قصة بقلم : مريم الضاني
" نوّارة "
أقسم أن نوّارة تجلس بقربي؛ فرائحتها التي لم أشمها منذ خمسة عشر عامًا تفوح حولي تارة وتخبو تارة! ... رائحة غريبة : كأنها مزيج من روائح الحنّاء والكتب والمطر. أنهض من مجلسي وأسير مقتفيةً أثر الرائحة، أبحث عنها طويلًا بين النسوة المبثوثات على السجاجيد الحمراء، في أفياء المسجد النبوي، ثم أنقلب إلى مكاني حسرى .
أتخيّلها في قاعة إعداد معلمات القرآن الكريم وهي تُخرِج من حقيبتها مصحفها المضمّخ بدهن العود، وتقلّب أوراقه الزرقاء اللون ، فيسود المكان خشوع وصمت وترقّب . يترقرق صوتها بالتلاوة مزمارًا داووديًا وأتساءل حيرى: هل انبعث من حنجرتها أم من الجَنّة ؟: (بسم الله الرحمن الرحيم. الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.) فأصغي إليها بكل ذرة مني؛ وما تلبث أن تنقشع الحجب من أمامي، وتنداح نسم الأنس بالله ، وأرى الملائكة متراصّة، تحفّنا بأجنحتها حتى السماء، ثم يفجّ في الحلقة نور، أكاد من شدة سطوعه لا أبصر شيئًا... عندها أذوب بفيض الرحمة والجلال، ولا أفيق من سياحتي تلك حتى ترتجف شفتا نوّارة عند نهاية السورة، وهي تغالب البكاء.
كانت نظراتي كل صباح تنزلق عن وجوه الزميلات ثم تستقرّ على وجهها المستدير النّضر ذي الابتسامة الدائمة، والشفتين الورديتين الرقيقتين، والعينين الرماديتين اللتين أطلّ منهما على فضاء مشرق سرمدي ، وأتفرّس في النور المتدفق من أعماقها ،المؤتلق على قسماتها... نور فريد لم أره في وجه أحد سواها، !. كأني أسمع صوتها الخفيض العميق، بعد خلوّ القاعة من الزميلات، ذات يوم غائم، إذ تناجي الله سبحانه : "فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب .وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب ".
أسندتُ ظهري إلى السارية ، وفتحتُ مصحفي . شرعتُ أرتّل فتراءت لي وهي تلج تلك القاعة يهفّ ذيل عباءتها وراءها ، تسير بخطىً هادئة، ثم تخلع عباءتها وتطويها بعناية . تحيّيني بنظراتها الصافية المخبتة ، تمسّد بأصابعها شعرها الأسود النظيف المدهون بزيت الزيتون، ثم تجلس بجواري، وينسم أريجها؛ فأنشي وأقول لنفسي : ما أجمل الحياة!.
كأني أراها حين تلمح زوابع الكمد في وجهي؛ فتشدّ على يدي قائلةً بنبرة
حانية تهتن على زهوري الذابلة : صبر جميل يا أخيّة؛ فماهي إلا أيام قلائل وتنقضي! "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل" ..ثم تتنهد وتحسو شايها الخفيف، وأتأمل أوراق النعناع الخضراء كيف تسْبَح بسلام بين أصابعها التي تحتضن الكأس، كانت تحدثني بأسىً عن زوجها المشلول الذي تمرّضه، وعن آلام ظهرها وذراعيها من جرّاء حمله وتقليبه على السرير، وأجرة بيتها التي أثقلت كاهلها، و شوقها لأهلها الذين لم تسافر إليهم منذ أمد بعيد ، و تسرح؛ فأرى في عينيها وجوههم، وبيوتهم، وسحابهم، ثم تغمغم : المؤمن مبتلى ! .
لو أني أراها الآن وهي تلمّ أشياءها وكتابها الذي لا يفارق حقيبتها "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" وترتدي عباءتها ثم تنصرف من القاعة ...يتناغم تسبيحها مع وقع خطاها في الممر. أرنو إليها من النافذة ؛ فيخيّل إليّ أنها طارت حمامة إلى أسطح الحرَم .م نحو
ترى أين نوارة الآن، وماذا حلّ بها ؟ .
تساؤل يطلّ عليّ من شروخ أيامي حين يثقلني الطين، وأشتاق نفحةً علوية .
بعض المعلمات اللاتي درسن معنا قلن إنها استقالت من التدريس لتتفرغ لخدمة زوجها، وإنّ أهل الخير وهبوها بيتًا قديمًا في أطراف المدينة ، وبعضهن قلن إن زوجها توفي قبل بضعة أعوام؛ فسافرَت إلى بلدها ولم تعد ، وقالت لي إحداهن إنها توفيت في حادث مروري .
مسحتُ دمعة طفرت من عيني، ونهضت من مجلسي .تهيأت لمغادرة المسجد، فلمحتها وهي ترتدي حذاءها عند بوابة قريبة مني.شخصتُ إليها ذاهلةً... يا الله ! هو ذا وجهها الجميل!، ولكنه فقد بعض استدارته، فمها الرقيق مالت زاويتاه لأسفل، وعيناها الرماديتان ذوتا... تبدو هزيلةً مكدودةً، إلا أن هالة الضوء مازالت تحفّها . لا أعلم كم من الوقت مضى وأنا ماثلة في مكاني أحاول تصديق عينيّ، وحين تحرّكَت قدماي للّحاق بها ساختا في رمال الدهشة . . لوّحتُ لها بيديّ وناديتها مرارًا، إلا أن صوتي اختنق وهوى في أعماقي المصطخبة . سارت متمهلةً في ساحة الحرم الخارجية، وهواء الضحى يلاحق أذيال عباءتها . تناءت عن ناظريّ رويدًا حتى بدت لي نقطة مشعّة في سديم الساحات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
من قصص مجموعتي الثالثة القادمة بحول الله .