بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام البيّنات
أحكام البيِّنات كباقي الأحكام الإسلامية أحكام شرعية مستنبطة من أدلتها التفصيلية. والبينات إما أن تكون على المعاملات وإما أن تكون على العقوبات، إلا أن الفقهاء لم يفصّلوا بين أحكام البينات في المعاملات عن أحكام البينات في العقوبات، فذكروها كلها في كتاب الشهادات، وأكملوا بعض أبحاثها في كتاب الأقضية وفي كتاب الدعوى والبينات، وبيّنوا في بحث بعض العقوبات بعض البينات لأنها شرط من شروطها وجزء من أبحاثها.
والبينة هي كل ما يبين الدعوى وهي حجة المدعي على دعواه. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» وأخرج البيهقي بإسناد صحيح عن النبي أنه قال: «البيَّنة على المدعي واليمين على من أنكر» فالبينة هي حجة المدعي التي يثبت بها دعواه. فهي برهان لإثبات الدعوى، فلا تكون بينة إلا إذا كانت قطعية يقينية، فلا يصح لأحد أن يشهد إلا بناء على علم أي بناء على يقين، فلا تصح الشهادة بناء على الظن، ولذلك قال النبي للشاهد: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» فما جاء عن طريق المعاينة أو ما هو من قبيلها مثل أن يأتي عن طريق إحدى الحواس وكان مقطوعاً بتمييز المحسوس وكان ذلك عن علم أي عن يقين فيجوز للإنسان أن يشهد به وما لم يأت عن هذا الطريق لا تجوز الشهادة به لأنها لا تكون إلا عن يقين، فإذا كانت عن يقين كشهادة التسامع بما تصح به كالنكاح والنسب والموت وما شابهها فإنه حينئذ يجوز للشاهد أن يشهد لأنه متيقن ولكن لا يفسر ذلك بشهادته، لأن اليقين لازم له حتى يصح أن يشهد.
وكذلك اليمين لا بد أن تكون عن يقين مقطوع به، فالمدعي حين يحلف لإثبات دعواه في حالة أن ليس لديه إلا شاهد واحد في دعاوى الأموال وما شابهها، والمدعى عليه حين يحلف عند عجز المدعي عن إثبات دعواه لا يصح لكل منهما أن يحلف إلا عن يقين مقطوع به، فإن كان عن ظن فلا يصح أن يحلف أي منهما عن ظن. ولهذا أوعد الله على اليمين الغموس وعيداً كبيراً، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، والفرار يوم الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق» وأخرج البخاري من حديث ابن عمرو جاء أعرابي إلى النبي فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: «الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، والفرار يوم الزحف، واليمين الغموس» فهذا دليل على أن اليمين لا تكون إلا عن يقين.
ومثل الشهادة واليمين سائر البينات وهي الإقرار ودفاتر التجار وسائر المستندات الخطية فإنه لا بد أن تكون قطعية يقينية فلا يصح أن تكون ظنية لأن البينات برهان لإثبات الدعوى وحجة المدعي على دعواه، والبرهان والحجة لا تكون حجة ولا يكون برهاناً إلا إذا كان مقطوعاً به.
غير أن كون البينات مبنية على العلم أي اليقين لا يعني أن الحكم بها مبني على اليقين، ولا يعني أن الحكم بها واجب على القاضي، وإنما يعني فقط ذاتها، أي أنها هي لا يصح أن تكون إلا يقينية. أما الحكم بها فليس كذلك. وذلك لأن الحكم مبني على غلبة الظن لا على اليقين، لأن الله يقول للرسول: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ أي بما تراه من الرأي، وهو يشمل الرأي الصادر عن يقين والرأي الصادر عن الظن، والرسول قد حكم في قضية وقال ما يدل على أن حكمه كان بناء على غلبة الظن، عن أم سلمة أن النبي قال: «إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فهذا دليل على أن القاضي يحكم بالظن، على أن الرسول قد صرح بأن الحاكم يحكم بالظن فعن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» فهذا كله دليل على أن كون الشهادة يقينية لا يعني أن الحكم مبني على اليقين بل هو مبني على غلبة الظن.
وأما مسألة أن كون الشهادة لا تكون إلا عن يقين لا يعني أن الحكم بها واجب على القاضي، فذلك لأنها عن يقين عند الشاهد، وأما القاضي فقد يكون لديه واقع يناقض هذه الشهادة بل قد يكون لديه نص قطعي يناقض هذه الشهادة، وقد يغلب على ظنه كذب الشاهد، ولذلك لا يلزم القاضي بالحكم بالشهادة ولو كانت عن يقين بل له أن يحكم بها وله أن يردها.