حوار في فوز حزب أردوغان بين الفقه المنضبط وفقه التبرير
أثار فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية حوارات كثيرة وبخاصة على مواقع التواصل، وقد كانت بعمومها جيدة إذ احتوت قدراً من الموضوعية. ولا يضيرها ما شابها من سخونة، إذ هي ليست حواراً بين فقهاء وإنما بين أصحاب توجهات إسلامية ومنهم مشايخ. ومما يعَدُّ تقدماً لصالح الوعي الإسلامي في هذه الحوارات، ما تضمنته مداخلات مؤيدي فوز أردوغان من استدراك على هذا التأييد، وتبيين أنه من باب المقارنة بين سيّئٍ وأسوأ. فقد استدل بعضهم بفرح المسلمين لانتصار الروم على الفرس في إشارةٍ إلى قوله تعالى في سورة الروم: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ). وهذا الاستدلال فيه مشابهة لحزب العدالة بالروم أي بأهل الباطل، وفيه إقرارٌ بأن تأييد انتصاره والفرح به إنما هو من باب المقارنة بين توجه علماني يطبق الكفر ولكنه يحافظ على مظاهر إسلامية، وبين توجه علماني يعادي الإسلام علناً. وهذا الموقف جيد مقارنة بمواقف سابقة، فهو يدل على انكشاف هذا التوجه وترنُّحه. إذ هو استدلال بفريقين مرفوضين ولكنَّ أحدهما أشد كفراً من الآخر!
أكد بعض المحاورين أن حزب العدالة علماني علناً وبنص دستوره، وأكد أيضاً أن العلمانية كفر، ومع ذلك أيَّد أردوغان وحزبه. ورغم ما في هذا الأمر من تناقض مثير، فهو ينطوي على إيجابية مستجدة، هي التردد والتناقض في تبريرات المؤيدين.
ولا يزال الأمر يحتاج لحوار فيما يتعلق بصحة الاستدلالات. إذ لا يجوز الاستدلال بما لا يدل، بدافع الأهواء أو موافقة الأجواء. ففرحُ المسلم لظهور الأقل كفراً على الأشد أمر مفهوم، ولا يصح أن يفرح المسلم لانتصار الكافر أو الفاسق المبغض للإسلام والمسلمين، على المسلم الذي يحب الإسلام والمسلمين.
أما أن يكون المراد بالفرح التأييد والاحتفال والتهنئة بانتصار التوجه العلماني، فهذا لا تدل عليه آيات سورة الروم، بل تنهى عنه النصوص الشرعية وتعده من مرض القلوب وزيغها.
ذكر البعض تبريراتٍ تندرج كلها تحت قوله تعالى: (... فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: 52]. وذكر البعض استدلالات هي في حقيقتها تبريرات، ولكنها تنطلي على كثير من الناس ومن المشايخ. وسبب ذلك أولاً الجهلُ بالأحكام وبأصول الفقهِ وقواعد الاستدلالِ، ثم والأهواءُ، وما ران على القلوب من مفاهيم خاطئة. فشاعت استدلالات لو فقهها أصحابها لأدركوا أنهم يهدمون بها العلم. وهي استدلالات، إن اشتبهت على ذي علمٍ بادئ الرأي، فلا تلبث أن تنكشف، ولا يحصل الاستدلال بها أصلاً إلا لأجل التحريف أو التضليل، قال تعالى: (... فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ...). وبين الفتنة والتأويل ينحصر مبتغى المبررين؛ بين ابتغاء الفتنة وبين ليّ أعناق النصوص ليزعموا دلالتها على ما لا تدل عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولْيَعْلَمِ الذين يستعملون نصوصاً وقواعد فقهية بشكل تبريري خاطئ أن ما يقومون به خطير. وسأبيِّن في هذا المقام ما يوضح دلالاتِ بعض النصوص، وتطبيقاتِ بعض القواعد الفقهية، فإن هذا يُذَكِّر وينفع المؤمنين.
يستدل البعض بقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة التغابن: 16]، ويذهب آخرون إلى القاعدة الشرعية أهون الشرين، أو أخف الضررين، أو أقل الحرامين. وإلى جلب المصالح ودرء المفاسد، أو أحكام الضرورات، أو ما يدور حول هذه المعاني. وعند البحث يتبين أنهم لا إحاطة لهم بما يقولون.
أما الآية فيستدلون بها على نقيض ما تدل عليه، فهي تقول اتقوا الله إلى أقصى حد تستطيعونه، ولا خلاف في دلالتها على أن على المكلف القيام بما أمره به الله تعالى، واجتناب ما نهاه عنه إلى أقصى حد يستطيعه، فأين في هذا جواز تأييد العلماني أو مناصرته في علمانيته أو في حكمه بغير ما أنزل الله! لا خلاف في أن أردوغان يطبق الحرام، فهل انتفت الاستطاعة عند هؤلاء المؤيدين وصاروا عاجزين عن اجتناب نصرة فاعل المنكر، هل هم مضطرون أن ينصروا الظالم أو أن يُروِّجوا له؟ هل هم عاجزون عن أن يقفوا الموقف الشرعي ويقولوا نرفض هذا المنكر ونرفض ذاك المنكر بغض النظر عن أيهما أكبر؟ ألم يكن لهم أسوة في رسول الله [rtl]r[/rtl] ليكونوا على المحجة البيضاء، فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بل ملةَ إبراهيم؛ (وَجَّهْتُ وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين) وإذا افترضنا أن بعض الناس لا يستطيعون حمل الدعوة بيضاء نقية متأسين بالنبي [rtl]r[/rtl]، أفلا يستطيعون أن يجلسوا في بيوتهم ويتجنبوا الحرام ويكفوا أذى تبريراتهم عن الناس؟! أليس من معاني أمره سبحانه وتعالى أن يتقوا الله قدر استطاعتهم تجنب التصفيق للمنكر؟!
أضيف: أليس من أصول الفقه أن نفهم الظنيات أو المتشابهات بإرجاعها إلى القطعيات، أو إلى الواضحات والمعلومات؟ فأين ذهبوا بقوله [rtl]r[/rtl]: «... فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، رواه البخاري. والمعنى أن رفع التكليف هو رفع الوجوب عند عدم القدرة، وليس إذنا بفعل المنكر فـلْـيُـفْـهَم. وعلى ذلك فإن التبرير بالآية (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) خطأ، وبهذا الحديث تفهم هذه الآية.
ومثل ذلك يقال للمبررين بقاعدة "أهون الشرين"، وهو تبرير لطالما فعله مشايخ لا علم لهم بالقاعدة، ولكن يتشدقون. فالمعلوم بلا خلاف أن فعل أيٍّ من الشرين حرام، ويجب تجنب الضررين كليهما، والواجب رفعهما وإزالتهما. والقاعدة التي هي من أعمِّ القواعد الفقهية وفيها جِماعُ علمٍ تقول: "الضرر يزال". والحديث: «لا ضرر ولا ضرار...» حسنٌ ولا خلاف في دلالته. فكيف يُفْتى بفعل أحد الحرامَيْن؟ وهل "أخف الضررين" نصٌ شرعيٌ أصلاً؟ فكيف يُترك الحديث بها؟
نعم، هناك موضع لإعمال قاعدة أخف الضررين أو أقلّ الحرامين، ولكنه استثناء من الأصل وله شروطه، وبغير تلك الشروط لا محل للقاعدة. إن من شروط إعمال هذه القاعدة أن يتزاحم الحرامان على المكلف في وقتٍ واحد بحيث إذا ترك أحدَهما وقع الآخر، ولا يستطيع تركهما معاً. هذه هي حالة إعمال القاعدة، وهي وضع خارج عن وسع المكلف. لذلك يصبح عليه أن يجتنب الأشد حرمةً. هذا هو فقه الفقهاء والأصوليين في هذا الأمر، كما بيَّن عز الدين بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، والشاطبي في كتابه "الموافقات" وغيرهما. وقد ضربوا لذلك أمثلة كثيرة، منها مثال التترس المشهور، ومثال السفينة التي تغرق كلها إذا لم يتخففوا بإلقاء بعض ما أو من عليها. ومن أمثلتها اليوم أن يُصاب عضو من الجسد بمرض، فإما أن يُبتر العضو وإما أن يهلك المرء. فهنا لا خيار للمرء إلا أحد الحرامين أو الضررين، لأن أحدهما واقع لا محالة. وهنا أسأل المبررين وبخاصة من المشايخ: أين وجدتم محلاً لهذه القاعدة في مناصرة الظالم أو تهنئته على كفره أو ظلمه ومنكره؟ ألم تجدوا خياراً ثالثاً أو غير المُنْكَرَيْن! ألم تستطيعوا تجنُّب مباشرة الحرامين كليهما، وتجنيب الناس ذلك أيضاً؟!
ثم ألا يرى ويدرك كل متابع لمواقف أردوغان وحزبه منذ 13 عاماً في الحكم أنه عضو في الناتو ويشارك بجيشه مع جيوش الكفر ضد البلد المسلم أفغانستان! هو أقرب جار لسوريا المنكوبة والمذبوحة يومياً منذ عدة سنوات، فأين «المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يُسلمه» وأين (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)؟ لماذا يتشرد أهل سوريا ويغرقون في البحر، ويلجؤون إلى أوروبا التي تذلهم وبجانبهم تركيا، لماذا؟! هل هكذا يكون حفيد سلاطين العثمانيين أم أن هذه صفات حفيد مصطفى كمال؟!
وكم مرةً قامت دولة يهود بمجازرها ضد أهل فلسطين وضد أهل لبنان! فأين نصرة تركيا أردوغان للمسلمين؟ ولماذا نرى بدلاً من ذلك علاقات اقتصادية وتبادل سفارات مع كيان يهود أشدِّ الناس عداوةً للذين آمنوا؟!
وهذا ناهيك عن حرية الزنا والربا والخمر وبيوت الدعارة و... وسائر قوانين الكفر. ومن الغرائب قول بعض الإخوة بأن تطبيق الإسلام يكون بالتدرج، فهل من التدرج الانتقال من حرية الزنا إلى حرية اللواط، ومن اللباس الخليع إلى فتح شاطئ للعراة؟!... ولن أزيد الواضح توضيحاً ولكن أقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [سورة الصف: 2-3].
يبرر بعضهم بأنه لا يمكنهم تطبيق الإسلام في هذه الظروف. وهذا الآن دليلٌ على حاجة هؤلاء الماسة لتفهيم وتوعية؛ وذلك أن الدولة كيان حكم وتنفيذ، والحكم بالإسلام فرض، فمن كان لا يستطيع الحكم بالإسلام فلا يجوز له الحكم بالكفر. والواجب حمل الدعوة والتوعية إلى أن يحصل التمكين فيأتي الحكم بما أنزل الله.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد تبين أعلاه أن من لا يستطيع فعل الواجب فلا يجوز له فعل الحرام. وبهذا يتبين أن هذه التبريرات لا تخلو من جهل وهوى وتحلل من الشرع. وحقاً إنها: (... لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). [سورة الحج: 46].
وأخيراً، ما زال في الموضوع مسائل، كالتبرير بالضرورات أو التدرج أو المصالح والمفاسد والموازنة بين كل منهما، علماً بأن غالبية هذه العناوين ترجع في لبِّها إلى ما تم بيانه حول الاستطاعة وأهون الشرين. ولعل فيما تبين أعلاه ما يدفع الإخوة المبررين للاتعاظ وإعادة النظر. وأختم بحديث شريف يزيد الأمر بياناً وتأكيداً وتذكيراً. روى البخاري ومسلم عن النبي [rtl]r[/rtl] أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت».
بقلم: الأستاذ محمود عبد الكريم حسن