بسم الله الرحمن الرحيم
مضمون المحاضرة التي ألقاها رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في لبنان أحمد القصص
في معرض الكتاب العربي في بيال- بيروت الأحد 16 - 12 – 2012، تحت عنوان
(الإسلام المعتدل): مطيّة أميركا الجديدة
- التاريخ هو صراع بين طرائق ومناهج شتى، والصراع الأبرز هو الصراع بين طرائق العيش، أي صراع الحضارات.
- من وجهة نظر الإسلام الصراع هو بين الحق والباطل. الحق المتمثل في المنهج الذي رضيه الله تعالى لعباده والذي أرسل به أنبياءه ورسله، والباطل المتمثل في مناهج البشر الذي أبوا الخضوع لدين الله وما به من طريقة للعيش. قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) .
- جسّد المسلمون حقيقة الصراع خلال تاريخهم المديد منذ عهد النبوة وحتى وقت قريب من سقوط دولة الخلافة. إذ قامت السياسة الداخلية لدولتهم على تطبيق الإسلام أي إيجاد الحياة الإسلامية في دار الإسلام والمحافظة عليها وحمايتها، وقامت السياسة الخارجية على حمل طريقة العيش الإسلامية إلى سائر العالم من طريق الدعوة والجهاد. وبهذه السياسة انتشرت طريقة العيش الإسلامية في هذه المساحة الشاسعة من العالم الإسلامي، وبها قضى المسلمون على طرائق عيش، أي على حضارات، كانت تسود العالم في سالف التاريخ.
- لقد كان الصراع الأطول والأمرّ مع الخصم الغربي المتمثّل بالأمم الأوروبية التي كانت تنقسم إلى حضارتين، قضى المسلمون على إحداهما - وهي الحضارة البيزنطية الرومانية- وحضارة أوروبا الغربية القروسطية التي انتصر المسلمون عليها حضاريًا دون أن يتمكنوا من إسقاط كيانها السياسي المتمثل في ممالك أوروبا الغربية. ولكن سقوط هذه الممالك كان على أيدي الأوروبيين أنفسهم الذين انقلبوا على حضارتهم وانتقلوا بعد مخاضات عسيرة في مرحلة ما يعرف بالعصر الحديث إلى طرقة عيش جديدة - أي حضارة جديدة - قامت على أساس فصل الدين عن الحياة.
- حافظت الحضارة الناشئة في الغرب على عداوتها للحضارة الإسلامية والعالم الإسلامي، بل وحافظت على الخلفية الصليبية لهذا الصراع على الرغم من انقلابها على الكنيسة والدين داخل كيانها. ولكن الصراع مع ولادة هذه الحضارة الجديدة اتسم بسمات جديدة لم تكن موجودة في عهود العصور الوسطى، أهمها انطلاق الغرب من قاعدة فكرية صلبة بحيث جعل الغزو الفكري والثقافي والحضاري هو الأساس وإن لم يتخل عن الصراع العسكري الذي أسفر عن وقوع مساحات شاسعة من العالم الإسلامي تحت الاحتلال الأوروبي. والسمة الأكثر فجاعة بالنسبة للأمة الإسلامية كانت في هذه المرحلة غلبة الغرب لهم وانتصاره عليهم في المعركة الحضارية، أي الثقافية والتشريعية. ولم يكن تغلبهم بالطبع على الإسلام من حيث هو دين وحضارة وطريقة عيش، بل على المسلمين الذين عجزوا عن مواجهة الحضارة الغربية بفهم واع وحيٍّ للإسلام وشريعته وحضارته.
- إن تخلي الغرب عن الدين مكوِّنًا أساسيًّا لطريقة عيشه واعتماده فكرة فصل الدين عن الحياة أساسًا لحضارته الجديدة أربك المسلمين في معركتهم معه إذ لم يعتادوا هذا النمط من الصراع الفكري. فالغرب في هذه المعركة راح يعلن أنه ليس ضد الدين الإسلامي ولا ضد أي دين آخر، وإنما هو يدعو المسلمين والعالم كله إلى اعتماد أنظمة (حديثة) و(علمية) و(عصرية) لحياتهم ومجتمعه ودولتهم ويزعم أنه توصل قبلهم إليها وأنه يحملها رسالة حضارية لهم ليلتحقوا بركب النهضة والرقي، من هنا كان اعتماده لمصطلحات "العلمانية" و"الحضارة الإنسانية" و"الحداثة" و"المجتمع المدني" و"الدولة المدنية" و"القانون المدني" بعد أن كان الصليب شعار الصراع بينه وبين العالم الإسلامي طيلة قرون خلت.
- انتصر الغرب انتصارًا كاسحًا على المسلمين مطلع القرن العشرين مع سقوط دولة الخلافة ورعايته قيام دول علمانية في العالم الإسلامي يسندها جيل من المسلمين الذين نُشِّئوا على الثقافة العلمانية الغربية وكانوا تلامذة نجباء للحضارة الغربية ومسحورين بطريقة عيشها.
- لم ينته الصراع الفكري والحضاري عند هذا الحد، فقد قام مفكرون مسلمون وتيارات وأحزاب إسلامية بقراءة الإسلام من جديد وفهموه من جديد نقيًّا صافيًا وخاضوا الصراع الفكري مع التيارات العلمانية المسنودة من الغرب وعملائه من الحكام المحليين، فكانت الغلبة بعد عقود من الصراع للإسلام الذي عاد لينتصب فكرًا سياسيًّا متفوِّقًا على العلمانية وباتت العلمانية تهمة مخزية تُوجَّه لكل من ينازع الإسلام من حيث هو نظام للحياة والمجتمع والدولة. وراح العلمانيون يبحثون عن أخرى يعرّفون بها أنفسهم، فاختاروا مصطلح "المجتمع المدني" و"الدولة المدنية".
- لم يتمكن العلمانيون من تسويق أنفسهم بتغيير عناوينهم ومصطلحاتهم إذ فاتهم القطار واحترقت صورتهم وهم الذين كانوا عَلَمًا على مخالفة الشرع والتحلل من تكاليفه وانتهاك حرماته، وبات الإسلام مطلبًا في البلاد الإسلامية صيغة للحكم والسياسة. فكان لا بدّ من الغرب الحريص على بقاء مقاليد الأمور في البلاد الإسلامية بعيدة عن الإسلام الأصيل وحَمَلَته الأنقياء الأتقياء من أن يبحث عن وجوه جديدة ظاهرها التديّن والحرص على الدين ولكنها في حقيقة الأمر لا تحمل أي مشروع إسلامي حقيقي وإنما تَصدُر عن الثقافة الغربية نفسها التي كان يصدر عنها الحكام السابقون، وتطبق الدساتير العلمانية نفسها التي تقوم على تنصيب الشعب مصدرًا للتشريعات والقوانين ورفع شعار الديمقراطية، وتتعامل مع الإسلام لا على أنه المتحكّم بحياة المسلمين ومجتعهم ودولتهم، بل تتعامل معه بوصفه مجرّد مُلهِم للقيم التي يجب أن تراعى في السياسات العامة. وهذا ما صرّح به بوضوح عدد من العلمانيين الجدد، العلمانيين الملتحين الذين أكرمتهم أميركا بلقب المسلمين المعتدلين. وهكذا بدأ التسويق والترويج لمصطلح "الإسلام المعتدل".
- كانت أميركا وحلفاؤها الغربيون يسيرون ببُطء وتؤدة في التسويق للإسلام المعتدل، وترعى مؤتمرات ودراسات ومؤلفات وفضائيات لتسويقه. ولم تكن مستعجلة لإيصال (الإسلاميين المعتدلين) إلى الحكم في دول العالم الإسلامي حتى لا تخاطر باختلال التوازن الدقيق والهش في هذه المنطقة الساخنة من العالم الذي تهيمن عليه. وكان النموذج الأبرز الذي رعته منذ سنوات النموذج التركي الذي لطالما أشاد به الأميركيون ودعوا إلى تعميمه في سائر العالم الإسلامي. ولكن الثورة التي فاجأته وفاجأت العالم كله في المنطقة العربية جعلته يسرع باتجاه اعتماد هذا النموذج في البلاد التي اندلعت فيها الثورة وأسقطت الطغاة العتاة والتي كانت الطاقة الإسلامية المغذية الأساسية لها. وهذا ما حصل بالفعل إذ وصلت العلمانية الملتحية إلى سدة الحكم - ولو ظاهريًّا أو جزئيًا - في بلاد الثورات، من تونس إلى اليمن.
ما الاعتدال وما التطرف في اللغة والشرع؟
الاعتدال لغة: هو وسط بين حالتين في كم أو كيف, وكل ما تناسب فقد اعتدل. وبالمقابل فإن التطرف هو تجاوز حد الاعتدال.
أما الاعتدال شرعًا, فهو التزام أحكام الشرع والاستقامة عليها والإتيان بها على الوجه الذى شرعه الله.
وأما التطرف فليس له دلالة شرعية, لأن هذه اللفظة لم ترد في النصوص, ولا استعملها فقهاء الإسلام, ولذا فإنها لا دلالة لها سوى الدلالة اللغوية فحسب, فإذا أردنا أن نستعملها في الشرع قلنا: إن التطرف هو مجاوزة الحدود التي وضعها الشرع, أي مخالفة أحكام الإسلام.
هذا هو التطرف, وهذا هو الاعتدال, فالذي يزيد في عدد ركعات الفرائض, أو يطوف طواف العمرة عشرة أشواط, أو يحرم أكل العنب لأنه منه تصنع الخمر, أو يوجب على نفسه لبس الخشن من اللباس تقربًا إلى الله, أو يحرم العمل السياسي ويقصر الإسلام على العقائد والعبادات والأخلاق وبعض المعاملات أو يمتنع عن الزواج لأنه يلهي عن العبادة وقيام الليل, كل هؤلاء يُعدّون متطرفين ومتنطعين لأنهم جاوزوا حدود الأحكام الشرعية المشروعة.
وليس من التطرف تمسك الشخص أو الجماعة برأي أو حكم شرعي في شأن من شؤون الحياة, وفي كيفية حمل الدعوة الإسلامية ما دام الحكم أو الرأي أو الفكر مأخوذًا باجتهاد شرعي, فالمسلمون جميعًا ملزمون بالتقيد بأحكام الإسلام, والإتيان بها كاملة وفق ما شرعه الله لعبادة دون زيادة فيها أو إنقاص, والوقوف عند حدود الله فيها وعدم تجاوزها حتى لو ناقضت مصالحهم وأهوائهم وعاداتهم, ورغبات حكامهم, وقوانينهم ودساتيرهم, فدين الله أحق أن يتبع, وحدود الله يجب أن تصان, وأحكام الإسلام يجب أن تطبق بالحكم, وأن يدعى لها, وأن يتكتل المسلمون عليها وأن يعملوا لإعادتها إلى الحياة. قال تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
وكل من يقوم بذلك فهو ملتزم ومتمسك ومعتدل, أما من يخالف هذا ويحاربه فهو المتطرف والمخالف والآثم. قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
ما الاعتدال وما التطرّف في المصطلح الأميركي المعاصر؟
الاعتدال في عرف أميركا وأتباعها من العلمانيين هو أن يعتنق المسلمون الإسلام على نحو يتوافق مع هيمنتها الحضارية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية والأمنية على العالم الإسلامي، وأن يستمد المسلمون تشريعاتهم من غير الكتاب والسنة وأن يعزلوا الشريعة عن الحياة والمجتمع والدولة، وأن يحافظوا على انقسام بلادهم وعلى الحدود القائمة بينهم بناء على اعتناق القومية والوطنية، وأن ينصاعوا للنظام الدولي الذي تسيطر عليه الدول الكبرى وعلى رأسها أميركا. والتطرف بالتالي هو اعتناق الإسلام نقيًا كما نزل على رسول الله محمّد وأن يعمل المسلمون على تطبيقه في حياتهم كاملاً دون خلطه بالتشريعات الغربية الوضعية، وأن يعملوا على جمع الأمة الإسلامية في دولة واحدة، وأن يعملوا على تحرير فلسطين من اليهود، وأن يطردوا الاحتلال الأميركي من العالم الإسلامي، وأن يطبقوا نظام العقوبات الذي شرعه الإسلام بما في ذلك الحدود والقصاص، وأن يحموا عقيدتهم بمنع الردة عن الإسلام. وأن يطردوا النفوذ الغربي من البلاد الإسلامية، وأن يحملوا الإسلام رسالة إلى العالم من طريق الدعوة والجهاد.
وهذه بعض المتقابلات في نظرة الغرب وأتباعه إلى التطرف والاعتدال:
- الحفاظ على الحدود التي تقسّم البلاد الإسلامية اعتدال، والعمل على جمع الأمة في ظل دولة الخلافة تطرف.
- استمداد التشريع للدولة من غير الكتاب والسنة أو الخلط بين أحكام الشرع والأحكام الوضعية اعتدال، وحصر التشريع فيهما تطرف.
- الاعتراف بكيان يهود وتكريس معاهدات الصلح معه اعتدال، ونقض هذه الاتفاقيات والجهاد لتحرير فلسطين تطرف.
- تبني الديمقراطية وإعطاء الشعب حق التشريع والتصويت على أحكام الشرع قبولاً ورفضًا وإعطاء العلمانيين حق إنشاء الأحزاب ونشر ضلالهم اعتدال، وتطبيق أحكام الشرع إلزامًا وحظر دعوات الكفر والإلحاد والعلمانية في بلاد المسلمين تطرف.
- الخضوع للنظام الدولي ولميثاق الأمم المتحدة اعتدال، والخروج على النظام الدولي الذي فرضه المنتصرون في الحرب العالمية على الدول الضعيفة تطرف.
- إعطاء المرأة حق الوصول إلى الحكم اعتدال، والتزام حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) تطرف.
- العمل السياسي على أساس الدساتير الوضعية الديمقراطية اعتدال، والعمل السياسي مبنيًّا على العقيدة الإسلامية تطرف.
- ربط الاقتصاد المحلي بالاقتصاد الأميركي والأوروبي وبالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية اعتدال، وبناء اقتصاد مستقل ومتين مستغنٍ عن الهيمنة الرأسمالية تطرف.
- حكومات ما بعد الثورة والتزامها مفاهيم الاعتدال والتطرف الأميركية.
- أزمة أميركا في الثورة السورية:
لا يوجد في سوريا رواج للعلمانية والدولة الديمقراطية.
ليس فيها عملاء يمكنهم أن يتولوا الحكم نيابة عنها.
أقوى مشروع في الثورة السورية هو مشروع الدولة الإسلامية، بل الخلافة. لذلك تتأهب أميركا لشن الحرب على المشروع الإسلامي في ثورة الشام تحت عنوان محاربة التطرف والإرهاب.
بلاد الشام مرشحة لكسر القواعد التي ألزمت أميركا العالم بها منذ عشرات السنين. وكما كانت دمشق العاصمة التي حكمت عالمًا مترامي الأطراف من سمرقند إلى الأطلسي وتخوم فرنسا، فإنها مرشحة اليوم لتكون نواة دولة عظمى تغير وجه التاريخ وتعيد الأمة الإسلامية من جديد الأمة المتحكمة بمسار الأحداث الدولية.
______________
منقول