(5)
بسكويت بالعجوة
لا يحب إبني البسكويت بالعجوة مع انني كنت اعشقه وأنا في عمره ( 9 سنوات). حاولت اغراءه اكثر من مرة .وأكثرت من شراء نوع شهير تصنعه إحدى شركات القطاع العام منذ طفولتي لكن عبثا هو لا يريد.
لكنني قررت أن أصرف النظر كليا عندما طالعت مقال رئيس مجلس إدارة دار الهلال العريقة في عدد مجلتها الأسبوعية " المصور" .قال الرئيس مفاخرا ـ وليس المقصود رئيس مجلس ادارة شركة البسكويت بالعجوة ـ في مقاله الافتتاحي الذي يتصدر صفحات المجلة مع صورة معتبرة لشخصه الكريم مرسخا تقليد "النشر بالمناصب" في "صحافتهم" المصرية :
ـ "حرصنا بالاتفاق مع الدكتورة رئيسة تحرير مجلة سمير ان يحمل غلاف هذا العدد رسما للمشير السيسي احتفاءا بإبن مصر الأصيل الذي واجه طغيان الإخوان وحمى اطفال مصر الذين يمثلون مستقبلها الزاهر من جبروت الإرهاب و ظلام الفاشية الدينية".
وقال أيضا الى جوار صورة عملاقة لغلاف مجلة الأطفال التي تصدر عن الدار منذ نحو ستين عاما حتى صادف طالعها الميمون أن تبدأ عهدا جديدا من "الطباعة المتطورة والورق الكوشيه الفاخر" مع بورتريه عظيم للمشير الى جوار "سمير" نفسه :
" إختيار السيسي لغلاف سمير رسالة للطفل المصري والعربي بان الجيش المصري بقيادة السيسي انقذ مصر من الضياع وشر الفتن الاخوانية وانتقام الجبابرة الإرهابيين الذين يخططون للانقضاض على الوطن بالتآمر مع أمريكا .ولأنه هو البطل الشعبي لدي الطفل المصري والعربي فمن حق المشير السيسي علينا ان يكون بطل غلاف مجلة سمير في أول عدد من التطوير".
غلاف مجلة "المصور " في عددها هذا رقم 4661 بتاريخ 5 فبراير 2014 لا غلاف مجلة " سمير " في عددها " السيسي " رقم 3005 بتاريخ 2 فبراير 2014 يحمل الى جانب عنوان مقال السيد رئيس مجلس إدارة " الهلال" عنوانا لا يقل أهمية هو :
ـ " تأديب حماس .. أصبحت خطرا على أمننا القومي".
ومع أنني كنت دائما أفضل " ميكي " الامبريالية على "سمير" الوطنية .إلا انني لم أجد منذ طفولتي بين عقدي الستينيات والسبعينيات أي خيانة في هذا المزاج النزق الذي يشدني الى "بطوط" و"دهب" و"بندق"و"عبقرينو" ، ويجعلني لا أطيق ثقل دم وتكلف " تهته"و " سميرة "بل كان بامكاني فيما بعد ومع سنوات الجامعة ومابعدها أن أختبر "قوميتي وعروبتي .. إيماني"وكذاعدائي للصهيونية والاستعمار. فأطمئن .
وحسنا فعلت مجلة "سمير" في عددها " السيسي" حين وضعت إعلان زبادي غنى بالكالسيوم والفيتامين يطل منه نمر برتقالي فاغرا فاه بعبارة " جواك بطل " تماما أمام افتتاحية " الدكتورة" وقد جاء فيها :
ـ " عودناكم دائما ان نحتفي بكل مناسباتنا القومية والدينية ".
وحينها فقط عدت الى الغلاف فلاحظت شارة " المشير" تطل من فوق كتفي "البطل المصري الأصيل " .هكذا بعد يوم واحد من خلع " البطل " لبدلة " الفريق أول". كما كان بامكاني أن ألاحظ الى اسفل الصورة التي يطل من خلفها " سمير " علم مصر ملقي الى الأسفل .
وباستثناء ذلك اكتشفت انني ربما خسرت كثيرا عندما لم أتابع " سمير " في طفولتي البائسة مع "ميكي". فقد لفت نظري عبارة "هيا الى الفطير المشلتت" مع أخرى تقول :" الدستور الجديد أنصف الفلاح المصري ياأستاذ سمير وأعاد له كرامته ..وأعتني بأحوال الفلاح المصري الأصيل ". ولقد كانت تلك " الخلطة الممتازة" في " سيناريو "نورت البيت ياسمير " للدكتورة نفسها رئيسة التحرير . وقد أحيت هي الأخرى تقليد رئيس مجلس ادارتها في " النشر بالمناصب " ، فاحتلت بنفسها ولنفسها الصفحات الثلاث الأولى من عدد المجلة .
لكنني وجدت ماهو أكثر جذبا وإثارة في باب "كلام بنات " .جاء تحت عنوان " كيف تعالجين بقعة الصلصة ":
ـ لأن لونها الأحمر القاني يتخلل الأقمشة بسرعة وتثبت عليها خصوصا إذا كانت هذه الأقمشة مصنوعة من القطن.
ومع ذلك ظلت " الدكتورة " رئيسة التحرير تطاردني في صفحات داخلية . فكتبت في تمام ظهورها الثالث .ولكن الأكثر تواضعا في الصفحتين الثامنة والتاسعة " حكاية أكبر متحف إسلامي في العالم ".قالت :
ـ أصدقائي .. في الأسبوع الماضي تعرض متحف الفن الإسلامي بمنطقة باب الخلق للتدمير الكامل إثر انفجار استهدف مديرية أمن القاهرة ..".
ولأنني أعرف ان " التدمير الكامل " معلومة غير صحيحة مطلقا . فقد انتقلت الى خبر بعنوان " نعم للدستور " عن ورشة فنية اقامتها "سمير " كي يعبر " الأصدقاء عن تاييدهم للدستور بريشاتهم والوانهم ". لكن ما شد اهتمامي هو الألوان مع سوء الإخراج في القصة المصورة " سر غموض اليد اليسري ".ويقول ملخص الحلقات السابقة :" يحاول أشرف الشريف في هذه القصة الكشف عن أكبر محترف سرقات وشهرته الأشول خاصة بعد سرقته للمليونير عادل المغازي . فهل يستطيع أشرف الشريف القبض عليه ؟" .
ومع ذلك فإن قصة " السر " انتهت بدون الكشف عن " السر" . فقط قال "أشرف الشريف " في الختام:
ـ أشعر أن هذه اللعبة ستنتهي نهاية سيئة ".
لكن هل هذه هي النهاية حقا . كلا . فمع باب " المراسل الصحفي " تسأل الطفلة نقيب الجيش المبتسم "بهاء الدين :" كيف سيتم القضاء على الإرهاب ؟" فيجيب :
ـ بتكاتف الجميع يدا واحدة جيش وشرطة وشعب .
وتطلب الطفلة مراسلة " سمير " التي لم يرد اسمها قط النقيب "بهاء الدين " أن يوجه كلمة لرجال الشرطة ، فيقول :
ـ نشكركم على عودة الأمن والأمان للبلاد والعباد . وشكرا على جهدكم الرائع .
إلا ان الطفلة " إيمان شندي محروس "من القاهرة كانت أكثر حظا من " المراسلة المجهولة " فقد نسبت اليها مجلة " سمير " كلمات منظومة جاء فيها :
ـ يامصر ياأم الدنيا
وقد الدنيا وكل الدنيا
بجد بجد وحشتينا
ورجعت تاني ونورتينا وآنستينا .
ولم يكن بالامكان التوقف كثيرا عند " قد الدنيا " .ولعل "تامر حسين " مؤلف قصيدة " إبن الشهيد " كان محظوظا هو الآخر عندما جاء اسمه في باب " أغنية" الى جانب كلمات منسوبة اليه مع صورة تجمع "السيسي " بشخص ما . وقد ورد بالقصيدة :
ـ عرض حياته ألف مرة للضياع
ومايستاهلش كره أبدا أو شماتة .
لكنني ما ان فرغت من قراءة الأغنية حتى تبينت مع سوء الطباعة والألوان أن الشخص الآخر لم يكن إلا "الرئيس المؤقت". وأسمه "عادلي منصور ". كما تذكرت أنني منذ نحو تسع سنوات عندما نظمنا في حركة " صحفيون من أجل التغيير " يوما للمعتقلين خصصنا فيه وقتا لرسوم أطفالهم قد لاحظت ان العديد منهم رسم شموسا وراء غمام . وقد تكررت تلك الشموس في غالبية اللوحات لأطفال يطل البؤس والقهر من عيونهم .
وهنا أعترف بأنني في هذا السن لم استطع مقاومة إغراء غلاف " ميكي " حين أطل منه " عم دهب " منزعجا ينظر من شباك يضئ خزانة نقوده .ينظر من خلال عدسات نظارته الشفافة بتجاه الساحرة الشريرة "سونيا " .وتحملها بدورها مقشتها العجيبة . وفي قصة " قيمة القروش " قال لـ " بطوط":
ـ إنني أبحث عن قرش .. فلا تزعجني .
ولقد اتضح في النهاية لي أن "دهب " يملك جميع عربات المثلجات في "مدينة البط" . أما "بطوط" فيعشق عصير الطماطم بالعسل .
ولم يكن بامكاني إلا ان اتوقف عند عبارة " علمان " الى " عبقرينو " في قصة " مهمة المخترعين ". قال :
ـ هيا نخرج من هنا ونذهب الى معملي لنرى اختراعي الجديد .. أنه طفرة في عالم التكنولوجيا الايديولوجية الميتافيزيقية المتحولة .
إلا ان بيت القصيد الذي أبحث عنه جاء في "المواجهة السحرية " حين تنكرت " سونيا " في صورة عاشق معجب كي تذهب الى الساحرة الأخرى " شمعة " في المطعم لتحصل منها على خصلة شعر .قالت لها :
ـ شمعة .. انت دائما فتاة احلامي .. أحتاج الى تذكار منك .
فتجيب و هي تضع المعلقة في طبق الحساء :
ـ إصنع "لايك " لصفحتي على "الفيس بوك" .
وفي نهاية القصة يتضح ان شعر " شمعة " الأصفر الطويل الجميل تحت قبعتها العالية ما هو إلا مستعار من ذيول أجمل الخيول في العالم .
وما كان لي ان أفرغ من محبوبتي " ميكي " إلا مع صفحة "معلومات غريبة " . فطالعت :
ـ جميع الثعابين تتمتع بحصانة طبيعية ضد السموم التي تفرزها .
لكنني لم اصدق . وقلبت المجلة فوجدت إعلانا لاصدار جديد للأطفال باسم :
ـ دراكولا .
وأخذت أبحث عن " باكو" بسكويت بالعجوة كي التهمه كطفل أكلت اسنانه الحلوي . لكن عاجلني زميل في العمل يشكو ضيق الحال .ويسخط على استقطاع عشرة في المائة من رواتبنا فيما إرتفع قسط " الترم الثاني" لتعليم الأولاد ،والمؤجل أصلا مرة "للم الشمل" ومرة للبحث عن " تأمين مدني للمدارس ".وقال أيضا :
"أنظر رفعوا رواتب الشرطة 30 في المائة ..وفي الإجمال تضاعفت اجورهم مع رجال الجيش لنحو ثلاثة مرات منذ ثورة 25 يناير ".
ضقت به أنا الآخر ،فقلت له :
إسأل " سونيا " عن " دراكولا ".. أو إسأل رئيسك في العمل عن " الجبابرة الإرهابيين في ظلام الفاشية الدينية ".
وقتها تذكرت بأن رئيس مجلس إدارة " الهلال " العريق لم يكن خالص النية تماما حين أنهى افتتاحيته الغراء برفع " طلب خاص " الى " سيادة المشير " . وهو ان تتلقي مجلة " سمير " والدار كلها من " سيادتكم " دعما ماليا .
لكنني قررت ألا أعبأ بكل هذا .وعدت لتصفح مجلة " ميكي " يقودني شوق الى " بسكويت بالعجوة ".
(4)
المجد للمجهولين
ماإن بلغت الساعة تمام الخامسة مساء الثلاثاء 11 فبراير 2014 حتى توقفت الحركة في ميدان التحرير .وعلى الأسفلت شاهدت مدرعات الجيش الصفراء المسرعة من ناحية كوبري قصر النيل تنتشر في أنحاء الميدان ملتفة حول الكعكة الحجرية الفارغة لتأخذ أماكنها على مداخل كافة الشوراع المؤدية إليه . كان غزو المدرعات للميدان على هذا النحو مباغتا . و بدا بلامبرر . وقد أخذت في التمايل والاهتزاز حتى كادت ان تنخلع وهي تسرع في مناوراتها . اما الاصوات المنبعثة منها فقد جلجلت في جنبات الميدان كأجهزة خربة متهالكة أصابتها حشرجات ماقبل العطب . تكركر وهي تهتز في سعيها المسرع فوق اسفلت الميدان الأسود وكأنها تكبت أشواق العودة الى موطنها الأصلي في الصحراء ورمالها الناعمة.
انقطعت السيارات من الميدان .وتباطأ مارة متناثرون يعدون على أصابع اليد هنا وهناك. وران الصمت . وكان قد لفت نظرى منذ أن دخلت الى الميدان قادما من شارع "طلعت حرب" هذا الكم غير معهود من المخبرين المتفحصين للمارة في وسط البلد بعيون مقتحمة وقحة . بعضهم يحمل أجهزة إتصال .والآخر لا حاجة له بها . كما لا حظت عددا لا بأس به من "باشوات " و " باكوات" الأمن يجلسون في تحفز على مقاعد فوق النواصي والأرصفة. بينما كانت المحال التجارية التي جردوها من مقاعدها و سخروا امكاناتها في صنع الشاي الأسود شبه خاوية بلا زبائن .
كان قد لفت نظرى فور أن بلغت ميدان التحرير علم البلاد يرتفع بوضوح فوق صاري يتوسط مجموعة من المواطنين .هناك فوق رصيف يقابل الكعكة الحجرية باتجاه " المجمع " الذي طليت جدرانه بلون ابيض لاخفاء أي شعارات أو خربشات معارضة . لكنني قصدت على الفور مدخل شارع "محمد محمود"، فطالعت جدار الجامعة الأمريكية .وقد تحول اليوم الى جدارية سريالية تسودها خلفية بلون أحمر خفيف " بمبي" مرقطة ببقع غير منتظمة من أحمر قان . وباللون نفسه تصدرت عبارة ممتدة :" اسحل وعري وطري مجهزنهولك مغري" .لكن كلمة "اسحل" جرى اخفاء معظم حروفها تحت الخلفية "البمبي" على نحو يتطلب من القارئ قدرا من الجهد والفطنة كي يتبينها . والى جوار العبارة البطل وباتجاه المدخل المؤدي الى مكتبة البيع بالجامعة نقش مبدعو الجدارية كلمتين هما :" المجد للمجهولين". وباستثناء ذلك كان مجهولون بالفعل قد أضافواعبارات بخط مرتجل وباللون الأسود من قبيل :" آيات مش إخوان " و " يسقط حكم العسكر "و "الداخلية بلطجية ".
وباستثناء ذلك لم يكن مفيدا التوغل في الشارع الذي شهد أكثر من مجزرة منذ زمن "مبارك" .وقد تحولت صحف الدولة في الأيام الأخيرة عن وصفه بـ" الرئيس المخلوع"الى منحة بتوقير يناسب اقتراب الذكرى الثالثة للتنحي لقب " الرئيس الأسبق".وهو ما يتماشى تماما مع ترويج هذه الصحف لأن 25 يناير لم يكن سوى "مؤامرة" أو "أحداث" .وهكذا اتخذت طريقي عائدا الى قلب الميدان باتجاه العلم المرفوع عاليا. وحين اقتربت تبينت مجموعة من المواطنين "الشرفاء " يترقبون في وضع الانتظار وقد نصبوا المصيدة.لا يرفعون صور "مبارك" أو "السيسي" . لكن ملامحهم لاتغيب عمن خبر جيدا بلطجة رجالات ونساء الحزب الوطني في يوم الأربعاء الأسود ( 25 مايو 2005).وعلى الرصيف المقابل كانت الشرطة بملابسها الرسمية و السرية أضعاف أعدادهم . تنتظر هي الأخرى .وقد تبادل الجمعان نظرات الترقب والرعاية . وهكذا كان على أن أمر بهدوء وسلام بين الجمعين دون ان أمعن النظر فاثير الارتياب أو أبادرهم بحديث فأقع في شباكهم اللعينة .لكنني لحظتها تذكرت جيدا كم قمت مرة تلو أخرى بتوزيع "مقالات الثورة وميدان التحرير" بحرية في هذا الميدان دون ان يمسني أحد كان.و لما يزيد عن عام كامل منذ 29 يناير 2011 . وإن عجزت بعدها على نشر المقالات المجمعة في كتاب بعنوان "ورق أيه فور" بسبب حسابات الناشرين بما في ذلك المحسوبين على اليسار والثورة .
بحسابات السياسة الباردة كان من غير المتوقع ان يحاول الشباب الوصول الى ميدان التحرير بعد قمع السبت الدامي 25 يناير 2014 . لكن وأنا في طريقي الى الميدان خال لي بين حين وآخر انني استمع الى هتافات قادمة من بعيد . أحيانا ما كانت أتبين كلماتها في عبارتي :" يسقط حسني مبارك " و " يسقط حكم العسكر ". لكني يقينا وبحسابات السياسة أيضا كنت ادرك ان هناك الآلاف بل قل عشرات او مئات الآلاف يتظاهرون بعيدا عن أضواء وسط العاصمة . هناك في الأحياء الشعبية والمدن والقرى . تلك المظاهرات النائية التي تطالب في معظمها بـ"عودة الشرعية" رافعة بالأصابع الأربع علامة مجزرة " رابعة العدوية ". وربما ترفع أيضا صور رئيسهم "مرسي". وربما لهذه المظاهر فإنها لا تثير الكثير من الاهتمام او التعاطف هنا وهناك . ولا يتوقف المثقفون كثيرا عند ضحايا القمع البوليسي لها من شهداء وجرحى بالمئات كل يوم مع انهم يدركون في قرارة النفس انها الاكثر تجذرا واستمرارية ومقاومة في وجه صعود الفاشية العسكرية الأمنية . بل ومع الأيام الأخيرة انتشرت همسا أنباء غير منشورة في وسائل الإعلام التقليدية عن انتقال قطاعات من الشباب الى تنظيم مقاومة مسلحة تضرب الضباط وممتلكاتهم وأسرهم هنا وهناك على امتداد البلاد .ولكن بعيدا عن ميدان التحرير ووسط العاصمة . كما انتشرت كالنار في الهشيم في وسائل الإعلام غير التقليدية وبخاصة صفحات الفيس بوك شهادات نشطاء سياسيين من غير الإسلاميين أو الإخوان على المدي الذي بلغته وحشية التعذيب بايدي الشرطة العائدة الى سيرتها الأولى سنوات "مبارك" أو الى الأكثر بشاعة . وإذ كانت آلة القمع الجهنمية الدائرة بأقصي سرعة قد امتدت الى شباب ثورة 25 يناير من ليبراليين ويساريين بعدما بدأت دورانها بالإسلاميين .
والى جانب كل ذلك ،بدأت المساحات المنسية الأقل أهمية في عدد من الصحف تنشر أنباء متفرقة منزوية خجول عن الإضرابات في العديد من المصانع وأماكن العمل بما في ذلك شركات القطن الكبرى بالمحلة. تلك التي حملت في 6 إبريل 2008 بشائر الثورة القادمة . هذا فيما تتسيد تحت الأضواء في المساحات الممتازة تصريحات المسئولين ومقالات رأي السادة الكتاب المعتمدين تندد بأي محاولة لإثارة " المطالب الفئوية " في وقت يجب ان "نكرس فيه كل الجهد والطاقة من أجل معركة مكافحة الإرهاب " وحيث لا يعلو صوت فوق صوت المعركة ( ضد الإخوان ).
شعرت بتعب قدمي .وفكرت بالنزول لركوب مترو الأنفاق عائدا الى البيت . لكنني عندما بلغت منزل المترو من ناحية شارع "طلعت حرب" وجدته مغلقا وقد تراكمت أمام الباب الأتربة والقمامة . وحينها تذكرت أن محطة التحرير مغلقة منذ 14 أغسطس 2013 ومع مجزرة "رابعة " والتي لا نعرف بالضبط كم هو عدد ضحاياها .وإن قال "روبرت فيسك" في صحيفة " الاندبندنت "حينها بأنها " أكبر قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث ". هكذا الجملة محفورة في رأسي منذ أن قرأتها على موقع الصحيفة البريطانية بشبكة الإنترنت . لا تنمحي ولاتريد.
غادرت " التحرير " عبر " طلعت حرب " فانتبهت من شرودي الى حركة جنود الجيش بهمة لنشر أسلاك شائكة بعرض الشارع . أفلت مرة اخرى مما بدا لي مصيدة . لكنني لا حظت والجنود على مقربة أن ملابسهم متسخة ووجودهم شاحبة . ابتعدت .لكنني التفت بعد خطوات فبدا الميدان بعيدا نائيا وكئيبا من خلف تموجات الأسلاك الشائكة ومدرعتين واشباح جنود .
وكانت الشمس حينها بسبيلها الى الغروب .
(3)
ذكرى الجمل
استيقظت صباح يوم 2 فبراير على أخبار في صفحات " الفيس بوك " عن انفجار أمام دار القضاء العالي قرب موقع عملي و حيث الصورة العملاقة للجنرال . كما طالعت أخبارا عن انفجارين آخرين في القاهرة . في العادة ما أصحو حول السادسة صباحا . لكن لا أعرف ما الذي ايقظني مبكرا عن ذلك بنحو الساعة . ربما هو القلق أو سبب لا أدركه .
حاولت التيقن من صحة أخبار الإنفجارات على المواقع الألكترونية لعدد من الصحف . لكنني وجدت أكثر من تصريح ينفي هنا وهناك . فتحت التلفزيون لكنني لم أصل الى جديد . وكان على في النهاية ان أترك الأمر كله لأن أخبار الإنفجارات ونفيها أصبحت معتادة هذه الأيام . فقط يتعين عليك ان تشعر بالخوف وبالحاجة لمن يحميك ويحمي البلد . والأهم أن تظهر هذا الشعور بلا تحفظ عندما يتحدث زملاء العمل عن المعركة مع الإرهاب . ويكيلوا أوصاف الإرهابيين المجرمين للإخوان . حينها عليك ان تتظاهر بأنك تصدق بلا تحفظ أو شك أو أية نية في طرح سؤال عن دليل غائب أو تعميم ساذج. فقط انخرط في حملة الكراهية وسباب العدو وتوكل على الله .
نهضت فجأة من أمام جهاز الكومبيوتر تدفعني رغبة ملحة في التبول . فرغت. و توجهت الى صنبور المياه فطالعت وجهي في المرآة. وتنبهت الى ان الذقن تحتاج الى حلاقة . لكنني تذكرت أن اليوم هو الذكرى الثالثة لموقعة الجمل . فصرفت النظر . لكننى عدت للتفكير في أخبار انفجارات الصباح الباكر . ثم قلت لنفسي ربما كان من الأفضل ان تحلق ذقنك قبل ان تذهب الى العمل . لكنني في النهاية ترددت . ببساطة تملكني رعب غير مبرر أن تجرحنى شفرة الحلاقة فلا أتمكن من إيقاف نزيف الدم أبدا.
عندما اقتربت من الوصول الى مقر عملي بجريدة " الأهرام " أطلت على من أعلى صورة ضخمة للمشير في زيه العسكري . كانت الصورة قد جرى زراعتها أمام سنترال الإسعاف وبعد مدخل شارع " التوفيقية " العامر بالخضار والفاكهة وقطع غيار السيارات المستعملة . والصورة تستقبل السيارات القادمة في اتجاه واحد بشارع رمسيس الوسيع . ولما حاولت مقارنة ملامح صاحبها مع صورة دار القضاء العالي عجزت . ببساطة لم أتذكر أبدا ملامح الصورة الأخرى . لكن عندما وصلت الى مدخل "الأهرام " كان على أن أمسح نعلي حذائي جيدا قبل أن أدلف الى البهو . وهكذا أضطررت الى أنظر الى أسفل كي أتبين أن مقدمة الحذاء في القدم اليسري قد غطتها طبقة من الأتربة.
مر الوقت ثقيلا . وتجنبت الحضور بين مكاتب مزدحمة للزملاء . إلا أنني عندما هممت بالخروج اصطحبت معي زميلي " محمود"بعدما دعوته للذهاب الى معرض الكتاب بمدينة نصر . وعندما بلغنا شارع رمسيس إقترحت عليه ان نذهب أولا سيرا على الأقدام الى ميدان التحرير . فاليوم ذكرى موقعة الجمل الثالثة وجريدة الأهرام التي نعمل بها لم تشر ولو بكلمة إليها . تحمس . وتبادلنا في الطريق ذكريات كلانا حول هذا اليوم الدموي الرهيب . وبالمقارنة لا حظت أن ماعلق بذاكرتي في هذا اليوم كان خاليا من المبالغة أو الإختلاق . سيارات الأجرة ومجموعات المتظاهرين المشبوهين ترفع صور "مبارك " وصولا الى ميدان الإحتجاج في التحرير . ثم النجاة من هجوم قاس شنه انصار الرئيس المتشبث بالسلطة من ناحية ميدان عبد المنعم رياض . والدور البطولي للشباب بما في ذلك الإخوان وصبية الأحياء الشعبية والورش. فذكريات ليلة مابين 2 و 3 فبراير 2011 حيث كان يجرى نقل جثث القتلي والمصابين من تلك الناحية و أصوات طلقات النار من فوق العمارات الكائنة بطرف الميدان .وكذا من أعلى الكوبري هناك . وكان على الذاكرة أن تستحضر جثة أحدهم وقد شاركت بيدي هاتين في حملها فيما غطت الدماء صدره . وتذكرت أيضا مع الصباح الباكر يوم 3 فبراير أولئك المصريون العائدون الى الميدان عبر مدخل شارع طلعت حرب يحملون الأطعمة للمعتصمين ومعها دمهم استعدادا لمزيد من الصمود و التضحيات . حقا بالنسبة لي ولمحمود لم تكن موقعة الجمل مجرد مشهد الجمال المهاجمة لمعارضي مبارك وحسب وكأنك تطالع كارت معلم سياحي التقطته عدسة مستشرق.
بلغنا الميدان من ناحية " عبد المنعم رياض " فعاينا حركة مرور طبيعية . إزدحام منتصف النهار . هممنا بالتقدم الى قلب الميدان . فصدتنا أعمال حفر في الرصيف . لكن كل شئ كان كفيلا باقناعنا بلا جدوى الاستمرار في السير . فالميدان بدا وكأنه قد تغير عما كان يوم الجمل . ولا علامة واحدة تفيد باحياء الذكرى من أي كان . أما نصب الشهداء الذي اقامته حكومة قتلت المزيد بدم بارد فقد لاح لي كحجر أصفر ملقي بلا عناية في منتصف الميدان . حجر غريب عن المكان . وأحسست وكأن قوة طاردة تدفعني بعيدا . واسرعت و"محمود" الى شارع شامبليون الجانبي كي نعود أدراجنا لنستقل حافلة الى معرض الكتاب .
ولا أدرى لماذا راودني خيال غريب بأننا عندما سنبلغة ستستقبلنا مظاهرة ضمير من شخصيات خرجت لتوها من بين دفوف الكتب تصرخ مطالبة بالحرية وبحق الشهداء وتسخط على من غدروا بالثورة وبالتضحيات والدماء الطاهرة. لكن كل شئ كان هادئا على أبواب المعرض وداخله . وقد تناهت الى السمع اصداء غمغمات غير مفهومة قادمة من ناحية سرادق " المقهى الثقافي " .كانت لمثقفين يثرثرون أمام ميكروفون وفرته لهم الهيئة العامة للكتاب.
اشتريت بعد تردد كتابا يحمل عنوان " الجنرال المنقذ " وعليه سؤال استفهام :" من يقيل مصر من كبوتها ؟" . وقد شغلت صورة الجنرال غلافه وخلفها أسد يفتح فاه عن آخره .وقد برزت أنيابه الوحشية المخيفة. وعندما أخذت في تصفحه علي مقربة من بوابة الخروج طالعت في الصفحة الحادية عشر العبارة التالية :
" أما الفصل الخامس والأخير فهو الهدف الحقيقي من هذا الكتاب .وأتحدث فيه الى الجنرال الذي انقذ مصر ،الفريق أول عبد المنعم السيسي ، آملا أن يتقبل كلماتي والتي اعلم جيدا ان حكمته وحكمة مستشاريه تجعله في غنى عنها وعني ".
وقلت لنفسي متسرعا في الحكم على الكتاب بأن المؤلف لا يريد منه إلا مخاطبة الفريق أول الذي أصبح "مشيرا " . لكنه هاهو يتواضع ليقول بأن " المشير" ليس في حاجة الى كلماته . إذن فلماذا الكتاب ولماذا اشتريته ؟. أليس هذا كله جنون في جنون ! .
أمام التليفزيون في منزلي كادت الرأس أن تسقط على الصدر وأنا أنظر بعيون متعبة نصف نائمة الى برنامج استضاف ابطالا صغار لموقعة " الجمل " . قالوا انهم من العاملين بالسياحة بمنطقة "نزلة السمان" في " الهرم " . وأضافوا مع تصنع البراءة انهم ما نزلوا "التحرير" إلا لأنهم يحبون الرئيس "مبارك" . ولم يرضوا باهانته . فحملوا صوره وفقط وذهبوا الى هناك.
وببساطة قالت المذيعة في لغة حماسية لكنها غير سليمة ان موقعة الجمل وهم ولم تحدث أصلا . و أكدت : "برأ قضاؤنا العادل النزيه كل المتهمين من محبي سيادة الرئيس ورجاله بما في ذلك المستشار الجليل مرتضي منصور ".
هذا الرجل الذي رأيته يطير من الفرح وهو يرد ممتنا تحية المارة أمام سور نقابة المحامين بشارع عبد الخالق ثروت ظهيرة يوم 30 يونيو 2013 .وقد بدا وكأنه هو الآخر يقصد "التحرير" محركا ذراعيه المفتولتين بقوة وتفاخر باتجاه الميدان كي يتظاهر هو الآخر ضد حكم الإخوان وطلبا لرحيل الرئيس " محمد مرسي " .
وأضافت المذيعة وقد لا حظت حينها أنها وضعت أحمر شفاه بلون الدم القاني :
ـ "كفانا مزايدات ".
(2)
صورة للمشير أمام دار القضاء
اليوم إجازة .. صباح الجمعة .. و كان على ان أتوجه مبكرا الى فندق " كوزموبوليتان " لمقابلة الصديق الناشر والمثقف التونسي " النوري عبيد " في التاسعة . لم يصادفني عمال نظافة في الطريق . فقط عندما صعدت من محطة أنفاق الإسعاف " جمال عبد الناصر " و أخذت في عبور شارع 26 يوليو " فؤاد" باتجاه "دار القضاء العالي" لفتت نظرى للمرة الأولى خلفية صورة عملاقة في إطار خشبي تتمدد أسفل الرصيف والى نهر الطريق ذي الإتجاه الواحد بنحو أربعة أمتار . كانت الصورة عملاقة الى حد انني من موقعي رأيتها تعلو من مستوى النظر للقادم من اتجاه شارع رمسيس مبنى دار القضاء العالي نفسه . ولأن الصورة استهدفت القادمين في سياراتهم من ناحية ميدان الأوبرا فقد كانت خلفيتها المواجهة لي بيضاء . إلا أنني وقبل أن أتمكن من النظر اليها من الجانب الآخر خمنت بحدس لم يخطئ أنها للجنرال الذي أنقلب على أول رئيس مدني للبلاد في 3 يوليو 2013 ، مستغلا كراهية شعبية للإخوان تجلت في مظاهرات 30 يونيو من العام ذاته. وأصبح هو مرشح " الإجماع الوطني " و" المفوض " من الجيش بالترشح للرئاسة .
وهكذا حلت الصورة العملاقة محل أربع مدرعات صفراء كانت راسية أمام مدخل دار القضاء العالي تماما عند تقاطع شارعي " رمسيس " و " فؤاد" .وقد التصقت بجدران المدرعات "بوسترات" للشئون المعنوية للقوات المسلحة تتصدرها صورة الجنرال السيسي، وخلفه تتضاءل صورتان للرئيسين "جمال عبد الناصر" و"أنور السادات" . وهي بوسترات مهدت لاحقا لأن يردد الجنرال على الملأ ـ ومبكرا جدا ـ كلمتي "جيشي" و "شعبي " .
وعندما أصبحت في وضع يسمح بتأمل وجه الصورة العملاقة المزركشة بالألوان الصارخة. ألوان القوة . بدا الرجل في ملابسه العسكرية كائنا أسطوريا لا يجاريه في فتوته أبطال السينما الأمريكية القديمة ،من أمثال "طرزان ". وقد أطل صدره نافرا الى الأمام يهجم على المارة.و الى جواره عضلات ذراعيه المفتولتين .لكنني لم أتبين إذا ماكانت الصورة على هذا النحو قد بلغت الحذاء العسكري . أم أنها توقفت الى مادون الركبتين . كما لم أتوقف لأحصى عدد النسور والسيوف و النجوم المكدسة فوق كتفيه . إذ كانت صحيفة صباحية قد انفردت بنشر صورة للجنرال في زيه العسكري محملا بما لذ وطاب من علامات وأمارات رتبة "المشير" . وقبيل سريان قرار ترقيته من رتبة الفريق أول الى الرتبة التي لا تعلوها رتبة بحلول الأول من فبراير 2014 ، و من دون إنجاز عسكري أو سنوات أقدمية.
لم أتمكن لا من هذا ولا ذاك . فقد عاجلني صوت جاء من خلفي بعبارة بدا وكأنها تحاول التفتيش في السرائر :" إمتى بقي يقلع البدلة الميري .. ويلبس الملكي .. كلنا عايزينه ريس ..مش كده ياأستاذ؟". لكن الرجل الذي أصبح في محاذاتي تماما بدا فقيرا على باب الله . هكذا هي هيئة ملابسه وحذائه المهترئ . وإن سرت في أوصالي قشعريرة من وقع اقتحامه لي بعبارته تلك .و ظننت أن الرجل ثمل بخمر متواضع الصنف لا يبيعه محل المشروبات الكحولية على الجانب الآخر من الرصيف مقابل الصورة العملاقة . خمر لا يعاقره حتى مرتادو البارات من صغار مثقفي الدولة الآكلين من فتات الدكتاتوريات المتعاقبة الملوثة بدماء وآهات شعبهم وفقرائه . وهكذا تظاهرت بالصمم . وقاومت رغبة عارمة في أن أحث الخطى . فتعمدت أن أواصل السير على نفس الوتيرة ، حريصا على كبح أي مظهر للانفعال أو الاضطراب في مشيتي . وما إن تخلصت من مرافقة الرجل واسترسال كلمات لم أعد أعيها ومعها سطوة الصورة التي لم أر مثيلا لضخامتها وإرتفاعها عندما زرت دمشق في عنفوان الرئيس الأسد الأب وعبادة الزعيم السوري قبيل وفاته في عام 2000 بشهور قليلة حتى بلغت بائع الصحف أمام مقهي " الأمريكين ".
بعد نظرة لم تستغرق دقيقة اختصرت عناوين الصفحات الأولى في عنوان واحد طلبت صحيفة الأهرام التي أعمل بها مع صحيفتين اعتدت شراءهما. لم اتوقف عند الصفحة الأولى للأهرام بأكملها أو الصحيفة كاملة .بل تناولت "ملحق الجمعة" لأطالع حديثا أجريته مع المفكر اللبناني " كريم مروة ".وكتبت عنوانه الرئيسي من كلمات الرجل :" المرحلة القادمة من الثورات العربية طويلة وحافلة بالصراعات". ولم أندهش عندما وجدت العنوان قد جرى استبداله وتحوير كلمات الرجل لتبشر بالتفاؤل إزاء مستقبل البلد، فيما الناس يقتلون يوميا في الشوراع وقد ديست كرامة أهلهم . كما صدق حدسي هذه المرة أيضا وأنا أطالع سؤالا وجهته عما إذا كنا قد استوعبنا دروس وأخطاء انكسار حركة التحرر الوطني بما في ذلك ظاهرة الزعامة الكارزمية . فوجدت ان مايتعلق بالكاريزما جرى حذفه من السؤال ، مع أن الحوار الصحفي لم يتطرق بالاسم أو الإشارة الى "السيد الفريق أول " الذي أصبح هكذا "سيادة المشير ".
ومع ذلك فقد شعرت بغصة .ولمت نفسي لأنني لم أصر على سحب الحوار عندما شعرت بسوء نوايا وكلاء " التوجيه المعنوي".وحنقت على شاعر أصبح يمتدح العسكر ليل نهار وينصب من نفسه مدافعا عن "جيشنا" كل يوم في صحيفة أخرى، فتولى الاشراف على " ملحق الأهرام" قبل أيام وأعمل سيفا صدئا في الحوار التعس . و لم أملك إلا ان القي بالصحف التي في يدي الى أقرب سلة مهملات في الطريق .
وحين بلغت باب الفندق كان على ان اتجرد من كل ماهو " معدني " حتى أعبر الى الداخل . ومع أن رجل الأمن على الباب كان يقاوم غفوة مبكرة . إلا أنه تأسف من تعليمات بالتشدد في مثل هذه الأيام التي وصفها بـ " الصعبة " . وعلى أية حال ، فقد شعرت بأن بهو الفندق أكثر عتامة عما كان في السابق . ولا حظت للمرة الأولى ان جانبا من الحوائط الداخلية مكسوة بخشب داكن اللون فيما صرير المصعد صعودا وهبوطا يكسر الصمت .و يضفي أجواء من الأسي بلا حدود . وحين نزل صديقي استقبلته بأحضان فيما كان على أيضا ان أتجرد من كل ماهو " هموم" صباحية . وعندما اصطحبني الى مطعم الفندق ليتناول إفطاره . لا حظت انه خال من أي رواد . بل وشعرت بمزيد من العتمة وبسطوة الصمت .
حاذرت وربما حاذرنا كلينا أن نتحدث في أوضاع البلد السياسية في مكان مغلق . ولذا انطلقنا بعدما تناول الصديق افطاره الى مقاه مجاورة مفتوحة على شوارع وسط البلد خلف " بورصة الأوراق المالية " . لكن رفيقي كان لديه حساسية زائدة ومبالغ فيها إزاء هواء نهاية يناير البارد ، مع ان كراهيته العمياء كيساري تقليدي لا تضع حاجزا بينه وبين كل من يقمع " الإخوان " حتى ولو كان ديكتاتورا في لباس رجال الأمن والعسكر. فاقترح ان نذهب الى " جروبي " ميدان طلعت حرب . وفي الطريق كان بامكاننا أن نتحدث قليلا في السياسة . لكن عندما دخلنا الى المقهى وأصبحنا خلف زجاجه لاحظت أننا أصبحنا أكثر حرصا في الحديث . وذلك مع أن أحدا لم يكن هناك . باسثناء النادل الذي انشغل في الصالة المجاورة بمتابعة شاشة التليفزيون وهي تعيد أغنية " تسلم الأيادي ".
(1)
على محطة المعادى
كنت متوجها إلى محطة مترو المعادي ظهر السبت 25 يناير الماضي قاصدا وسط البلد، في الطريق رأيت لافتات معلقة تهنئ الشرطة بعيدها في 25 يناير وعليها صور السيسي ومحمد إبراهيم، لا كلمة واحدة عن الثورة، وحتى صور الشهداء على جدران أحد المنازل في ميدان الحرية جرى محوها بعناية.
عندما وصلت إلى المحطة من ناحية شارع 7 كانت الساعة الواحدة ظهرا، لاحظت فور الدخول إلى الرصيف المؤدي إلى “المرج” طليعة تجمُّع للشباب على مدخل المحطة في الجانب الآخر (شارع 9)، وتبين لي بالكاد أعلاما بيضاء مرفوعة وعلى اثنين منها اثنان من البورتريهات للشهيدين الشيخ عماد عفت ومينا دانيال، بدا لي أن الهتافات كانت ضد العسكر والإخوان معا، دقيقة أو دقيقتان وشاهدت مجموعة من الشباب بملامح بلطجية تأتي مسرعة من خلفي لتعتلي الكوبري باتجاه الرصيف المقابل، وكان أحدهم يعلق في رقبته رباطا تتدلى منه صورة السيسي في ملابسه العسكرية، وعندما بلغوا الرصيف أخرجوا خراطيش وبدأوا في استهداف المتظاهرين.
وسرعان ما تبيّن لي أن الهجوم على المتظاهرين المعارضين كان على هيئة “كماشة “، فرغم الهجوم من الأمام فقد اندفعت أعداد منهم إلى داخل المحطة على الرصيف، فيما ظهر مطاردون لهم من شرطة بملابس رسمية وملابس غير رسمية وهم يحملون المسدسات والسلاح الآلي وبعضهم ملثم في ملابس سوداء. كان المشهد مرعبا، وأصوات طلقات الخرطوش والنار تتردد في جنبات محطة المترو، والبلطجية من حاملي الخرطوش وضاربيه يعملون في حماية الشرطة، بل ورعايتها، والناس حتى في الجانب الآخر من المحطة تبحث عما تحتمي به.
انطلق المطاردون وراء المتظاهرين الفارين على قضبان المترو باتجاه محطة ثكنات المعادي، وساد الرصيف المتجه إلى حلوان نفسه مشهد مخيف من رجال الأمن الشاهرين سلاحهم. يقينا كان الشباب المتظاهر لا يحمل أي سلاح ولا حتى الحجارة، لم يكن معهم سوى أعلامهم وحناجرهم وصور شهداء ثورة يناير.
جاءت رحلتان من المترو في اتجاه “المرج”، ولكنهما لم تتوقفا في محطة المعادي، والركاب متسمرون في أماكنهم رعبا لا يعرفون كيف يتحركون، لقد أربكتهم المفاجأة، فقط احتموا بالأعمدة والحوائط. وسنحت الفرصة لي لتبين ملامح وجوه البلطجية العائدين مظفرين من غزوة الرصيف المقابل، كانوا شبابا تحت العشرين في وجوههم آثار معارك ربما جرت بالسكاكين والمطاوي وشفرات الحلاقة، وبدت على الوجوه ملامح نشوة الانتصار، بينما صاح شرطي من الرصيف المقابل: “قبضوا على ولاد الكلب”.
فكرت في أن ألتقط بكاميرا صغيرة كانت معي أو بعدسة الهاتف المحمول، صورة للبلطجية أو أحدهم ممن عادوا للتجمع خارج المحطة باتجاه شارع 7، أو لرجال الشرطة بملثميهم على الرصيف الموازي لشارع 9، لكنني شعرت بالخوف وتحسبت للعواقب، وتذكرت زميلي “أحمد محمود” الذي قتله ضابط شرطة في ملابسه الرسمية وهو يلتقط الصور من شرفة مكتبه في شارع محمد محمود يوم 29 يناير 2011، وقمنا بتعليق صورة قاتله، التي التقطها بكاميرا هاتفه، في بهو مدخل نقابة الصحفيين لمدة نحو شهر كامل أثناء حكم المجلس العسكري الأول.
لكن عبثا لا الداخلية ولا النائب العام ولا القضاء تفضل أي منهم بالبحث عن صاحب صورة قاتل الشهيد، وتذكرت أن أيا من رجال الشرطة والجيش من قاتلي الشهداء لم يحاسب أبدا.
الرحلة الثالثة للمترو بعد مشهد الفزع هذا توقفت، ودخلْتُ إلى عربة نصف فارغة، ولفنا صمت لم يقطعه إلا نداء إثنين من الباعة الجائلين من الشباب الأقل من العشرين عاما ركبوا من المحطة التالية “حدائق المعادي”، وأخذوا في الصياح على بضاعتهم من صور السيسي وعلَّاقات في الرقبة تحمل صوره، كسروا صمت العربة وهم يجوبونها جيئة وذهابا يستحثون الركاب على شراء بضاعة “البطل” بجنيه وبجنيهين، لكن أحدا لم يشترِ، بل كان بإمكاني أن ألاحظ أن عيون الركاب الزائغة أصلا حرصت على ألا تلتقي بعيون البائعين أبدا.
هبط الشابان في المحطة التالية “دار السلام”، وحمدت الله لأن أحدا منهما لم يُخرج من ملابسه مسدسا ويفرغه في زبائن غير متجاوبين وغير متحمسين، وأكمل المترو رحلته فيما تأبد صمت العربة مختلطا بنظرات توجس بين راكبيها.
عندما عدت إلى البيت في نحو الرابعة عصرا، بعدما أخذت جرعة كافية من مظاهر “عبادة الفرد” ومعها مزيدا من الشواهد بالعين واليقين أن الشرطة تتصدى بأقسى درجات القمع والوحشية لأي صوت آخر يرتفع يخالف “مارش تسلم الأيادي”، وجدت زوجتي وقبل أن أنطق بكلمة واحدة تلح أمام إبني أن نغادر هذا البلد.
كانت هي الأخرى مرعوبة، رغم أنها لم تكن قد غادرت المنزل في هذا اليوم قط، ولم أكن قد أخبرتها بشيء مما رأيت بعيني مما جرى في محطة المعادي الواحدة ظهر يوم السبت 25 يناير 2014.
ملحوظة: الآن وأنا أكتب هذه الشهادة، تذكرت أنه كان ينبغي أن أكون متوجسا من التفجيرات، وخشية أن يكون أحدهم يستهدف المترو بالمزيد من الانفجارات، لكن ما جرى أنساني حتى هذه اللحظة الخوف الأول المفترض.
بسكويت بالعجوة
لا يحب إبني البسكويت بالعجوة مع انني كنت اعشقه وأنا في عمره ( 9 سنوات). حاولت اغراءه اكثر من مرة .وأكثرت من شراء نوع شهير تصنعه إحدى شركات القطاع العام منذ طفولتي لكن عبثا هو لا يريد.
لكنني قررت أن أصرف النظر كليا عندما طالعت مقال رئيس مجلس إدارة دار الهلال العريقة في عدد مجلتها الأسبوعية " المصور" .قال الرئيس مفاخرا ـ وليس المقصود رئيس مجلس ادارة شركة البسكويت بالعجوة ـ في مقاله الافتتاحي الذي يتصدر صفحات المجلة مع صورة معتبرة لشخصه الكريم مرسخا تقليد "النشر بالمناصب" في "صحافتهم" المصرية :
ـ "حرصنا بالاتفاق مع الدكتورة رئيسة تحرير مجلة سمير ان يحمل غلاف هذا العدد رسما للمشير السيسي احتفاءا بإبن مصر الأصيل الذي واجه طغيان الإخوان وحمى اطفال مصر الذين يمثلون مستقبلها الزاهر من جبروت الإرهاب و ظلام الفاشية الدينية".
وقال أيضا الى جوار صورة عملاقة لغلاف مجلة الأطفال التي تصدر عن الدار منذ نحو ستين عاما حتى صادف طالعها الميمون أن تبدأ عهدا جديدا من "الطباعة المتطورة والورق الكوشيه الفاخر" مع بورتريه عظيم للمشير الى جوار "سمير" نفسه :
" إختيار السيسي لغلاف سمير رسالة للطفل المصري والعربي بان الجيش المصري بقيادة السيسي انقذ مصر من الضياع وشر الفتن الاخوانية وانتقام الجبابرة الإرهابيين الذين يخططون للانقضاض على الوطن بالتآمر مع أمريكا .ولأنه هو البطل الشعبي لدي الطفل المصري والعربي فمن حق المشير السيسي علينا ان يكون بطل غلاف مجلة سمير في أول عدد من التطوير".
غلاف مجلة "المصور " في عددها هذا رقم 4661 بتاريخ 5 فبراير 2014 لا غلاف مجلة " سمير " في عددها " السيسي " رقم 3005 بتاريخ 2 فبراير 2014 يحمل الى جانب عنوان مقال السيد رئيس مجلس إدارة " الهلال" عنوانا لا يقل أهمية هو :
ـ " تأديب حماس .. أصبحت خطرا على أمننا القومي".
ومع أنني كنت دائما أفضل " ميكي " الامبريالية على "سمير" الوطنية .إلا انني لم أجد منذ طفولتي بين عقدي الستينيات والسبعينيات أي خيانة في هذا المزاج النزق الذي يشدني الى "بطوط" و"دهب" و"بندق"و"عبقرينو" ، ويجعلني لا أطيق ثقل دم وتكلف " تهته"و " سميرة "بل كان بامكاني فيما بعد ومع سنوات الجامعة ومابعدها أن أختبر "قوميتي وعروبتي .. إيماني"وكذاعدائي للصهيونية والاستعمار. فأطمئن .
وحسنا فعلت مجلة "سمير" في عددها " السيسي" حين وضعت إعلان زبادي غنى بالكالسيوم والفيتامين يطل منه نمر برتقالي فاغرا فاه بعبارة " جواك بطل " تماما أمام افتتاحية " الدكتورة" وقد جاء فيها :
ـ " عودناكم دائما ان نحتفي بكل مناسباتنا القومية والدينية ".
وحينها فقط عدت الى الغلاف فلاحظت شارة " المشير" تطل من فوق كتفي "البطل المصري الأصيل " .هكذا بعد يوم واحد من خلع " البطل " لبدلة " الفريق أول". كما كان بامكاني أن ألاحظ الى اسفل الصورة التي يطل من خلفها " سمير " علم مصر ملقي الى الأسفل .
وباستثناء ذلك اكتشفت انني ربما خسرت كثيرا عندما لم أتابع " سمير " في طفولتي البائسة مع "ميكي". فقد لفت نظري عبارة "هيا الى الفطير المشلتت" مع أخرى تقول :" الدستور الجديد أنصف الفلاح المصري ياأستاذ سمير وأعاد له كرامته ..وأعتني بأحوال الفلاح المصري الأصيل ". ولقد كانت تلك " الخلطة الممتازة" في " سيناريو "نورت البيت ياسمير " للدكتورة نفسها رئيسة التحرير . وقد أحيت هي الأخرى تقليد رئيس مجلس ادارتها في " النشر بالمناصب " ، فاحتلت بنفسها ولنفسها الصفحات الثلاث الأولى من عدد المجلة .
لكنني وجدت ماهو أكثر جذبا وإثارة في باب "كلام بنات " .جاء تحت عنوان " كيف تعالجين بقعة الصلصة ":
ـ لأن لونها الأحمر القاني يتخلل الأقمشة بسرعة وتثبت عليها خصوصا إذا كانت هذه الأقمشة مصنوعة من القطن.
ومع ذلك ظلت " الدكتورة " رئيسة التحرير تطاردني في صفحات داخلية . فكتبت في تمام ظهورها الثالث .ولكن الأكثر تواضعا في الصفحتين الثامنة والتاسعة " حكاية أكبر متحف إسلامي في العالم ".قالت :
ـ أصدقائي .. في الأسبوع الماضي تعرض متحف الفن الإسلامي بمنطقة باب الخلق للتدمير الكامل إثر انفجار استهدف مديرية أمن القاهرة ..".
ولأنني أعرف ان " التدمير الكامل " معلومة غير صحيحة مطلقا . فقد انتقلت الى خبر بعنوان " نعم للدستور " عن ورشة فنية اقامتها "سمير " كي يعبر " الأصدقاء عن تاييدهم للدستور بريشاتهم والوانهم ". لكن ما شد اهتمامي هو الألوان مع سوء الإخراج في القصة المصورة " سر غموض اليد اليسري ".ويقول ملخص الحلقات السابقة :" يحاول أشرف الشريف في هذه القصة الكشف عن أكبر محترف سرقات وشهرته الأشول خاصة بعد سرقته للمليونير عادل المغازي . فهل يستطيع أشرف الشريف القبض عليه ؟" .
ومع ذلك فإن قصة " السر " انتهت بدون الكشف عن " السر" . فقط قال "أشرف الشريف " في الختام:
ـ أشعر أن هذه اللعبة ستنتهي نهاية سيئة ".
لكن هل هذه هي النهاية حقا . كلا . فمع باب " المراسل الصحفي " تسأل الطفلة نقيب الجيش المبتسم "بهاء الدين :" كيف سيتم القضاء على الإرهاب ؟" فيجيب :
ـ بتكاتف الجميع يدا واحدة جيش وشرطة وشعب .
وتطلب الطفلة مراسلة " سمير " التي لم يرد اسمها قط النقيب "بهاء الدين " أن يوجه كلمة لرجال الشرطة ، فيقول :
ـ نشكركم على عودة الأمن والأمان للبلاد والعباد . وشكرا على جهدكم الرائع .
إلا ان الطفلة " إيمان شندي محروس "من القاهرة كانت أكثر حظا من " المراسلة المجهولة " فقد نسبت اليها مجلة " سمير " كلمات منظومة جاء فيها :
ـ يامصر ياأم الدنيا
وقد الدنيا وكل الدنيا
بجد بجد وحشتينا
ورجعت تاني ونورتينا وآنستينا .
ولم يكن بالامكان التوقف كثيرا عند " قد الدنيا " .ولعل "تامر حسين " مؤلف قصيدة " إبن الشهيد " كان محظوظا هو الآخر عندما جاء اسمه في باب " أغنية" الى جانب كلمات منسوبة اليه مع صورة تجمع "السيسي " بشخص ما . وقد ورد بالقصيدة :
ـ عرض حياته ألف مرة للضياع
ومايستاهلش كره أبدا أو شماتة .
لكنني ما ان فرغت من قراءة الأغنية حتى تبينت مع سوء الطباعة والألوان أن الشخص الآخر لم يكن إلا "الرئيس المؤقت". وأسمه "عادلي منصور ". كما تذكرت أنني منذ نحو تسع سنوات عندما نظمنا في حركة " صحفيون من أجل التغيير " يوما للمعتقلين خصصنا فيه وقتا لرسوم أطفالهم قد لاحظت ان العديد منهم رسم شموسا وراء غمام . وقد تكررت تلك الشموس في غالبية اللوحات لأطفال يطل البؤس والقهر من عيونهم .
وهنا أعترف بأنني في هذا السن لم استطع مقاومة إغراء غلاف " ميكي " حين أطل منه " عم دهب " منزعجا ينظر من شباك يضئ خزانة نقوده .ينظر من خلال عدسات نظارته الشفافة بتجاه الساحرة الشريرة "سونيا " .وتحملها بدورها مقشتها العجيبة . وفي قصة " قيمة القروش " قال لـ " بطوط":
ـ إنني أبحث عن قرش .. فلا تزعجني .
ولقد اتضح في النهاية لي أن "دهب " يملك جميع عربات المثلجات في "مدينة البط" . أما "بطوط" فيعشق عصير الطماطم بالعسل .
ولم يكن بامكاني إلا ان اتوقف عند عبارة " علمان " الى " عبقرينو " في قصة " مهمة المخترعين ". قال :
ـ هيا نخرج من هنا ونذهب الى معملي لنرى اختراعي الجديد .. أنه طفرة في عالم التكنولوجيا الايديولوجية الميتافيزيقية المتحولة .
إلا ان بيت القصيد الذي أبحث عنه جاء في "المواجهة السحرية " حين تنكرت " سونيا " في صورة عاشق معجب كي تذهب الى الساحرة الأخرى " شمعة " في المطعم لتحصل منها على خصلة شعر .قالت لها :
ـ شمعة .. انت دائما فتاة احلامي .. أحتاج الى تذكار منك .
فتجيب و هي تضع المعلقة في طبق الحساء :
ـ إصنع "لايك " لصفحتي على "الفيس بوك" .
وفي نهاية القصة يتضح ان شعر " شمعة " الأصفر الطويل الجميل تحت قبعتها العالية ما هو إلا مستعار من ذيول أجمل الخيول في العالم .
وما كان لي ان أفرغ من محبوبتي " ميكي " إلا مع صفحة "معلومات غريبة " . فطالعت :
ـ جميع الثعابين تتمتع بحصانة طبيعية ضد السموم التي تفرزها .
لكنني لم اصدق . وقلبت المجلة فوجدت إعلانا لاصدار جديد للأطفال باسم :
ـ دراكولا .
وأخذت أبحث عن " باكو" بسكويت بالعجوة كي التهمه كطفل أكلت اسنانه الحلوي . لكن عاجلني زميل في العمل يشكو ضيق الحال .ويسخط على استقطاع عشرة في المائة من رواتبنا فيما إرتفع قسط " الترم الثاني" لتعليم الأولاد ،والمؤجل أصلا مرة "للم الشمل" ومرة للبحث عن " تأمين مدني للمدارس ".وقال أيضا :
"أنظر رفعوا رواتب الشرطة 30 في المائة ..وفي الإجمال تضاعفت اجورهم مع رجال الجيش لنحو ثلاثة مرات منذ ثورة 25 يناير ".
ضقت به أنا الآخر ،فقلت له :
إسأل " سونيا " عن " دراكولا ".. أو إسأل رئيسك في العمل عن " الجبابرة الإرهابيين في ظلام الفاشية الدينية ".
وقتها تذكرت بأن رئيس مجلس إدارة " الهلال " العريق لم يكن خالص النية تماما حين أنهى افتتاحيته الغراء برفع " طلب خاص " الى " سيادة المشير " . وهو ان تتلقي مجلة " سمير " والدار كلها من " سيادتكم " دعما ماليا .
لكنني قررت ألا أعبأ بكل هذا .وعدت لتصفح مجلة " ميكي " يقودني شوق الى " بسكويت بالعجوة ".
(4)
المجد للمجهولين
ماإن بلغت الساعة تمام الخامسة مساء الثلاثاء 11 فبراير 2014 حتى توقفت الحركة في ميدان التحرير .وعلى الأسفلت شاهدت مدرعات الجيش الصفراء المسرعة من ناحية كوبري قصر النيل تنتشر في أنحاء الميدان ملتفة حول الكعكة الحجرية الفارغة لتأخذ أماكنها على مداخل كافة الشوراع المؤدية إليه . كان غزو المدرعات للميدان على هذا النحو مباغتا . و بدا بلامبرر . وقد أخذت في التمايل والاهتزاز حتى كادت ان تنخلع وهي تسرع في مناوراتها . اما الاصوات المنبعثة منها فقد جلجلت في جنبات الميدان كأجهزة خربة متهالكة أصابتها حشرجات ماقبل العطب . تكركر وهي تهتز في سعيها المسرع فوق اسفلت الميدان الأسود وكأنها تكبت أشواق العودة الى موطنها الأصلي في الصحراء ورمالها الناعمة.
انقطعت السيارات من الميدان .وتباطأ مارة متناثرون يعدون على أصابع اليد هنا وهناك. وران الصمت . وكان قد لفت نظرى منذ أن دخلت الى الميدان قادما من شارع "طلعت حرب" هذا الكم غير معهود من المخبرين المتفحصين للمارة في وسط البلد بعيون مقتحمة وقحة . بعضهم يحمل أجهزة إتصال .والآخر لا حاجة له بها . كما لا حظت عددا لا بأس به من "باشوات " و " باكوات" الأمن يجلسون في تحفز على مقاعد فوق النواصي والأرصفة. بينما كانت المحال التجارية التي جردوها من مقاعدها و سخروا امكاناتها في صنع الشاي الأسود شبه خاوية بلا زبائن .
كان قد لفت نظرى فور أن بلغت ميدان التحرير علم البلاد يرتفع بوضوح فوق صاري يتوسط مجموعة من المواطنين .هناك فوق رصيف يقابل الكعكة الحجرية باتجاه " المجمع " الذي طليت جدرانه بلون ابيض لاخفاء أي شعارات أو خربشات معارضة . لكنني قصدت على الفور مدخل شارع "محمد محمود"، فطالعت جدار الجامعة الأمريكية .وقد تحول اليوم الى جدارية سريالية تسودها خلفية بلون أحمر خفيف " بمبي" مرقطة ببقع غير منتظمة من أحمر قان . وباللون نفسه تصدرت عبارة ممتدة :" اسحل وعري وطري مجهزنهولك مغري" .لكن كلمة "اسحل" جرى اخفاء معظم حروفها تحت الخلفية "البمبي" على نحو يتطلب من القارئ قدرا من الجهد والفطنة كي يتبينها . والى جوار العبارة البطل وباتجاه المدخل المؤدي الى مكتبة البيع بالجامعة نقش مبدعو الجدارية كلمتين هما :" المجد للمجهولين". وباستثناء ذلك كان مجهولون بالفعل قد أضافواعبارات بخط مرتجل وباللون الأسود من قبيل :" آيات مش إخوان " و " يسقط حكم العسكر "و "الداخلية بلطجية ".
وباستثناء ذلك لم يكن مفيدا التوغل في الشارع الذي شهد أكثر من مجزرة منذ زمن "مبارك" .وقد تحولت صحف الدولة في الأيام الأخيرة عن وصفه بـ" الرئيس المخلوع"الى منحة بتوقير يناسب اقتراب الذكرى الثالثة للتنحي لقب " الرئيس الأسبق".وهو ما يتماشى تماما مع ترويج هذه الصحف لأن 25 يناير لم يكن سوى "مؤامرة" أو "أحداث" .وهكذا اتخذت طريقي عائدا الى قلب الميدان باتجاه العلم المرفوع عاليا. وحين اقتربت تبينت مجموعة من المواطنين "الشرفاء " يترقبون في وضع الانتظار وقد نصبوا المصيدة.لا يرفعون صور "مبارك" أو "السيسي" . لكن ملامحهم لاتغيب عمن خبر جيدا بلطجة رجالات ونساء الحزب الوطني في يوم الأربعاء الأسود ( 25 مايو 2005).وعلى الرصيف المقابل كانت الشرطة بملابسها الرسمية و السرية أضعاف أعدادهم . تنتظر هي الأخرى .وقد تبادل الجمعان نظرات الترقب والرعاية . وهكذا كان على أن أمر بهدوء وسلام بين الجمعين دون ان أمعن النظر فاثير الارتياب أو أبادرهم بحديث فأقع في شباكهم اللعينة .لكنني لحظتها تذكرت جيدا كم قمت مرة تلو أخرى بتوزيع "مقالات الثورة وميدان التحرير" بحرية في هذا الميدان دون ان يمسني أحد كان.و لما يزيد عن عام كامل منذ 29 يناير 2011 . وإن عجزت بعدها على نشر المقالات المجمعة في كتاب بعنوان "ورق أيه فور" بسبب حسابات الناشرين بما في ذلك المحسوبين على اليسار والثورة .
بحسابات السياسة الباردة كان من غير المتوقع ان يحاول الشباب الوصول الى ميدان التحرير بعد قمع السبت الدامي 25 يناير 2014 . لكن وأنا في طريقي الى الميدان خال لي بين حين وآخر انني استمع الى هتافات قادمة من بعيد . أحيانا ما كانت أتبين كلماتها في عبارتي :" يسقط حسني مبارك " و " يسقط حكم العسكر ". لكني يقينا وبحسابات السياسة أيضا كنت ادرك ان هناك الآلاف بل قل عشرات او مئات الآلاف يتظاهرون بعيدا عن أضواء وسط العاصمة . هناك في الأحياء الشعبية والمدن والقرى . تلك المظاهرات النائية التي تطالب في معظمها بـ"عودة الشرعية" رافعة بالأصابع الأربع علامة مجزرة " رابعة العدوية ". وربما ترفع أيضا صور رئيسهم "مرسي". وربما لهذه المظاهر فإنها لا تثير الكثير من الاهتمام او التعاطف هنا وهناك . ولا يتوقف المثقفون كثيرا عند ضحايا القمع البوليسي لها من شهداء وجرحى بالمئات كل يوم مع انهم يدركون في قرارة النفس انها الاكثر تجذرا واستمرارية ومقاومة في وجه صعود الفاشية العسكرية الأمنية . بل ومع الأيام الأخيرة انتشرت همسا أنباء غير منشورة في وسائل الإعلام التقليدية عن انتقال قطاعات من الشباب الى تنظيم مقاومة مسلحة تضرب الضباط وممتلكاتهم وأسرهم هنا وهناك على امتداد البلاد .ولكن بعيدا عن ميدان التحرير ووسط العاصمة . كما انتشرت كالنار في الهشيم في وسائل الإعلام غير التقليدية وبخاصة صفحات الفيس بوك شهادات نشطاء سياسيين من غير الإسلاميين أو الإخوان على المدي الذي بلغته وحشية التعذيب بايدي الشرطة العائدة الى سيرتها الأولى سنوات "مبارك" أو الى الأكثر بشاعة . وإذ كانت آلة القمع الجهنمية الدائرة بأقصي سرعة قد امتدت الى شباب ثورة 25 يناير من ليبراليين ويساريين بعدما بدأت دورانها بالإسلاميين .
والى جانب كل ذلك ،بدأت المساحات المنسية الأقل أهمية في عدد من الصحف تنشر أنباء متفرقة منزوية خجول عن الإضرابات في العديد من المصانع وأماكن العمل بما في ذلك شركات القطن الكبرى بالمحلة. تلك التي حملت في 6 إبريل 2008 بشائر الثورة القادمة . هذا فيما تتسيد تحت الأضواء في المساحات الممتازة تصريحات المسئولين ومقالات رأي السادة الكتاب المعتمدين تندد بأي محاولة لإثارة " المطالب الفئوية " في وقت يجب ان "نكرس فيه كل الجهد والطاقة من أجل معركة مكافحة الإرهاب " وحيث لا يعلو صوت فوق صوت المعركة ( ضد الإخوان ).
شعرت بتعب قدمي .وفكرت بالنزول لركوب مترو الأنفاق عائدا الى البيت . لكنني عندما بلغت منزل المترو من ناحية شارع "طلعت حرب" وجدته مغلقا وقد تراكمت أمام الباب الأتربة والقمامة . وحينها تذكرت أن محطة التحرير مغلقة منذ 14 أغسطس 2013 ومع مجزرة "رابعة " والتي لا نعرف بالضبط كم هو عدد ضحاياها .وإن قال "روبرت فيسك" في صحيفة " الاندبندنت "حينها بأنها " أكبر قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث ". هكذا الجملة محفورة في رأسي منذ أن قرأتها على موقع الصحيفة البريطانية بشبكة الإنترنت . لا تنمحي ولاتريد.
غادرت " التحرير " عبر " طلعت حرب " فانتبهت من شرودي الى حركة جنود الجيش بهمة لنشر أسلاك شائكة بعرض الشارع . أفلت مرة اخرى مما بدا لي مصيدة . لكنني لا حظت والجنود على مقربة أن ملابسهم متسخة ووجودهم شاحبة . ابتعدت .لكنني التفت بعد خطوات فبدا الميدان بعيدا نائيا وكئيبا من خلف تموجات الأسلاك الشائكة ومدرعتين واشباح جنود .
وكانت الشمس حينها بسبيلها الى الغروب .
(3)
ذكرى الجمل
استيقظت صباح يوم 2 فبراير على أخبار في صفحات " الفيس بوك " عن انفجار أمام دار القضاء العالي قرب موقع عملي و حيث الصورة العملاقة للجنرال . كما طالعت أخبارا عن انفجارين آخرين في القاهرة . في العادة ما أصحو حول السادسة صباحا . لكن لا أعرف ما الذي ايقظني مبكرا عن ذلك بنحو الساعة . ربما هو القلق أو سبب لا أدركه .
حاولت التيقن من صحة أخبار الإنفجارات على المواقع الألكترونية لعدد من الصحف . لكنني وجدت أكثر من تصريح ينفي هنا وهناك . فتحت التلفزيون لكنني لم أصل الى جديد . وكان على في النهاية ان أترك الأمر كله لأن أخبار الإنفجارات ونفيها أصبحت معتادة هذه الأيام . فقط يتعين عليك ان تشعر بالخوف وبالحاجة لمن يحميك ويحمي البلد . والأهم أن تظهر هذا الشعور بلا تحفظ عندما يتحدث زملاء العمل عن المعركة مع الإرهاب . ويكيلوا أوصاف الإرهابيين المجرمين للإخوان . حينها عليك ان تتظاهر بأنك تصدق بلا تحفظ أو شك أو أية نية في طرح سؤال عن دليل غائب أو تعميم ساذج. فقط انخرط في حملة الكراهية وسباب العدو وتوكل على الله .
نهضت فجأة من أمام جهاز الكومبيوتر تدفعني رغبة ملحة في التبول . فرغت. و توجهت الى صنبور المياه فطالعت وجهي في المرآة. وتنبهت الى ان الذقن تحتاج الى حلاقة . لكنني تذكرت أن اليوم هو الذكرى الثالثة لموقعة الجمل . فصرفت النظر . لكننى عدت للتفكير في أخبار انفجارات الصباح الباكر . ثم قلت لنفسي ربما كان من الأفضل ان تحلق ذقنك قبل ان تذهب الى العمل . لكنني في النهاية ترددت . ببساطة تملكني رعب غير مبرر أن تجرحنى شفرة الحلاقة فلا أتمكن من إيقاف نزيف الدم أبدا.
عندما اقتربت من الوصول الى مقر عملي بجريدة " الأهرام " أطلت على من أعلى صورة ضخمة للمشير في زيه العسكري . كانت الصورة قد جرى زراعتها أمام سنترال الإسعاف وبعد مدخل شارع " التوفيقية " العامر بالخضار والفاكهة وقطع غيار السيارات المستعملة . والصورة تستقبل السيارات القادمة في اتجاه واحد بشارع رمسيس الوسيع . ولما حاولت مقارنة ملامح صاحبها مع صورة دار القضاء العالي عجزت . ببساطة لم أتذكر أبدا ملامح الصورة الأخرى . لكن عندما وصلت الى مدخل "الأهرام " كان على أن أمسح نعلي حذائي جيدا قبل أن أدلف الى البهو . وهكذا أضطررت الى أنظر الى أسفل كي أتبين أن مقدمة الحذاء في القدم اليسري قد غطتها طبقة من الأتربة.
مر الوقت ثقيلا . وتجنبت الحضور بين مكاتب مزدحمة للزملاء . إلا أنني عندما هممت بالخروج اصطحبت معي زميلي " محمود"بعدما دعوته للذهاب الى معرض الكتاب بمدينة نصر . وعندما بلغنا شارع رمسيس إقترحت عليه ان نذهب أولا سيرا على الأقدام الى ميدان التحرير . فاليوم ذكرى موقعة الجمل الثالثة وجريدة الأهرام التي نعمل بها لم تشر ولو بكلمة إليها . تحمس . وتبادلنا في الطريق ذكريات كلانا حول هذا اليوم الدموي الرهيب . وبالمقارنة لا حظت أن ماعلق بذاكرتي في هذا اليوم كان خاليا من المبالغة أو الإختلاق . سيارات الأجرة ومجموعات المتظاهرين المشبوهين ترفع صور "مبارك " وصولا الى ميدان الإحتجاج في التحرير . ثم النجاة من هجوم قاس شنه انصار الرئيس المتشبث بالسلطة من ناحية ميدان عبد المنعم رياض . والدور البطولي للشباب بما في ذلك الإخوان وصبية الأحياء الشعبية والورش. فذكريات ليلة مابين 2 و 3 فبراير 2011 حيث كان يجرى نقل جثث القتلي والمصابين من تلك الناحية و أصوات طلقات النار من فوق العمارات الكائنة بطرف الميدان .وكذا من أعلى الكوبري هناك . وكان على الذاكرة أن تستحضر جثة أحدهم وقد شاركت بيدي هاتين في حملها فيما غطت الدماء صدره . وتذكرت أيضا مع الصباح الباكر يوم 3 فبراير أولئك المصريون العائدون الى الميدان عبر مدخل شارع طلعت حرب يحملون الأطعمة للمعتصمين ومعها دمهم استعدادا لمزيد من الصمود و التضحيات . حقا بالنسبة لي ولمحمود لم تكن موقعة الجمل مجرد مشهد الجمال المهاجمة لمعارضي مبارك وحسب وكأنك تطالع كارت معلم سياحي التقطته عدسة مستشرق.
بلغنا الميدان من ناحية " عبد المنعم رياض " فعاينا حركة مرور طبيعية . إزدحام منتصف النهار . هممنا بالتقدم الى قلب الميدان . فصدتنا أعمال حفر في الرصيف . لكن كل شئ كان كفيلا باقناعنا بلا جدوى الاستمرار في السير . فالميدان بدا وكأنه قد تغير عما كان يوم الجمل . ولا علامة واحدة تفيد باحياء الذكرى من أي كان . أما نصب الشهداء الذي اقامته حكومة قتلت المزيد بدم بارد فقد لاح لي كحجر أصفر ملقي بلا عناية في منتصف الميدان . حجر غريب عن المكان . وأحسست وكأن قوة طاردة تدفعني بعيدا . واسرعت و"محمود" الى شارع شامبليون الجانبي كي نعود أدراجنا لنستقل حافلة الى معرض الكتاب .
ولا أدرى لماذا راودني خيال غريب بأننا عندما سنبلغة ستستقبلنا مظاهرة ضمير من شخصيات خرجت لتوها من بين دفوف الكتب تصرخ مطالبة بالحرية وبحق الشهداء وتسخط على من غدروا بالثورة وبالتضحيات والدماء الطاهرة. لكن كل شئ كان هادئا على أبواب المعرض وداخله . وقد تناهت الى السمع اصداء غمغمات غير مفهومة قادمة من ناحية سرادق " المقهى الثقافي " .كانت لمثقفين يثرثرون أمام ميكروفون وفرته لهم الهيئة العامة للكتاب.
اشتريت بعد تردد كتابا يحمل عنوان " الجنرال المنقذ " وعليه سؤال استفهام :" من يقيل مصر من كبوتها ؟" . وقد شغلت صورة الجنرال غلافه وخلفها أسد يفتح فاه عن آخره .وقد برزت أنيابه الوحشية المخيفة. وعندما أخذت في تصفحه علي مقربة من بوابة الخروج طالعت في الصفحة الحادية عشر العبارة التالية :
" أما الفصل الخامس والأخير فهو الهدف الحقيقي من هذا الكتاب .وأتحدث فيه الى الجنرال الذي انقذ مصر ،الفريق أول عبد المنعم السيسي ، آملا أن يتقبل كلماتي والتي اعلم جيدا ان حكمته وحكمة مستشاريه تجعله في غنى عنها وعني ".
وقلت لنفسي متسرعا في الحكم على الكتاب بأن المؤلف لا يريد منه إلا مخاطبة الفريق أول الذي أصبح "مشيرا " . لكنه هاهو يتواضع ليقول بأن " المشير" ليس في حاجة الى كلماته . إذن فلماذا الكتاب ولماذا اشتريته ؟. أليس هذا كله جنون في جنون ! .
أمام التليفزيون في منزلي كادت الرأس أن تسقط على الصدر وأنا أنظر بعيون متعبة نصف نائمة الى برنامج استضاف ابطالا صغار لموقعة " الجمل " . قالوا انهم من العاملين بالسياحة بمنطقة "نزلة السمان" في " الهرم " . وأضافوا مع تصنع البراءة انهم ما نزلوا "التحرير" إلا لأنهم يحبون الرئيس "مبارك" . ولم يرضوا باهانته . فحملوا صوره وفقط وذهبوا الى هناك.
وببساطة قالت المذيعة في لغة حماسية لكنها غير سليمة ان موقعة الجمل وهم ولم تحدث أصلا . و أكدت : "برأ قضاؤنا العادل النزيه كل المتهمين من محبي سيادة الرئيس ورجاله بما في ذلك المستشار الجليل مرتضي منصور ".
هذا الرجل الذي رأيته يطير من الفرح وهو يرد ممتنا تحية المارة أمام سور نقابة المحامين بشارع عبد الخالق ثروت ظهيرة يوم 30 يونيو 2013 .وقد بدا وكأنه هو الآخر يقصد "التحرير" محركا ذراعيه المفتولتين بقوة وتفاخر باتجاه الميدان كي يتظاهر هو الآخر ضد حكم الإخوان وطلبا لرحيل الرئيس " محمد مرسي " .
وأضافت المذيعة وقد لا حظت حينها أنها وضعت أحمر شفاه بلون الدم القاني :
ـ "كفانا مزايدات ".
(2)
صورة للمشير أمام دار القضاء
اليوم إجازة .. صباح الجمعة .. و كان على ان أتوجه مبكرا الى فندق " كوزموبوليتان " لمقابلة الصديق الناشر والمثقف التونسي " النوري عبيد " في التاسعة . لم يصادفني عمال نظافة في الطريق . فقط عندما صعدت من محطة أنفاق الإسعاف " جمال عبد الناصر " و أخذت في عبور شارع 26 يوليو " فؤاد" باتجاه "دار القضاء العالي" لفتت نظرى للمرة الأولى خلفية صورة عملاقة في إطار خشبي تتمدد أسفل الرصيف والى نهر الطريق ذي الإتجاه الواحد بنحو أربعة أمتار . كانت الصورة عملاقة الى حد انني من موقعي رأيتها تعلو من مستوى النظر للقادم من اتجاه شارع رمسيس مبنى دار القضاء العالي نفسه . ولأن الصورة استهدفت القادمين في سياراتهم من ناحية ميدان الأوبرا فقد كانت خلفيتها المواجهة لي بيضاء . إلا أنني وقبل أن أتمكن من النظر اليها من الجانب الآخر خمنت بحدس لم يخطئ أنها للجنرال الذي أنقلب على أول رئيس مدني للبلاد في 3 يوليو 2013 ، مستغلا كراهية شعبية للإخوان تجلت في مظاهرات 30 يونيو من العام ذاته. وأصبح هو مرشح " الإجماع الوطني " و" المفوض " من الجيش بالترشح للرئاسة .
وهكذا حلت الصورة العملاقة محل أربع مدرعات صفراء كانت راسية أمام مدخل دار القضاء العالي تماما عند تقاطع شارعي " رمسيس " و " فؤاد" .وقد التصقت بجدران المدرعات "بوسترات" للشئون المعنوية للقوات المسلحة تتصدرها صورة الجنرال السيسي، وخلفه تتضاءل صورتان للرئيسين "جمال عبد الناصر" و"أنور السادات" . وهي بوسترات مهدت لاحقا لأن يردد الجنرال على الملأ ـ ومبكرا جدا ـ كلمتي "جيشي" و "شعبي " .
وعندما أصبحت في وضع يسمح بتأمل وجه الصورة العملاقة المزركشة بالألوان الصارخة. ألوان القوة . بدا الرجل في ملابسه العسكرية كائنا أسطوريا لا يجاريه في فتوته أبطال السينما الأمريكية القديمة ،من أمثال "طرزان ". وقد أطل صدره نافرا الى الأمام يهجم على المارة.و الى جواره عضلات ذراعيه المفتولتين .لكنني لم أتبين إذا ماكانت الصورة على هذا النحو قد بلغت الحذاء العسكري . أم أنها توقفت الى مادون الركبتين . كما لم أتوقف لأحصى عدد النسور والسيوف و النجوم المكدسة فوق كتفيه . إذ كانت صحيفة صباحية قد انفردت بنشر صورة للجنرال في زيه العسكري محملا بما لذ وطاب من علامات وأمارات رتبة "المشير" . وقبيل سريان قرار ترقيته من رتبة الفريق أول الى الرتبة التي لا تعلوها رتبة بحلول الأول من فبراير 2014 ، و من دون إنجاز عسكري أو سنوات أقدمية.
لم أتمكن لا من هذا ولا ذاك . فقد عاجلني صوت جاء من خلفي بعبارة بدا وكأنها تحاول التفتيش في السرائر :" إمتى بقي يقلع البدلة الميري .. ويلبس الملكي .. كلنا عايزينه ريس ..مش كده ياأستاذ؟". لكن الرجل الذي أصبح في محاذاتي تماما بدا فقيرا على باب الله . هكذا هي هيئة ملابسه وحذائه المهترئ . وإن سرت في أوصالي قشعريرة من وقع اقتحامه لي بعبارته تلك .و ظننت أن الرجل ثمل بخمر متواضع الصنف لا يبيعه محل المشروبات الكحولية على الجانب الآخر من الرصيف مقابل الصورة العملاقة . خمر لا يعاقره حتى مرتادو البارات من صغار مثقفي الدولة الآكلين من فتات الدكتاتوريات المتعاقبة الملوثة بدماء وآهات شعبهم وفقرائه . وهكذا تظاهرت بالصمم . وقاومت رغبة عارمة في أن أحث الخطى . فتعمدت أن أواصل السير على نفس الوتيرة ، حريصا على كبح أي مظهر للانفعال أو الاضطراب في مشيتي . وما إن تخلصت من مرافقة الرجل واسترسال كلمات لم أعد أعيها ومعها سطوة الصورة التي لم أر مثيلا لضخامتها وإرتفاعها عندما زرت دمشق في عنفوان الرئيس الأسد الأب وعبادة الزعيم السوري قبيل وفاته في عام 2000 بشهور قليلة حتى بلغت بائع الصحف أمام مقهي " الأمريكين ".
بعد نظرة لم تستغرق دقيقة اختصرت عناوين الصفحات الأولى في عنوان واحد طلبت صحيفة الأهرام التي أعمل بها مع صحيفتين اعتدت شراءهما. لم اتوقف عند الصفحة الأولى للأهرام بأكملها أو الصحيفة كاملة .بل تناولت "ملحق الجمعة" لأطالع حديثا أجريته مع المفكر اللبناني " كريم مروة ".وكتبت عنوانه الرئيسي من كلمات الرجل :" المرحلة القادمة من الثورات العربية طويلة وحافلة بالصراعات". ولم أندهش عندما وجدت العنوان قد جرى استبداله وتحوير كلمات الرجل لتبشر بالتفاؤل إزاء مستقبل البلد، فيما الناس يقتلون يوميا في الشوراع وقد ديست كرامة أهلهم . كما صدق حدسي هذه المرة أيضا وأنا أطالع سؤالا وجهته عما إذا كنا قد استوعبنا دروس وأخطاء انكسار حركة التحرر الوطني بما في ذلك ظاهرة الزعامة الكارزمية . فوجدت ان مايتعلق بالكاريزما جرى حذفه من السؤال ، مع أن الحوار الصحفي لم يتطرق بالاسم أو الإشارة الى "السيد الفريق أول " الذي أصبح هكذا "سيادة المشير ".
ومع ذلك فقد شعرت بغصة .ولمت نفسي لأنني لم أصر على سحب الحوار عندما شعرت بسوء نوايا وكلاء " التوجيه المعنوي".وحنقت على شاعر أصبح يمتدح العسكر ليل نهار وينصب من نفسه مدافعا عن "جيشنا" كل يوم في صحيفة أخرى، فتولى الاشراف على " ملحق الأهرام" قبل أيام وأعمل سيفا صدئا في الحوار التعس . و لم أملك إلا ان القي بالصحف التي في يدي الى أقرب سلة مهملات في الطريق .
وحين بلغت باب الفندق كان على ان اتجرد من كل ماهو " معدني " حتى أعبر الى الداخل . ومع أن رجل الأمن على الباب كان يقاوم غفوة مبكرة . إلا أنه تأسف من تعليمات بالتشدد في مثل هذه الأيام التي وصفها بـ " الصعبة " . وعلى أية حال ، فقد شعرت بأن بهو الفندق أكثر عتامة عما كان في السابق . ولا حظت للمرة الأولى ان جانبا من الحوائط الداخلية مكسوة بخشب داكن اللون فيما صرير المصعد صعودا وهبوطا يكسر الصمت .و يضفي أجواء من الأسي بلا حدود . وحين نزل صديقي استقبلته بأحضان فيما كان على أيضا ان أتجرد من كل ماهو " هموم" صباحية . وعندما اصطحبني الى مطعم الفندق ليتناول إفطاره . لا حظت انه خال من أي رواد . بل وشعرت بمزيد من العتمة وبسطوة الصمت .
حاذرت وربما حاذرنا كلينا أن نتحدث في أوضاع البلد السياسية في مكان مغلق . ولذا انطلقنا بعدما تناول الصديق افطاره الى مقاه مجاورة مفتوحة على شوارع وسط البلد خلف " بورصة الأوراق المالية " . لكن رفيقي كان لديه حساسية زائدة ومبالغ فيها إزاء هواء نهاية يناير البارد ، مع ان كراهيته العمياء كيساري تقليدي لا تضع حاجزا بينه وبين كل من يقمع " الإخوان " حتى ولو كان ديكتاتورا في لباس رجال الأمن والعسكر. فاقترح ان نذهب الى " جروبي " ميدان طلعت حرب . وفي الطريق كان بامكاننا أن نتحدث قليلا في السياسة . لكن عندما دخلنا الى المقهى وأصبحنا خلف زجاجه لاحظت أننا أصبحنا أكثر حرصا في الحديث . وذلك مع أن أحدا لم يكن هناك . باسثناء النادل الذي انشغل في الصالة المجاورة بمتابعة شاشة التليفزيون وهي تعيد أغنية " تسلم الأيادي ".
(1)
على محطة المعادى
كنت متوجها إلى محطة مترو المعادي ظهر السبت 25 يناير الماضي قاصدا وسط البلد، في الطريق رأيت لافتات معلقة تهنئ الشرطة بعيدها في 25 يناير وعليها صور السيسي ومحمد إبراهيم، لا كلمة واحدة عن الثورة، وحتى صور الشهداء على جدران أحد المنازل في ميدان الحرية جرى محوها بعناية.
عندما وصلت إلى المحطة من ناحية شارع 7 كانت الساعة الواحدة ظهرا، لاحظت فور الدخول إلى الرصيف المؤدي إلى “المرج” طليعة تجمُّع للشباب على مدخل المحطة في الجانب الآخر (شارع 9)، وتبين لي بالكاد أعلاما بيضاء مرفوعة وعلى اثنين منها اثنان من البورتريهات للشهيدين الشيخ عماد عفت ومينا دانيال، بدا لي أن الهتافات كانت ضد العسكر والإخوان معا، دقيقة أو دقيقتان وشاهدت مجموعة من الشباب بملامح بلطجية تأتي مسرعة من خلفي لتعتلي الكوبري باتجاه الرصيف المقابل، وكان أحدهم يعلق في رقبته رباطا تتدلى منه صورة السيسي في ملابسه العسكرية، وعندما بلغوا الرصيف أخرجوا خراطيش وبدأوا في استهداف المتظاهرين.
وسرعان ما تبيّن لي أن الهجوم على المتظاهرين المعارضين كان على هيئة “كماشة “، فرغم الهجوم من الأمام فقد اندفعت أعداد منهم إلى داخل المحطة على الرصيف، فيما ظهر مطاردون لهم من شرطة بملابس رسمية وملابس غير رسمية وهم يحملون المسدسات والسلاح الآلي وبعضهم ملثم في ملابس سوداء. كان المشهد مرعبا، وأصوات طلقات الخرطوش والنار تتردد في جنبات محطة المترو، والبلطجية من حاملي الخرطوش وضاربيه يعملون في حماية الشرطة، بل ورعايتها، والناس حتى في الجانب الآخر من المحطة تبحث عما تحتمي به.
انطلق المطاردون وراء المتظاهرين الفارين على قضبان المترو باتجاه محطة ثكنات المعادي، وساد الرصيف المتجه إلى حلوان نفسه مشهد مخيف من رجال الأمن الشاهرين سلاحهم. يقينا كان الشباب المتظاهر لا يحمل أي سلاح ولا حتى الحجارة، لم يكن معهم سوى أعلامهم وحناجرهم وصور شهداء ثورة يناير.
جاءت رحلتان من المترو في اتجاه “المرج”، ولكنهما لم تتوقفا في محطة المعادي، والركاب متسمرون في أماكنهم رعبا لا يعرفون كيف يتحركون، لقد أربكتهم المفاجأة، فقط احتموا بالأعمدة والحوائط. وسنحت الفرصة لي لتبين ملامح وجوه البلطجية العائدين مظفرين من غزوة الرصيف المقابل، كانوا شبابا تحت العشرين في وجوههم آثار معارك ربما جرت بالسكاكين والمطاوي وشفرات الحلاقة، وبدت على الوجوه ملامح نشوة الانتصار، بينما صاح شرطي من الرصيف المقابل: “قبضوا على ولاد الكلب”.
فكرت في أن ألتقط بكاميرا صغيرة كانت معي أو بعدسة الهاتف المحمول، صورة للبلطجية أو أحدهم ممن عادوا للتجمع خارج المحطة باتجاه شارع 7، أو لرجال الشرطة بملثميهم على الرصيف الموازي لشارع 9، لكنني شعرت بالخوف وتحسبت للعواقب، وتذكرت زميلي “أحمد محمود” الذي قتله ضابط شرطة في ملابسه الرسمية وهو يلتقط الصور من شرفة مكتبه في شارع محمد محمود يوم 29 يناير 2011، وقمنا بتعليق صورة قاتله، التي التقطها بكاميرا هاتفه، في بهو مدخل نقابة الصحفيين لمدة نحو شهر كامل أثناء حكم المجلس العسكري الأول.
لكن عبثا لا الداخلية ولا النائب العام ولا القضاء تفضل أي منهم بالبحث عن صاحب صورة قاتل الشهيد، وتذكرت أن أيا من رجال الشرطة والجيش من قاتلي الشهداء لم يحاسب أبدا.
الرحلة الثالثة للمترو بعد مشهد الفزع هذا توقفت، ودخلْتُ إلى عربة نصف فارغة، ولفنا صمت لم يقطعه إلا نداء إثنين من الباعة الجائلين من الشباب الأقل من العشرين عاما ركبوا من المحطة التالية “حدائق المعادي”، وأخذوا في الصياح على بضاعتهم من صور السيسي وعلَّاقات في الرقبة تحمل صوره، كسروا صمت العربة وهم يجوبونها جيئة وذهابا يستحثون الركاب على شراء بضاعة “البطل” بجنيه وبجنيهين، لكن أحدا لم يشترِ، بل كان بإمكاني أن ألاحظ أن عيون الركاب الزائغة أصلا حرصت على ألا تلتقي بعيون البائعين أبدا.
هبط الشابان في المحطة التالية “دار السلام”، وحمدت الله لأن أحدا منهما لم يُخرج من ملابسه مسدسا ويفرغه في زبائن غير متجاوبين وغير متحمسين، وأكمل المترو رحلته فيما تأبد صمت العربة مختلطا بنظرات توجس بين راكبيها.
عندما عدت إلى البيت في نحو الرابعة عصرا، بعدما أخذت جرعة كافية من مظاهر “عبادة الفرد” ومعها مزيدا من الشواهد بالعين واليقين أن الشرطة تتصدى بأقسى درجات القمع والوحشية لأي صوت آخر يرتفع يخالف “مارش تسلم الأيادي”، وجدت زوجتي وقبل أن أنطق بكلمة واحدة تلح أمام إبني أن نغادر هذا البلد.
كانت هي الأخرى مرعوبة، رغم أنها لم تكن قد غادرت المنزل في هذا اليوم قط، ولم أكن قد أخبرتها بشيء مما رأيت بعيني مما جرى في محطة المعادي الواحدة ظهر يوم السبت 25 يناير 2014.
ملحوظة: الآن وأنا أكتب هذه الشهادة، تذكرت أنه كان ينبغي أن أكون متوجسا من التفجيرات، وخشية أن يكون أحدهم يستهدف المترو بالمزيد من الانفجارات، لكن ما جرى أنساني حتى هذه اللحظة الخوف الأول المفترض.