كرم أوس بن حارثة
حدث عمرو بن العلاء فقال : جلس النعمان بن المنذر وعليه حلة مرصعة بالــّدر ، لم يـُر مثلها
قبل ذلك اليوم ، وأذن للعرب ، في الدخول عليه ، وكان فيهم أوس بن حارثة ، فجعلت العرب
تنظر إلى الحـُلة ، وكل منهم يقول لصاحبه : ما رأيت مثل هذه الحلة قط ، ولا سمعت أن أحدا ً
من الملوك قدرّ علي مثلها ، وأس بن حارثة لا ينظر إليها ، فقال له النعمان : ما أرى كل من
دخل عليّ إلا أستحسن هذه الحـُلة ، وتحدث مع صاحبه في أمرها إلا أنت ، ما رأيتك استحسنتها
ولا نظرتها .
قال أوس : أسعد الله الملك ، إنما أستحسن الحـُلة إذا كانت في يد التاجر ، وأما إذا كانت على
الملك وأشرق فيها وجهه ُ فنظري مقصور عليه لا عليها ، فأسترجع عقلهُ.
فلما عزموا على الانصراف قال لهم النعمان : اجتمعوا إليّ في غد فإني مُلبسٌ هذه الحلة لسيد
العرب منكم ، فانصرف العرب عنه ُ ، وكل يزعم أنه لابس الحلة .
فلما أصبحوا تزينّوا بأفخر الملابس وتقّلدوا بأحسن السيوف ، وركبوا أجّود الخيل ، وحضروا
إلى النعمان ، وتأخر عنه أوس بن حارثة ، فقال له أصحابه : مالك لا تغدو مع الناس إلى مجلس
الملك ، فلعلك تكون صاحب الحُلة ، فقال أوس :إن كنت سيد قومي فما أنا بسيّد العرب عند
نفسي ، وأن حضرت ولم آخذها انصرفت منقوصا ً ، وإن كنت المطلوب لها فسيُعرف
مكاني ، فأمسكوا عنه .
ونظر النعمان في وجوه القوم ، فلم ير أوس بن حارثة ، فأستدعى بعض خاصته ، وقال : أذهب
لتعرف خبر أوس ، فمضى رسول النعمان ،واستخبر بعض أصحابه ، فأخبره بمقالته ، فعاد إلى
النعمان ، فأخبره بذلك ، فبعث النعمان إليه رسولا ً، وقال :أحضر آمنا ً مما خفت عليه ، فحضر
أوس بثيابه التي حضر بها بالأمس ، وكانت العرب قد استبشرت بتأخره خوفاً م أن يكون هو
الآخذ للحلـُة .
فلما حضر وأخذ مجلسه ، قال له النعمان : إني لم أرك غيّرت ثيابك في يومك ، فألبس
هذه الحُــلة تستجمل بها ، ثم خلعها وألبسه إياها ، فأشتد ذلك على العرب وحسدوه ،
وقالوا : لا حيلة لنا فيها ، إلا أن نرغب إلى الشعراء أن يهجوه بقبيح الفعل ، فإنه لا
يخفض رفعته إلا الشعر ، فجمعوا فيما بينهم خمسمائة ناقة ، وأتوا بها إلى رجل يقال له
جرول ، وقالوا له : خذ هذه ، وأهج لنا أوس بن حارثة .
وكان جرول يومئذ أشعر العرب وأقواهم هجاء ، فقال لهم : يا قوم ، كيف أهجو رجلا حسيبا ً لا
يُنكر بيته ، كريما ً لا ينقطع عطاؤه ، فيصلا ً ، لا يطعن على رأيه ، شجاعاً لا يُظلم نزيله ،
محسنا ً لا أرى في بيتي شيئاً إلا من فضله .
فسمع ذلك بشر بن أبي خازم ، وكان شاعراً فرغب في البذل ، وأخذ الإبل وهجاه ، وذكر أمّه
سُعدى ، فسمع أوس بذلك ، فوجّه في طلبه ، فهرب وترك الإبل ، فأتوا بها إلى أوس بن حارثة ،
فأخذها وشد في طلبه ، وجعل بشر بن أبي حازم يطوف في أحياء العرب يلتمس عزيزاً يجيره ُ
على أوس ، وكل من قصده ُ يقول : قد أجرتك إلا من أوس بن حارثة ، فإني لا أقدر أن أُجير
عليه ، وكان أوس قد بث عليه العيون ، فرآه بعض من كان يرصده ُ ، فقبض عليه ، وأتى به إلى
أوس ، فلما مثُل بين يديه قال له : ويلك أتذكر أمي وليس في عصرنا مثلها ؟.
قال : قد كان ذلك أيها الأمير ؟ فقال : والله لأقتُلنّك قتلة تحيا بها سُعدى .
ثم دخل أوس إلى أمه سُعدى ،
وقال : قد أتيتك بالشاعر الذي هجاك ، وقد آليت لأقتلنه قتلةً تحيين
بها ، قالت يا بني : أو خير من ذلك ، قال وما هو ، قالت: إنه لم يجد ناصراً منك ، ولا مجيرا
عليك ، وإنها قوم لا نرى في اصطناع المعروف من بأس ، فبحقي عليك إلا أطلقته ، ورددت
عليه إبله ، وأعطيته من مالك مثل ذلك ، ومن مالي مثله وأرجعه إلى أهله سالما ً ، فإنهم أيسوا
منه ، فخرج له أوس ٌ ، وقال : ما تقول أني فاعل بك ؟ .
قال : تقتلني لا محالة .
قال : أفتستحق ذلك ؟ قال : نعم .
قال : إن سُعدى التي هجوتها قد أشارت بكذا وكذا ، وأمر بحل كتافه ، وقال له : انصرف إلى
اهلك سالما ً ، وخذ ما أمرت لك به .
فرفع بشر يده إلى السماء وقال : اللهم أنت الشاهد عليّ ألا أقول شعرا ً إلا أن يكون مدح في
أوس بن حارثة .