"الانتبدات البريطاني لفلسطين": أو "الاحتلال البريطاني" بحسب تسمية "عصبة الأمم" والتي أقرته رسميا في 11 أيلول/ سبتمبر 1922، حيث كانت فلسطين حتى العام 1914 ضمن حدود الدولة العثمانية لتشكل الحدود الإدارية لمتصرفية القدس، وبعد أن دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى بجانب الألمان خسرت كافة أراضيها في البلاد العربية لصالح بريطانيا وفرنسا بحسب معاهدة "سيفر" الموقعة عام 1920 ومعاهدة "لوزان" الموقعة عام 1923.
وكانت كل من بريطانيا وفرنسا قد وقعتا اتفاقية "سايكس بيكو" لتقاسم الأراضي العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى فكانت فلسطين من ضمن الأراضي التابعة لبريطانيا بحسب الاتفاق البريطاني-الفرنسي.
وتعهدت الحكومة البريطانية في حينه للحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وذلك عبر رسالة أصدرها وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور في تاريخ الثاني من تشرين ثاني (نوفمبر) 1917، موجهة للمليونير البريطاني اليهودي ليونيل والتر روتشيلد.
جسدت بريطانيا من خلال انتدابها لفلسطين 1922-1948 الانحياز الكامل لجانب الحركة الصهيونية، وسرعان ما تمكنت تلك الحركة من أن تشكل دولة داخل الدولة، ومع حلول العام 1939 لم يبق أمام هذه الدولة سوى التجسيد السياسي، بعدما استحوذت على المشاريع الكبرى، ونقلت رؤوس الأموال اليهودية من أوروبا إلى فلسطين، وقامت بإنشاء عصابات مسلحة، وبذلك لم يكن تصريح بلفور تصريحا عابرًا، بقدر ما كان وعدًا حقيقيا من بريطانيا للحركة الصهيونية، تمكن التحالف ما بين بريطانيا والحركة الصهيونية من تجسيده ميدانيًا.
أثارت السياسة البريطانية التي تلخصت بتسهيل إقامة وطن قومي يهودي مخاوف الشعب العربي الفلسطيني، وكذلك الأرقام المتصاعدة للمهاجرين اليهود إلى فلسطين طبقا لسياسة الانتداب، إذ تبين أن هذه الهجرة ستجعل من العرب الفلسطينيين أقلية في بلادهم خلال فترة وجيزة، فقام الشعب الفلسطيني بعدد من الثورات ضد سياسة الهجرة واستملاك الأراضي وكان من أبرزها ثورات 1920 و1929 و1933 و1936 و1939 حيث كانت القدس مركز هذه الثورات أو نقطة الانطلاق.
حاول البريطانيون طيلة فترة الانتداب التوصل إلى "تسوية" بين العرب واليهود وقدموا العديد من المشاريع التي تعزز مكانة اليهود في فلسطين والقدس، فإثر ثورة 1929 ارتأت حكومة الانتداب تقسيم فلسطين إلى كانتونات (مقاطعات) بعضها عربي والبعض الآخر يهودي، يتمتع كل منها بالحكم الذاتي في ظل الانتداب، ولكن العرب في فلسطين قاوموا هذا المشروع وأحبطوا أغراضه. وعاودت بريطانيا طرح فكرة التقسيم من جديد في أعقاب ثورة 1936، إذ شكلت على أثرها لجنة تحقيق ملكية(لجنة بيل Peal) وأنهت اللجنة المذكورة أعمالها وخرجت بتوصية مفادها (تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية ووضع القدس تحت نظام دولي لقدسيتها، بحيث تشمل المنطقة الممتدة من شمال القدس حتى جنوبي بيت لحم مع ممر بري إلى يافا)، وقد فشل هذا المشروع أيضا أمام ثورة العرب عليه ومقاومتهم له، ثم ما لبثت بريطانيا أن تخلت عنه رفقا لتوصيه لجنة من الخبراء (لجنة وودهيد) شكلت لبحث إمكان تنفيذ التقسيم وفقا لمشروع لجنة "بيل" ومع نشوب الحرب العالمية الثانية عادت قضية القدس إلى إطارها كجزء من القضية الفلسطينية وعادت السياسة البريطانية إلى دورها أثناء الحرب العالمية الأولى بإصدار الوعود للعرب وتحقيق الأهداف الصهيونية العالمية. كانت السياسة البريطانية ترى أن تقسيم فلسطين هو إحدى الوسائل لتهويدها تم تحويلها إلى دولة يهودية ولتحقيق ذلك اتجهت بريطانيا إلى الأمم المتحدة وسعت لاستصدار قرار بشأن مصير فلسطين يكون له قيمة دولية وتلزم به دولا كثيرة وهذا يوفر لها مخرجا للتملص من تنفيذ ما تضمنه صك الانتداب من وعود للعرب وواجبات نحوهم. وعندما هيأت الحكومة البريطانية الجو الدولي الملائم، أعلن وزير خارجيتها في 18 شباط (فبراير) 1947 اعتزام "حكومة صاحب الجلالة …. عرض المسألة لحكم الأمم المتحدة لتوحي بتسوية لها" وبعد مشاورات مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى طلبت إدراج مسألة فلسطين على جدول الأعمال للدورة العادية المقبلة بتاريخ 18 نيسان (إبريل) 1947. وتم عقد دورة استثنائية لتشكيل لجنة خاصة للنظر في مسألة فلسطين ورفع تقرير عنها إلى الجمعية العمومية في الدورة العادية المقبلة، وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه عقدت الجمعية العامة دوره استثنائية طلب فيها مندوب بريطانيا أن تقتصر أعمالها على تشكيل لجنة تحقيق. وقدمت الدول العربية اقتراحا لإدراجه على جدول الأعمال يقضي "بإنهاء الانتداب على فلسطين و إعلان استقلالها" وكان الاتحاد السوفياتي قدم اقتراحا مشابها إلا أن الاقتراح البريطاني فاز بتشكيل "لجنة خاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين (unscop)، يكون من مهامها فحص جميع القضايا والمسائل ذات العلاقة بمسألة فلسطين ودرس قضيتها فلسطين من جميع وجوهها، وبحث أحوال اليهود المشردين في أوروبا والموجودين في معسكرات الاعتقال". وبذلك نجحت بريطانيا في الربط بين قضية فلسطين ومشكلة اليهود المشردين في أوروبا وأحالت الجمعية العامة قرارها إلى لجنتها السياسية التي أقرت تشكيل اللجنة في 22 أيار (مايو) 1947 والتي أوصت بدورها على تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية وإنشاء نظام دولي خاص بالقدس ومنطقتها، وإقامة وحدة اقتصادية بين الدولتين، الأمر الذي رفضته الهيئة العربية العليا للفلسطينيين، كما رفضته الدول العربية على أساس أن الأمم المتحدة قد تخطت صلاحياتها في هذا الشأن، أما الحركة الصهيونية التي كانت تصر على إقامة دولة يهودية على كامل الأراضي الفلسطينية وجعل القدس عاصمة هذه الدولة فقد قبلت به بتردد كثمن للحصول على قرار دولي بإقامة دولة لليهود.