بين "الأمّة" و"الأزمة" حرف ..
بين "الأمّة" و"الأزمة" حرف ..
"الزاي" حرف من الحروف الأبجدية إذا اقتحم لفظ الـ"أمة" حوّلها إلى "أزمة" ..
استرعت هذه الملاحظة انتباهي، فتداعى إلى ذاكرتي قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً".
لفظ "أزّ" بحسب معاجم اللغة يعني: التهييج والإغراء، وهو قريب المعنى من "هزّ" التي تُستخدم لتعبّر عن التحريك المادّي للأشياء، و"حثّ" التي تعبّر عن الدفع والتحضيض المعنوي للأشخاص، إلاّ أن "أزّ" تعني "أن تحمل إنساناً على القيام بأمرٍ ما بحيلة ورفق حتى يفعله"، فهل من علاقة بين لفظ "أزّ" القرآنية وما يجري على الأمة من أحداث لكي تتحوّل العلاقات بين أبنائها إلى (أزمة)؟ وهل هي أزمة فعلية أو مفتعلة؟ ومن ذا الذي "يؤزّ" أبناء الأمة؟
(الأمة) .. كلمة بتنا نسمعها ونكرّرها كثيراً وإن اختلفنا في تقييدها أهي الأمة العربية، أو أمّة الإسلام، أو أمة الإنسانية؟ وفي الحقيقة لا فرق جوهري إن نظرنا إلى المشتركات التي تجمع بينها، فلفظ "أَمًَ" بالفتح يعني القصد، و(الأمة) تعني الجماعة التي لديها مقصد ومأمّ وهدف واحد تتجه لتحقيقه أو الوصول إليه، فإذا تبنّينا المعنى الأشمل، فإن الإنسانية تطمح لتحقيق مبادئ الخير والسلام في العالم بعيداً عن فوارق اللون والدين والقومية والجنس أو الجنسية وغيرها، وإذا انحدرنا إلى المعنى الأضيق تزداد المشتركات وتُختزل الاختلافات فبينما تختلف أمة الإنسانية في الديانة التي يعتنقها أفرادها: مسلمة، مسيحية، يهودية، بوذية، هندوسية.. وغيرها، فإن أمّة الإسلام تشترك في دين واحد وإن تنوّعت مذاهبها، وهكذا إلى أن نصل إلى الدائرة الأضيق لتجتمع الأمة العربية على مزيد من المشتركات تؤهّلها لمزيد من التوادّ والتلاحم، ولكن عجباً نرى أنّ الواقع يعكس صورة مناقضة لهذه الحقيقة.
في ذكرى مولد خير البرية (ص) لن ننكأ الجراح وكفانا تجرّعاً للغصص، ففي هذه المناسبة السعيدة نحن بحاجة لنعيش لحظات فرح وأمل ننفتح بها على سيرته (ص) لنستلهم منها ما يعيننا على إبطال مفعول "أزيز" شياطين الإنس الذين يوقعون بين أبناء الأمة بالنبش في الماضي البائد، وتثوير الخلافات التاريخية والنفخ فيها، وبفتاوى التكفير، وبطولات التفخيخ والتفجير والتقاتل بين الأخوة في الدين والعقيدة، فنقف وقفة تأمّل مع بعض بنود "صحيفة المدينة"، التي كانت بمثابة عقد اجتماعي موثّق بين شرائح مجتمع المدينة المتنوع من يهود ومسيحيين ومسلمين، ومهاجرين وأنصار.
"هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ إنهم (أمة واحدة) من دون الناس .." إلى أن قال: ".. وأن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة (مع المؤمنين)، لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلاّ من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلاّ نفسه وأهل بيته .." وفي موقع آخر من الصحيفة يقول: "يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة .. وإنّ بين جميع المتعاقدين النصح والنصيحة والبر دون الإثم ... وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم ..".
فانظر كيف اعتبر رسول الله (ص) اليهود الموقّعين على هذه الوثيقة (أمة مع المؤمنين)!، وترك لهم خيار "حرية الاعتقاد"، هم ومواليهم، ثم جعل جوف يثرب (حرام) لأهل هذه الصحيفة! وغيرها الكثير من البنود التي وضعت أساساً للسلم الاجتماعي في دولة حديثة العهد ومحفوفة بالأعداء والمخاطر، فهل نطمح أن يخرج في هذه الأمة رجل رشيد ليقول بعلو صوته: "إن جوف بغداد، وسامراء، والنجف، وكربلاء حرام لكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"؟ وهل نطمع أن يتعامل المسلمون من المذاهب المختلفة في العراق وباكستان والكويت ولبنان والبحرين مع بعضهم كتعامل الرسول مع يهود المدينة الذين وقّعوا هذه الوثيقة رغم ما هو معروف عن كثيرهم من نقض للعهود والمواثيق؟! أم أن المسلمين (الطائفيين) أكثر غيرة على الإسلام اليوم من غيرة رسول الله (ص) عليه آنذاك .. فسبحان الله .. وهل تعلو العين على الحاجب، فما أقبح ذلك!!
"خلّوا بيني وبين الناس .. ليسمعوا كلمة لا إله إلاّ الله" .. كان هذا مطلب رسول الله (ص) الوحيد من أعدائه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة حيث كان يطالبهم بأن يتركوا للناس حرية الاستماع لكلمة (التوحيد) ليتاح لهم بعد ذلك حرية اختيار الإيمان بها والعمل بمقتضاها أو عدم الإيمان بها، وهذا المبدأ نفسه المعبَّر عنه كأحد أهم مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحت بند "حرية الاعتقاد" أو "حرية الضمير"، وسيبقى هذا هو مطلب كل مصلح وحقوقي يسعى للتأليف بين أبناء الأمة الإنسانية الواحدة، ويؤمن بأن من حقّ كل إنسان أن يختار مصيره بلا إكراه، لعلمنا جميعاً بأن الإكراه في الدين لا يخلق مؤمنين بل يخلق منافقين.
أسبوع الوحدة بين الثاني عشر من ربيع الأول والسابع عشر منه فرصة مواتية لنزع فتيل (الأزمة) بين أبناء (الأمة الواحدة) بأن تكفّ القيادات الدينية التي تستغلّ الدين لصالح مكاسبها السياسية عن "أزيز الشياطين" المتمثّل في التجييش الطائفي وبث الأحقاد المذهبية، وتخلّي بين الناس وفطرتهم ليمارسوا تعقّلهم ويعودوا "أمة " بلا "أزمة".
أ.رابحة الزيرة
جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين
بين "الأمّة" و"الأزمة" حرف ..
"الزاي" حرف من الحروف الأبجدية إذا اقتحم لفظ الـ"أمة" حوّلها إلى "أزمة" ..
استرعت هذه الملاحظة انتباهي، فتداعى إلى ذاكرتي قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً".
لفظ "أزّ" بحسب معاجم اللغة يعني: التهييج والإغراء، وهو قريب المعنى من "هزّ" التي تُستخدم لتعبّر عن التحريك المادّي للأشياء، و"حثّ" التي تعبّر عن الدفع والتحضيض المعنوي للأشخاص، إلاّ أن "أزّ" تعني "أن تحمل إنساناً على القيام بأمرٍ ما بحيلة ورفق حتى يفعله"، فهل من علاقة بين لفظ "أزّ" القرآنية وما يجري على الأمة من أحداث لكي تتحوّل العلاقات بين أبنائها إلى (أزمة)؟ وهل هي أزمة فعلية أو مفتعلة؟ ومن ذا الذي "يؤزّ" أبناء الأمة؟
(الأمة) .. كلمة بتنا نسمعها ونكرّرها كثيراً وإن اختلفنا في تقييدها أهي الأمة العربية، أو أمّة الإسلام، أو أمة الإنسانية؟ وفي الحقيقة لا فرق جوهري إن نظرنا إلى المشتركات التي تجمع بينها، فلفظ "أَمًَ" بالفتح يعني القصد، و(الأمة) تعني الجماعة التي لديها مقصد ومأمّ وهدف واحد تتجه لتحقيقه أو الوصول إليه، فإذا تبنّينا المعنى الأشمل، فإن الإنسانية تطمح لتحقيق مبادئ الخير والسلام في العالم بعيداً عن فوارق اللون والدين والقومية والجنس أو الجنسية وغيرها، وإذا انحدرنا إلى المعنى الأضيق تزداد المشتركات وتُختزل الاختلافات فبينما تختلف أمة الإنسانية في الديانة التي يعتنقها أفرادها: مسلمة، مسيحية، يهودية، بوذية، هندوسية.. وغيرها، فإن أمّة الإسلام تشترك في دين واحد وإن تنوّعت مذاهبها، وهكذا إلى أن نصل إلى الدائرة الأضيق لتجتمع الأمة العربية على مزيد من المشتركات تؤهّلها لمزيد من التوادّ والتلاحم، ولكن عجباً نرى أنّ الواقع يعكس صورة مناقضة لهذه الحقيقة.
في ذكرى مولد خير البرية (ص) لن ننكأ الجراح وكفانا تجرّعاً للغصص، ففي هذه المناسبة السعيدة نحن بحاجة لنعيش لحظات فرح وأمل ننفتح بها على سيرته (ص) لنستلهم منها ما يعيننا على إبطال مفعول "أزيز" شياطين الإنس الذين يوقعون بين أبناء الأمة بالنبش في الماضي البائد، وتثوير الخلافات التاريخية والنفخ فيها، وبفتاوى التكفير، وبطولات التفخيخ والتفجير والتقاتل بين الأخوة في الدين والعقيدة، فنقف وقفة تأمّل مع بعض بنود "صحيفة المدينة"، التي كانت بمثابة عقد اجتماعي موثّق بين شرائح مجتمع المدينة المتنوع من يهود ومسيحيين ومسلمين، ومهاجرين وأنصار.
"هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ إنهم (أمة واحدة) من دون الناس .." إلى أن قال: ".. وأن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة (مع المؤمنين)، لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلاّ من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلاّ نفسه وأهل بيته .." وفي موقع آخر من الصحيفة يقول: "يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة .. وإنّ بين جميع المتعاقدين النصح والنصيحة والبر دون الإثم ... وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم ..".
فانظر كيف اعتبر رسول الله (ص) اليهود الموقّعين على هذه الوثيقة (أمة مع المؤمنين)!، وترك لهم خيار "حرية الاعتقاد"، هم ومواليهم، ثم جعل جوف يثرب (حرام) لأهل هذه الصحيفة! وغيرها الكثير من البنود التي وضعت أساساً للسلم الاجتماعي في دولة حديثة العهد ومحفوفة بالأعداء والمخاطر، فهل نطمح أن يخرج في هذه الأمة رجل رشيد ليقول بعلو صوته: "إن جوف بغداد، وسامراء، والنجف، وكربلاء حرام لكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"؟ وهل نطمع أن يتعامل المسلمون من المذاهب المختلفة في العراق وباكستان والكويت ولبنان والبحرين مع بعضهم كتعامل الرسول مع يهود المدينة الذين وقّعوا هذه الوثيقة رغم ما هو معروف عن كثيرهم من نقض للعهود والمواثيق؟! أم أن المسلمين (الطائفيين) أكثر غيرة على الإسلام اليوم من غيرة رسول الله (ص) عليه آنذاك .. فسبحان الله .. وهل تعلو العين على الحاجب، فما أقبح ذلك!!
"خلّوا بيني وبين الناس .. ليسمعوا كلمة لا إله إلاّ الله" .. كان هذا مطلب رسول الله (ص) الوحيد من أعدائه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة حيث كان يطالبهم بأن يتركوا للناس حرية الاستماع لكلمة (التوحيد) ليتاح لهم بعد ذلك حرية اختيار الإيمان بها والعمل بمقتضاها أو عدم الإيمان بها، وهذا المبدأ نفسه المعبَّر عنه كأحد أهم مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحت بند "حرية الاعتقاد" أو "حرية الضمير"، وسيبقى هذا هو مطلب كل مصلح وحقوقي يسعى للتأليف بين أبناء الأمة الإنسانية الواحدة، ويؤمن بأن من حقّ كل إنسان أن يختار مصيره بلا إكراه، لعلمنا جميعاً بأن الإكراه في الدين لا يخلق مؤمنين بل يخلق منافقين.
أسبوع الوحدة بين الثاني عشر من ربيع الأول والسابع عشر منه فرصة مواتية لنزع فتيل (الأزمة) بين أبناء (الأمة الواحدة) بأن تكفّ القيادات الدينية التي تستغلّ الدين لصالح مكاسبها السياسية عن "أزيز الشياطين" المتمثّل في التجييش الطائفي وبث الأحقاد المذهبية، وتخلّي بين الناس وفطرتهم ليمارسوا تعقّلهم ويعودوا "أمة " بلا "أزمة".
أ.رابحة الزيرة
جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين