنوات الماضية، ظاهرة الاعتقالات التعسّفية لقمع الأصوات المعارِضة الصادرة عن الناشطين والصحافيين والكتّاب وطلبة الجامعات. يتمّ اضطهاد واعتقال كلّ من يعبّر عن رفضه لسياسات السلطة ومظاهر الفساد فيها، إمّا بالتظاهر أو بالكتابة، أو فقط لمجرّد التعبير عن الرأي سلمياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
يؤكد هذا الاعتقال لنشطاء الحراك، أنّ لا وجود للحرية وللعدالة، بل التعامل بلغة القوة وشريعة الغاب بقمع الحق في التظاهر السلمي والاحتجاج ضد ظاهرة الفساد. مقاومة الفساد في مؤسسات السلطة جزء أساسي من النضال الوطني، وقد أشار الدكتور عادل سمارة في مقاله «الاقتصاد السياسي للفساد التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية»، إلى أنّ هناك اقتصاداً سياسياً للفساد في ظلّ أوسلو، وكأنّ سلطة الحكم الذاتي ملك مشروع خاص يمنح ويوزّع الوظائف، وهي طبقة مهيمنة وسلطة بلا سيادة ونظامها السياسي نظام رأس المال المتحكّم بالوطن. يبيّن جوزيف مسعد كيف تمّ تحويل النضال الفلسطيني من أجل التحرّر من الاستعمار الصهيوني الاستيطاني إلى مشروع تمكينٍ لرجال الأعمال الفلسطينيين، الطبقة المنتفعة من أوسلو والشرطة الفلسطينية التي تحميهم وتحمي الاحتلال.
اعتقال نشطاء الحراك، الذين يناضلون ضدَّ الفساد، يعني رفض المحاسبة والاستمرار بالمحسوبية واستفحال الفساد في البنية. إنّ رفض الاحتجاج هو حماية للفاسدين وإعطاؤهم الضوء الأخضر لمواصلة فسادهم واستغلالهم، أمّا الطبقات الفقيرة التي تعيش المعاناة في ظلّ احتلالٍ ظالمٍ فهي من يدفع الثمن. يزيد الاعتقال السياسي معاناة أهالي الأسرى، ومن المؤلم أن نرى أمهات الشهداء والأسرى أمام سجون السلطة يطالبن بتحرير أبنائهن، في حين يتمّ الاعتداء على زوجات الأسرى من قبل القوات الأمنية خلال الاعتصامات.
لقد أصبح التعبير عن الرأي جريمة، حيث تقوم القوات الأمنية بتطوير آليات الاضطهاد، من اعتقالات وتعذيب وتهديدات ومضايقات، لقمع المعارضة والنقد السلمي. الاعتقال السياسي هو أداة النظام الاستبدادي، للتعامل مع المعارضين بلغة العنف لسحق المعارضة وتكميم الأفواه. إنّ حرية التعبير هي أبسط حقّ من حقوق الإنسان. الإرهاب الفكري الذي تمارسه القوى الأمنية، هو انتهاك للكرامة الإنسانية. إنّ الأنظمة الديكتاتورية في الوطن العربي، لا تسمح بانتقاد السياسات العامّة ومعارضتها سلمياً، وتضع سقفاً محدّداً للحريات لا يسمح للنقّاد بتجاوزه، وما زال الكثير من المفكّرين والمعارضين يقبعون في السجون بسبب الرأي المخالِف للنظام. وفي فلسطين، ارتفعت وتيرة الاعتقال السياسي، خلال السنوات الماضية، وقامت السلطات باعتقال العشرات بسبب التعبير عن الرأي والانتقاد على وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب آرائهم أو تنظيم نشاطات واحتجاجات. ومع ازدياد حدّة الصراع بين كل من سلطة «فتح» في الضفة و«حماس» في غزة، تزداد الاعتقالات على خلفية الانتماء السياسي، حيث يستهدف كلُّ طرفٍ الطرفَ الآخر. تقوم السلطة في الضفة باعتقال أعضاء «حماس»، وتقوم حركة «حماس» باعتقال نشطاء «فتح». عن أية مصالحة وطنية يتحدّثون، وهم يمارسون الاعتقالات التي تزيد من حدّة الانقسام وتعطي الضوء الأخضر للاحتلال ليزيد في بطشه؟
يتم اتّهام معتقلي الرأي بالتحريض ضد الدولة وبالتطاول على مقامات عليا، فإن كتب أحدهم «سنقاوم ضد السلطة كما نناضل ضد الاحتلال»، يتم اتّهامه بتهديد نظام الدولة والتخطيط لانقلاب. ومن الانتهاكات التي تمارسها أجهزة المخابرات والأمن الوقائي التابعة للسلطة الوطنية في الضفة، أو الأمن الداخلي التابع لـ«حماس» في غزة، التعذيب خلال الاعتقال وإهانة الكرامة في ظروف اعتقال غير إنسانية. وبحسب تقارير المؤسسات الحقوقية، فإنّ أساليب التعذيب هي الشبح، ومنها الخضوع لوضعيات مؤلمة، وهذه الانتهاكات تشبه الممارسات القمعية في السجون الإسرائيلية ضد الأسرى الفلسطينيين. كما أنّ هناك انعدام المساءلة للقوى الأمنية باستعمال القوة وسوء المعاملة والتعذيب، فلا يتم إخضاع عناصر الأمن للمحاكمة بتهمة التعذيب غير المشروع. وهناك طرق أخرى لمعاقبة النقّاد والنشطاء، مثل منعهم من السفر ومصادرة أجهزتهم الإلكترونية، وطلب التعهّد منهم بعدم المشاركة في نشاطات معارضة مستقبلية. وتخترق القوى الأمنية الهواتف وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي، كما تحجب المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي لمعاقبة المعارضين وردعهم.
ترفض روح الشعب الفلسطيني الحرّة التي قاومت الاحتلال بأساليب نضال مختلفة كلَّ أنواع القمع والاضطهاد، ولا تقبل سلب الحرية وإهانة الكرامة الإنسانية. سيستمر الشعب الفلسطيني الحر بابتداع طرقٍ لمقاومة كلّ أشكال القهر، سواء ضد الاحتلال أو السلطة. على سبيل المثال، يقوم المعتقلون السياسيون بالإضراب عن الطعام كوسيلةٍ لحماية كرامتهم، وكما كتبتُ في مقالٍ سابق عنوانه «الأسرى الفلسطينيون ما بين عنف الاحتلال والسلطة الفلسطينية»: «الإضرابُ عن الطعام وسيلة لا يستخدمها المعتقلون السياسيون الفلسطينيون فقط لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن أيضاً للاحتجاج على ممارسات السلطة الفلسطينية. إنّ القوات الأمنية التابعة للسلطة الوطنية، تستخدم الوسائل نفسها التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي، من ممارسات العنف والاعتقال السياسي ضد الأسرى الفلسطينيين. لذا، يلجأ الأسرى إلى استخدام أدوات المقاومة ذاتها لمواجهة عنف السلطة، ومنها الإضراب عن الطعام في السجون الفلسطينية كوسيلة مقاومة لحماية إنسانيّتهم وكرامتهم، ليس فقط من المحتلّ الإسرائيلي نقيضنا الوجودي، ولكن من السلطة الفلسطينية التي من المفترض أن يكون دورُها حماية مناضلي الوطن ورموز الشعب الفلسطيني ومقاومته. بل على العكس، تعمل كوكيل للاحتلال لاحتواء المقاومة، من خلال ما يُسمي التنسيق الأمني، والذي يُبيّن لنا مدى ارتباطها البنيوي مع الاستعمار. وبذا، أضحى هدفها حماية أمن المحتل من خلال التعاقد من الباطن».
لن نقبل أن يذهب نضال الشهداء والأسرى وتضحيات الشعب الفلسطيني أدراج الرياح. وسنظلّ نقاوم كلَّ أشكال القمع والقهر، بابتكار أدوات مقاومة جديدة، حتى تبقى فلسطين التي نحلم بها حرّة.
* باحثة فلسطينية
:::::