الأساطير والمرأة
مبارك عامر بقنه
والعلوم كلاهما يقدمان تفسيرات للكون. والفرق المهم بينهما هو أن المعلومات عن الكون المعروضة في الأساطير ليست قابلة للاختبار، والأساطير هي أيضاً انعكاس للنظام الاجتماعي والقيمي فهي عندما تحكي عن قصص كونية تتعلق بأصل الكون فإنها تنطلق من التصورات البيئة والثقافة المحلية. في حين التصورات العلمية قابلة للفحص والتكرار وهما معيار العلم التجريبي. يعتمد العلم أيضا على القيمة التراكمية حيث تتجدد المعرفة باستمرار، في حين تستند الأسطورة على القصص والمعتقدات المتوارثة.
تتميز الأساطير عن غيرها من الروايات والحكايات الشعبية. كما رأى الأخوان جريم أن "الالهيات تشكل جوهر كل الأساطير" وأضاف مالينوفسكي أنه يجب أن تكون مقدسة، وناقش كيف أنها تخدم المجتمع كخاصية للعمل. لكن لاحظ ويليام هانسن في دراسته للأساطير اليونانية القديمة أنه ليس كل الأساطير لديها عنصر القداسة، بل ليس من الضروري أن يكون لها ارتباط بالدين والمعتقدات فهناك من الأساطير ما هو من القصص العلمانية[1] . وهي تمثل نظرية المعرفة الجزئية أو طريقة فهم الطبيعة وتنظيم الفكر فمثلا البنيوية تعترف بالثنائيات المتضادة كالنور والظلمة وهذه الطريقة مركزية في الأساطير.
وكثير من المنظرين الاجتماعيين في القرن التاسع عشر وبداية القرن عشرين (فرويد، فريزر، مولر، جونغ، الخ) استخدموا الأساطير كدليل على حقائقهم الكونية، وبعض من الباحثين الميدانيين مثل ليفي ستروس، فرانز بواس (وطلابه)، وهايمز ديل استخدموا المنهج الاستنباطي في تحليل الأساطير. البنيوي كلود ليفي ستروس يعبر عن مشاعر مشابهة حول وظائف الأسطورة عندما يفترض أن الأساطير تعمل في تسوية عناصر الصراع أو الثنائيات في المجتمع والحياة، ويعترف ليفي ستروس "بتناقض القوانين الأساسية المتعلقة بطبيعة الأسطورة" وبالطبيعة الإنسانية. وهذا التناقض يمثل بنية الأساطير، حيث يظهر تناقض القوانين أو تعارضها في كثير من الأحيان في شكل الثنائيات مثل الخير والشر، الليل والنهار، وما إلى ذلك[2].
النسوية والأسطورة:
لنأخذ نموذجاً من تأثير الأسطورة على الفكر الغربي، في العديد من النسويات يعلقن الأمل على الزخارف في الأساطير القديمة كالرسومات الموجودة في الكهوف والمنحوتات الحجرية الصغيرة التي صنعت على شكل إناث التي يبدو أنها تشير إلى وجود ماضي كانت النساء فيه أكثر قوة، بل وربما كان لها دورا مركزيا في المجتمع. هذه ما يسمى بــ "خرافات الأمومة" والتي أعطت المرأة الأمل الذي تحتاجه لتتحرر من الوضع الدائم كمواطنين من الدرجة الثانية. فعلى سبيل المثال هناك من يفسر إطاحة آلهة الإناث في بعض الأساطير كدليل على أنه في ذلك الوقت كانت تعبد آلهة النساء، أو على الأقل يعتبر آلهة الإناث مساوية لآلهة الذكور. وهناك من يفسر تماثيل ما قبل التاريخ من النساء الحوامل كدليل على أن المرأة احتلت دورا أكثر أهمية في تلك المجتمعات، وإلا لماذا الفنانون كرسوا الكثير من الوقت لعمل نحت لهن؟ "سينثيا ايلر" في كتابها "أسطورة الأمومة ما قبل التاريخ": لماذا مخترعي الماضي لم يعطوا المرأة المستقبل. تكشف عن التمني الكامن في مثل هذا التفكير الشعبي حول ماض أمومي. وتشير إلى أن نسويات اليوم يعتقدن أن عصور ما قبل التاريخ كان زمنا مثاليا حيث تعايش الرجال والنساء بانسجام فعبادة الآلهة الأنثوية أوحت هذه الروابط في عمليات الحياة الأساسية. هذا التمني للماضي المجيد أطيح به من قبل "النظام الأبوي" عندما تمحور المجتمع الذكوري وحلت الآلهة الذكورية محل النظام الأمومي، هذه طريقة في فهم عصور ما قبل التاريخ.
كتبت ايلر ما يلي: "المجتمعات البشرية ما قبل التاريخ ربما تختلف عن تلك التي جاءت من بعدهم، ولكن أي من هذه التوكيدات هناك ثلاث عقبات لا يمكن التغلب عليها: أولا، لا يوجد أي دليل على أنها كانت موجودة. ثانيا، لا يوجد أي سبب لتوقع أنهم ستكون (على الأقل عندما نتحدث عن 30 إلى 40 ألف من السنوات الماضية من الإنسان العاقل، حيث كانوا مناصرين الامومة النسوية). وثالثا، نحن في حاجة إلى تفسير مقنع لماذا تغيرت الأمور بشكل كبير جدا[3] ".
هذه "الأسطورة" للأمومة السابقة تناشد النساء اليوم الذين يكافحن من أجل الحصول على حقوقهن لبناء مجتمع أفضل. حيث وجود نموذج ما قبل التاريخ يكون لهم محفزاً، واستعادة السيطرة على نمط الماضي يبدو أكثر ملائمة لكثير من النساء من إنشاء نمط جديد.
وتعارض ايلر ذلك لإدراكها إمكانات البشر لخلق أنماط جديدة في كيفية العيش والتفاعل، لذلك بدلا من التشبث بالأسطورة الماضية المتصورة وجعلها نموذجا لبناء المستقبل حيث تقول: "إن مستقبل المرأة لا يستند على المصير البيولوجي أو السابقة التاريخية، ولكن بدلا من ذلك على الخيار الأخلاقي. وما سيكون له تأثير على علاقات الجنسين، ولكن في النهاية لا يمكن ولا ينبغي أن يملي علينا ما نريد أن نكون، وإذا نحن واثقون من أننا نريد أن نتخلص من التمييز على أساس الجنس، فنحن لسنا بحاجة إلى زمن أسطوري لعظمة المرأة في الماضي ".[4] إلا إنه في حين أنه قد يتعذر إعادة الماضي، إلا إنه يمكن استخدام الخيال في محاولة لتشكيل المستقبل، فالعديد من النساء الكاتبات يفعلن هذا اليوم، فهن في كثير من الأحيان يضمّن بوعي النزعات الأسطورية أو الزخارف في أعمالهن لجعلها تعمل بشكل مشابه لما عملته الأساطير.
الأساطير ليست محصورة في الماضي السحيق فهي مستمرة مع الإنسان مادام الجهل والخرافة قائمة، بل هناك من يسعى لصناعة الأساطير لأجل تحقيق مآرب؛ لذلك فعالمنا اليوم لا تتوقف فيه صناعة الأساطير لتغيير عقول الناس وأكثر ما تظهر الأساطير والخرافة في الإعلام وفي الأدب والفن حيث يعاد بناء الأسطورة القديمة أو تصنع أسطورة جديدة محمولة بمفاهيم وتصورات يراد منها تشكل العقل الجمعي عليها.
ختاماً: أدركت البشرية بتقدمها المعرفي مدى سخافة هذه الأساطير القائمة على الافتراضات والأوهام، فأسقطت كثيرا منها واعتبرتها غير نافعة في حياة الناس؛ بل كانت حجر عثرة في طريق التقدم، حيث عطلت الأخذ بالتفكير العقلي الرشيد القائم على البرهان. ولا تخلو الشعوب من خرافات وأساطير ويظل دور أهل الفكر والحكمة تحويل هذه الخرافات إلى حكم وقيم صالحة، وتحويل الخرافة يكون عن طريق مناقشتها عقلياً ووضع أسئلة اشكالية يستنتج السامع لها سخف الخرافة حيث ينطلق بذاته إلى تركها والبحث عن قيم صحيحة.
والتعامل مع الأساطير ينبغي أن يكون بطريقة واعية كي لا نعتقد أشياء خاطئة، فالأساطير التي تمجد الباطل وتقدح في الإله وتشوه الدين تُرفض مهما كانت طبيعتها. ولابد من عرض الأساطير على الشرع فما وافق الشرع ولم يعارضه في التصورات يعني: العقائد قُبل. كذلك لا تقبل الأساطير التي تدعو إلى رذيلة أو تمجد الفواحش أو تخالف الأخلاق الفاضلة. وعموماً الأساطير التي لا يقبلها العقل فهي غالباً لا مصلحة فيها؛ بل تمجها النفوس السوية.
مبارك عامر بقنه
والعلوم كلاهما يقدمان تفسيرات للكون. والفرق المهم بينهما هو أن المعلومات عن الكون المعروضة في الأساطير ليست قابلة للاختبار، والأساطير هي أيضاً انعكاس للنظام الاجتماعي والقيمي فهي عندما تحكي عن قصص كونية تتعلق بأصل الكون فإنها تنطلق من التصورات البيئة والثقافة المحلية. في حين التصورات العلمية قابلة للفحص والتكرار وهما معيار العلم التجريبي. يعتمد العلم أيضا على القيمة التراكمية حيث تتجدد المعرفة باستمرار، في حين تستند الأسطورة على القصص والمعتقدات المتوارثة.
تتميز الأساطير عن غيرها من الروايات والحكايات الشعبية. كما رأى الأخوان جريم أن "الالهيات تشكل جوهر كل الأساطير" وأضاف مالينوفسكي أنه يجب أن تكون مقدسة، وناقش كيف أنها تخدم المجتمع كخاصية للعمل. لكن لاحظ ويليام هانسن في دراسته للأساطير اليونانية القديمة أنه ليس كل الأساطير لديها عنصر القداسة، بل ليس من الضروري أن يكون لها ارتباط بالدين والمعتقدات فهناك من الأساطير ما هو من القصص العلمانية[1] . وهي تمثل نظرية المعرفة الجزئية أو طريقة فهم الطبيعة وتنظيم الفكر فمثلا البنيوية تعترف بالثنائيات المتضادة كالنور والظلمة وهذه الطريقة مركزية في الأساطير.
وكثير من المنظرين الاجتماعيين في القرن التاسع عشر وبداية القرن عشرين (فرويد، فريزر، مولر، جونغ، الخ) استخدموا الأساطير كدليل على حقائقهم الكونية، وبعض من الباحثين الميدانيين مثل ليفي ستروس، فرانز بواس (وطلابه)، وهايمز ديل استخدموا المنهج الاستنباطي في تحليل الأساطير. البنيوي كلود ليفي ستروس يعبر عن مشاعر مشابهة حول وظائف الأسطورة عندما يفترض أن الأساطير تعمل في تسوية عناصر الصراع أو الثنائيات في المجتمع والحياة، ويعترف ليفي ستروس "بتناقض القوانين الأساسية المتعلقة بطبيعة الأسطورة" وبالطبيعة الإنسانية. وهذا التناقض يمثل بنية الأساطير، حيث يظهر تناقض القوانين أو تعارضها في كثير من الأحيان في شكل الثنائيات مثل الخير والشر، الليل والنهار، وما إلى ذلك[2].
النسوية والأسطورة:
لنأخذ نموذجاً من تأثير الأسطورة على الفكر الغربي، في العديد من النسويات يعلقن الأمل على الزخارف في الأساطير القديمة كالرسومات الموجودة في الكهوف والمنحوتات الحجرية الصغيرة التي صنعت على شكل إناث التي يبدو أنها تشير إلى وجود ماضي كانت النساء فيه أكثر قوة، بل وربما كان لها دورا مركزيا في المجتمع. هذه ما يسمى بــ "خرافات الأمومة" والتي أعطت المرأة الأمل الذي تحتاجه لتتحرر من الوضع الدائم كمواطنين من الدرجة الثانية. فعلى سبيل المثال هناك من يفسر إطاحة آلهة الإناث في بعض الأساطير كدليل على أنه في ذلك الوقت كانت تعبد آلهة النساء، أو على الأقل يعتبر آلهة الإناث مساوية لآلهة الذكور. وهناك من يفسر تماثيل ما قبل التاريخ من النساء الحوامل كدليل على أن المرأة احتلت دورا أكثر أهمية في تلك المجتمعات، وإلا لماذا الفنانون كرسوا الكثير من الوقت لعمل نحت لهن؟ "سينثيا ايلر" في كتابها "أسطورة الأمومة ما قبل التاريخ": لماذا مخترعي الماضي لم يعطوا المرأة المستقبل. تكشف عن التمني الكامن في مثل هذا التفكير الشعبي حول ماض أمومي. وتشير إلى أن نسويات اليوم يعتقدن أن عصور ما قبل التاريخ كان زمنا مثاليا حيث تعايش الرجال والنساء بانسجام فعبادة الآلهة الأنثوية أوحت هذه الروابط في عمليات الحياة الأساسية. هذا التمني للماضي المجيد أطيح به من قبل "النظام الأبوي" عندما تمحور المجتمع الذكوري وحلت الآلهة الذكورية محل النظام الأمومي، هذه طريقة في فهم عصور ما قبل التاريخ.
كتبت ايلر ما يلي: "المجتمعات البشرية ما قبل التاريخ ربما تختلف عن تلك التي جاءت من بعدهم، ولكن أي من هذه التوكيدات هناك ثلاث عقبات لا يمكن التغلب عليها: أولا، لا يوجد أي دليل على أنها كانت موجودة. ثانيا، لا يوجد أي سبب لتوقع أنهم ستكون (على الأقل عندما نتحدث عن 30 إلى 40 ألف من السنوات الماضية من الإنسان العاقل، حيث كانوا مناصرين الامومة النسوية). وثالثا، نحن في حاجة إلى تفسير مقنع لماذا تغيرت الأمور بشكل كبير جدا[3] ".
هذه "الأسطورة" للأمومة السابقة تناشد النساء اليوم الذين يكافحن من أجل الحصول على حقوقهن لبناء مجتمع أفضل. حيث وجود نموذج ما قبل التاريخ يكون لهم محفزاً، واستعادة السيطرة على نمط الماضي يبدو أكثر ملائمة لكثير من النساء من إنشاء نمط جديد.
وتعارض ايلر ذلك لإدراكها إمكانات البشر لخلق أنماط جديدة في كيفية العيش والتفاعل، لذلك بدلا من التشبث بالأسطورة الماضية المتصورة وجعلها نموذجا لبناء المستقبل حيث تقول: "إن مستقبل المرأة لا يستند على المصير البيولوجي أو السابقة التاريخية، ولكن بدلا من ذلك على الخيار الأخلاقي. وما سيكون له تأثير على علاقات الجنسين، ولكن في النهاية لا يمكن ولا ينبغي أن يملي علينا ما نريد أن نكون، وإذا نحن واثقون من أننا نريد أن نتخلص من التمييز على أساس الجنس، فنحن لسنا بحاجة إلى زمن أسطوري لعظمة المرأة في الماضي ".[4] إلا إنه في حين أنه قد يتعذر إعادة الماضي، إلا إنه يمكن استخدام الخيال في محاولة لتشكيل المستقبل، فالعديد من النساء الكاتبات يفعلن هذا اليوم، فهن في كثير من الأحيان يضمّن بوعي النزعات الأسطورية أو الزخارف في أعمالهن لجعلها تعمل بشكل مشابه لما عملته الأساطير.
الأساطير ليست محصورة في الماضي السحيق فهي مستمرة مع الإنسان مادام الجهل والخرافة قائمة، بل هناك من يسعى لصناعة الأساطير لأجل تحقيق مآرب؛ لذلك فعالمنا اليوم لا تتوقف فيه صناعة الأساطير لتغيير عقول الناس وأكثر ما تظهر الأساطير والخرافة في الإعلام وفي الأدب والفن حيث يعاد بناء الأسطورة القديمة أو تصنع أسطورة جديدة محمولة بمفاهيم وتصورات يراد منها تشكل العقل الجمعي عليها.
ختاماً: أدركت البشرية بتقدمها المعرفي مدى سخافة هذه الأساطير القائمة على الافتراضات والأوهام، فأسقطت كثيرا منها واعتبرتها غير نافعة في حياة الناس؛ بل كانت حجر عثرة في طريق التقدم، حيث عطلت الأخذ بالتفكير العقلي الرشيد القائم على البرهان. ولا تخلو الشعوب من خرافات وأساطير ويظل دور أهل الفكر والحكمة تحويل هذه الخرافات إلى حكم وقيم صالحة، وتحويل الخرافة يكون عن طريق مناقشتها عقلياً ووضع أسئلة اشكالية يستنتج السامع لها سخف الخرافة حيث ينطلق بذاته إلى تركها والبحث عن قيم صحيحة.
والتعامل مع الأساطير ينبغي أن يكون بطريقة واعية كي لا نعتقد أشياء خاطئة، فالأساطير التي تمجد الباطل وتقدح في الإله وتشوه الدين تُرفض مهما كانت طبيعتها. ولابد من عرض الأساطير على الشرع فما وافق الشرع ولم يعارضه في التصورات يعني: العقائد قُبل. كذلك لا تقبل الأساطير التي تدعو إلى رذيلة أو تمجد الفواحش أو تخالف الأخلاق الفاضلة. وعموماً الأساطير التي لا يقبلها العقل فهي غالباً لا مصلحة فيها؛ بل تمجها النفوس السوية.