يشعر الفلسطينيون بالغضب والإحباط الشديدين لما آلت إليه أمورهم وقضيتهم الوطنية بشكل عام . ففي حين ما زال العديد منهم يحظى بالاحترام الإنساني والمهني والتقدير لكفاءاتهم وقصص نجاحهم العصامي، إلا أن القضية الفلسطينية نفسها قد انحدرت إلى ما يمكن أن يسمى الحضيض . وفي حين كان لا يجرؤ أحد ، حاكماً أم محكوماً ، على المجاهرة بالعداء للقضية الفلسطينية أو الحقوق الفلسطينية ، أصبحت هذه القضية بالنسبة للبعض محط الاحتقار العلني والتسفيه المقصود والتجريم والاتهام والشتائم المعلنة والمبطنة . وأصبح التعاون مع اسرائيل أو تمجيدها من قبل البعض موقفاً معلناً ، بل وذهب بعض العرب إلى حد المجاهرة بالكفر والقول بأن فلسطين هي حق لليهود وليس للفلسطينيين العرب وأنهم يؤيدون احتلال اليهود لفلسطين . نستطيع أن نفهم عداء غير العرب للفلسطينيين وللقضية الفلسطينية. ولكن أن يصل حقد بعض العرب إلى حد يدفعهم إلى الوقوع في براثن الصهيونية وإسرائيل نكاية بالفلسطينيين ، فهذا أمر لا يمكن القبول به . وتشدق بعض العرب علناً بتأييدهم لإسرائيل وكرههم للفلسطينيين أمر يدمي القلب لأن عداء الصهيونية ليس محصوراً بالفلسطينيين بل يشمل العرب عموماً. إذا كان ذلك هو واقع الحال فلماذا يجنح بعض العرب إلى هذه الدرجة من الحقد الأعمى على الفلسطينيين والذي يقود إلى التطرف في مواقف خاطئة، بل خائنة؟
ماذا حصل ؟ وكيف وصلنا إلى هذه الحالة ؟ هل نحن بصدد واقع جديد بأولويات جديدة أم أن ما نحن فيه هو انعكاس لحالة التردي العام والسقوط العربي . كيف وصل الأمر بالعرب إلى حد الصمت المطبق عندما أعلنت كبيرة المفاوضين الإسرائيليين و وزيرة العدل " تسيبي لفني " بأنها زارت إحدى عشرة دولة عربية تطلب منهم عدم التبرع بأي مبالغ إضافية للسلطة الفلسطينية وأن الجميع انصاع للطلب الإسرائيلي دون نقاش . وتم، كالعادة ، وضع القرار العربي بدعم القدس بمبلغ مليار دولار في سلة النفايات العربية . وحتى أمين عام جامعة الدول العربية لم يكلف نفسه عناء التصدي لهذا التصريح ونفيه نيابة عن العرب وحفظاً لماء وجههم.
ولكن هل كل ما جرى ويجري هو من صنع الآخرين أم من صنع أيادينا، أم الاثنين ؟
إن ما جري ويجري للفلسطينيين والقضية الفلسطينية هو في الأساس من صنع القيادة الفلسطينية التي تولت رئاسة المنظمة منذ شباط عام 1969 . وبالطبع فإن دور الإسرائيلين وأمريكا والغرب والعرب كان أساسياً في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه . ولكن ذلك ما كان ليحصل دون الإسهامات السلبية لقيادة عرفات في تحويل مجرى النضال الفلسطيني وأهدافه من تحرير الأرض إلى تولي الحكم حتى ولو كان ذلك الحكم برعاية الاحتلال .
ما فعلته القيادات الفلسطينية الحاكمة بالفلسطينيين وللفلسطينيين أمر مروع لا يقبل به عقل أو منطق. والانحدار ابتدأ في حقيقته عندما اختارت قيادة ياسر عرفات أن تجنح نحو السلام دون أن تكون قد أسست له على قاعدة الأنجاز النضالي على أرض فلسطين . والمثال الفيتنامي لا علاقة له بما فعلته قيادة عرفات . فالفيتناميون كانوا يفاوضون عدوهم الأمريكي وهم يقاتلون في نفس الوقت . أما السيد عرفات فيبدو أنه اعتقد ، خاطئاً ، بأن النضال هو وسيلة للحكم وليس للتحرير ومن هنا انبثقت الرؤيا المضحكة المبكية لما أصبح يدعى باتفاقات أوسلو .
مشكلة السيد عرفات أنه اختار أن يصبح واحداً من الحكام العرب وليس قائداً لثورة عظيمة تمثل القضية الضميرية الأهم في العصر الحديث . وعندما يصبح هذا الخيار هاجساً يصبح التعامل معه بالنسبة للعدو أمراً سهلاً .
إن انتقال القضية الفلسطينية من وضعها الضميري والإنساني ودخولها نادي الحكام العرب من خلال الطموح الشخصي الأناني لياسر عرفات قد نزع القداسة عن تلك القضية وجعلها سلعة ضعيفة في نادي الحكام العرب وهم بالطبع الأقوى والأغنى . نحن لا ننكر على عرفات مسيرته النضالية ولكننا نستنكر ما انتهت إليه الأمور على يديه ، وتبقى الحقيقة أن الأمور تقاس بنتائجها ، والنتائج كانت وللأسف وخيمة جداً على الفلسطينيين وقضيتهم .
وفي أواخر سنين حياته ، لجأ عرفات إلى تقريب أنماط عجيبة من المستشارين والمساعدين الذين أكملوا دائرة الانحطاط المحيطة بعرفات ، وأصبح أحد أكثر الأشخاص غموضاً مسيطراً على أموال المنظمة وحركة فتح وهو الشخص الذي لم يستطيع أحد حتى الآن الجزم بشكل قاطع بإسمه الحقيقي وأصله وفصله . وتم مكافئة الشخص الذي سلم رقبة الاقتصاد الفلسطيني إلى إسرائيل طوعاً ودون أي ضغوط عليه ، بتعيينه رئيسا لوزراء السلطة عوضاً عن تحويله إلى محكمة أمن الدولة بتهمة الخيانة العظمى .
مات عرفات ولكن بعد أن قَتَلَ القضية الفلسطينية وحَوﱠلَها إلى حائط مبكى فلسطيني، وقزّم منظمة التحرير الفلسطينية ، وترك لنا من خلفه مجموعة من القيادات الضعيفة المُخْتَرَقة ومنهم العديد الذين تربوا في أحضان أجهزة استخباراتية أمريكية وإسرائيلية ، وهؤلاء هم الآن أصحاب الحل والربط .
إن خيارات القيادة الفلسطينية الحاكمة هي التي أدت في النهاية إلى سقوط القضية الفلسطينية وتقليص الحقوق الفلسطينية ومن ثم ضياعها . فحجم التنازلات التي قدمتها القيادة الفلسطينية في أوسلو والسرعة والسهولة التي تمت بها التنازلات التي تبعت ذلك فاجئت الإسرائيليين وأصابتهم بالصدمة أولاً ثم بالسرور ثم بالاستخفاف والاستهتار بالفلسطينيين وقيادتهم واحتقارهم واحتقار مطالبهم، مما أدى بالنتيجة إلى تغيير الخارطة الانتخابية في إسرائيل نفسها لصالح اليمين الإسرائيلي . فالسلوك التفاوضي الأرعن للقيادة الفلسطينية أثبت أن فلسفة اليمين الإسرائيلي هي الأصح , وأن الفلسطينيين لا يستحقون أي تنازل، وأن كل ما تريده إسرائيل منهم سوف تحصل عليه من قيادتهم دون الحاجة إلى تقديم أي تنازلات حقيقية في المقابل. ومع أن هذا الموقف كان يستند تاريخياً إلى منطق القوة، أي أن إسرائيل تستطيع الحصول على ما تريد بالقوة، إلا أن قيادة السلطة الفلسطينية أثبتت العكس. فإسرائيل تستطيع الآن الحصول على ما تريد دون الحاجة حتى إلى استعمال القوة . ونتيجة لذلك على الفلسطينيين والمجتمع الدولي أن يتوقعوا سقوط اليمين الإسرائيلي قريباً وفوز أقصى اليمين المتطرف بالحكم. ويبدو أن هذا هو ما تخشاه أمريكا، ليس خوفاً على الفلسطينيين، ولكن خوفاً على إسرائيل نفسها. وكما قال هنري كيسنجر (وزير خارجية أمريكا السابق) "سوف يأتي يوم تضطر فيه أمريكا لحماية إسرائيل من إسرائيل نفسها" . إن خشية أمريكا من تمادي أقصى اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى حد تفجير الوضع الفلسطيني هو الدافع الحقيقي وراء محاولة جون كيري (وزير خارجية أمريكا) للوصول إلى تسوية تكرس كافة المكاسب الإسرائيلية. وما مطلب اعتراف الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل إلا مثال على هذا المصير الذي ينتظر الفلسطينيين على يد أقصى اليمين الإسرائيلي المتطرف.
إن مسار القضية الفلسطينية في حقبة ما بعد أوسلو ، والذي أدى إلى إضعافها ، يأخذ الآن منحاً جديداً وأشكال جديدةً خطيرة . فما ابتدأ في عهد ياسر عرفات كجهد نحو تكريس حكم الفرد اقتداءً بالسيرة السيئة لباقي حكام الدول العربية ، تحول الآن إلى صراع بين حماس وإمارتها في غزه من جهة ، والسلطة وإمارتها في الضفة الغربية من جهة أخرى ، وترك بصماته على الفلسطينيين من خلال تكريس الانفصال بين الضفة وغزة , وتكريس القطيعة بين الفلسطينيين القاطنين هنا وهناك.
ومع أن المسار الذي اختاره محمود عباس كرئيس للسلطة الفلسطينية لم يبتعد كثيراً عن ذلك الذي اختطه ياسر عرفات، إلا أن افتقاد عباس الى الزَخَم التاريخي الذي كان يتمتع به عرفات جعل الانفصال ممكناً. وقد رافق ذلك استعداد عباس للقبول بأن يكون رئيساً ولو على قطعة من الأرض المحتلة، مما ساهم في تعميق الانفصال، وإضعاف الوضع الفلسطيني، وتحويل القضية الفلسطينية إلى “ممسحة زفر” للحكام العرب وسياساتهم وصفقاتهم. لقد حاول عباس أن يلعب مع الحكام العرب في ملعبهم ، فاستعمل علاقاته العربية لإضفاء نمط من الشرعية العربية على سياساته في التعامل مع حماس وفي توفير دعم وغطاء عربي لصراعه معها. وكذلك على عملية التنازلات المجانية وانتهاك الثوابت الفلسطينية في مفاوضاته مع العدو الإسرائيلي.
وأهمية هذا الغطاء العربي بالنسبة لمحمود عباس أنه يفتقر إلى غطاء شعبي فلسطيني لسياساته تلك، فكان لا بد له من استعمال المظلة العربية لتمريرها علماً أن الأنظمة العربية هي مغلولة اليد ومكسورة الإرادة أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي، وكل مرادها النجاة والسلامة ولو على حساب القضية الفلسطينية، في حين أنها قادرة على فعل ما تريد في الصراع بين حماس والسلطة. وهذا السلوك أدى بالتالي إلى استخفاف الأنظمة العربية بحرمة القضية الفلسطينية وأصبح استغلالها واستباحتها أمراً ممكناً للحكام العرب الذين طالبهم محمود عباس مراراً بتوفير الغطاء العربي لخصوماته وصراعاته وسياساته وتنازلاته .
ولم تبتعد حماس كثيراً عن ارتكاب نفس الأخطاء التي ارتكبها محمود عباس. فاللجوء إلى الغطاء الإسلامي لتوفير الحماية والدعم اللازمين لنظام حماس في غزة وبالتالي تكريس الانفصال بين الضفة وغزة، واستعداد حركة حماس لأن تكون جزءاً من المشروع الإسلامي المنشود في المنطقة ولو على حساب الشقيقة العربية الكبرى مصر ومصالحها، أدى حتماً إلى صدامها مع مصر. وعوضاً عن التصدي لحماس، تم هجوم بعض المسوؤلين والإعلاميين المصريين، سواء عن لؤم أو عن جهالة، على الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، مع العلم أن لا احد ينسى فضل مصر عبد الناصر على الفلسطينيين وعلى تعليم الفلسطينيين ودعم قضيتهم.
وبالمقاييس المؤسفة نفسها لخيار الاعتماد على قوى خارجية، تحول الصراع داخل الضفة الغربية بين محمود عباس من جهة، ومحمد دحلان من جهة أخرى من صراع شخصي إلى عامل إضافي لشق الصف الفلسطيني. وابتدأت الأمور تتطور في اتجاه الاستزلام وشق الصفوف والاستقطاب بين جماعة عباس وجماعة دحلان. وابتدأ المال الفلسطيني والعربي والمال السياسي يلعب دوره في خلق معسكرات تؤيد هذا أو ذاك، وكأن الوطن تم تحريره وما تبقى إلا أن يُحكَمْ. والمضحك المحزن أن محمود عباس يعتبر نفسه مناضلاً ومحمد دحلان، يعتبر نفسه مناضلاً. ولكن هذا ليس بيت القصيد كون كلا الشخصين يناضل الآن من أجل مصلحته الشخصية، وكأن الشعب الفلسطيني مسوؤل عن ضمان تحقيق الطموحات الشخصية لهذا أو ذاك، حصراً، أو ضمان سلامة ذرية محمود عباس مما يمكن أن يفعله محمد دحلان بهم فيما لو تمت له وراثة عرش السلطة الفلسطينية. ومن العجيب، بل والمحزن، أن هنالك إجماع نادر على كلا الخصمين. كلاهما يحظى بدعم وتأييد وثقة أمريكا وإسرائيل ولكل منهما من يدعمه من الحكام العرب. وأي خلاف عربي على أي منهما يبقى خلافاً هامشياً مقابل دعم أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية المطلق لكليهما. اثنان يتنازعان على حكم أرض محتلة والمستفيد هو إسرائيل. أما بالنسبة لفلسطين والفلسطينيين، فالخسارة محققة عندما ينحصر الخيار أمامهم في هذا النمط من المسوؤلين.
الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها السلطة وحماس يرتكبها الآن عباس ودحلان. فاستعمال عصا الحكام العرب لتجاوز المعارضة الفلسطينية أو لكسر إرادتها الرافضة للتنازل، والاستقواء بالعرب في نزاعات فلسطينية – فلسطينية مثل النزاع بين السلطة وحماس أو عباس ودحلان، أدى بالنتيجة إلى استقواء الحكام العرب على القضية الفلسطينية نفسها وعلى الفلسطينيين أنفسهم. إن الدخول في دهاليز السياسة العربية والعلاقات العربية لدعم طموحات شخصية لن يؤدي إلا إلى مزيد من الضرر للقضية الفلسطينية وإلى إخضاعها لتجاذبات التيارات المتعاكسة في السياسة العربية. إن فلسطين والفلسطينيين هم الحلقة الأضعف، حتى ولو كانت قضيتهم الأهم ضميرياً. فحساسية الحكام العرب الآن للقضايا الضميرية والوجدانية تكاد تكون شبه معدومة. إذ من الواضح أن القضايا الضميرية المتعلقة بحقوق الشعوب لم يعد لها مكان في عالم عربي يعاد تشكيله وبإصرار من قبل أمريكا والغرب.
فقضايا الشعوب أصبحت الآن نكتة سمجة ينظر إليها الكثيرون باعتبارها أمراً انتهت موضته، لا أكثر ولا أقل. أما الأخطر فهو المتعلق بالحقوق الوطنية للشعوب، ومنها حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه وحقه في العودة إليه. وعندما تنظر الحكومات الأخرى والشعوب الأخرى إلى هذا الحق باعتباره أمراً سخيفاً، فإن هذا يشكل دعوة إلى القوي لابتلاع الضعيف. ويصبح النظام الإنساني بذلك أقرب ما يكون إلى شريعة الغاب.
وإذا كان النظام الإنساني الآن يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب في الديمقراطية والشفافية، فإننا في الحقيقة ننظر إلى عالم بوجهين: عالم المبادئ وعالم المصالح والخيار بينهما واضح. ومن سوء الطالع أن أكثر دولتين عداء لمصالح العرب والفلسطينيين وحقوقهم هما أمريكا وإسرائيل، وكلاهما يضعان خيار المصالح قبل خيار المبادئ كونهما قد بنيا من خلال اغتصاب أوطان الآخرين. فهذا العالم لا يعترف بحقوق الأقليات والطوائف إلا ضمن منظور المصالح. أمريكا تدعم مثلاً حقوق الطوائف والأقليات في العراق لتقسيمه وهذا يناسب مصالحها , وتقف ضد حقوق الأقلية الروسية في أوكرانيا لأن ذلك لا يناسب مصالحها.
قيادات السلطة الفلسطينية ستدخل التاريخ الفلسطيني متهمة ومدانة بهزيمة شعبها وقضيته. وهزيمة الذات هي أقسى الهزائم وأصعبها، وعلى الفلسطينيين العَوَض.
*مفكر ومحلل سياسي أردني