دور الإعلام الفضائي في التصدي لظاهرة الإرهاب: الإعلام الفضائي العربي نموذجا.
د. نصيرة تـامي
كلية علوم الإعلام والاتصال.
العنوان الإلكتروني: taminaceradz@yahoo.fr
الملخص:
إن الإعلام الفضائي تحول في الوقت الحالي إلى وسيلة دعائية لتمرير أفكار العنف والتطرف قصد تحقيق أهداف المتطرفين والإرهابيين في مختلف دول العالم خاصة في الدول العربية، في المقابل هو مطالب أن يتحول إلى وسيلة لمواجهة قضايا الإرهاب والعنف والتصدي لتداعياتها. فأولى مهام وسائل الإعلام بما فيها السمعية البصرية هي توعية الرأي العام، وتمكين المواطنين من فهم وحل مشكلات العصر، وتُعد قضايا الإرهاب والصراعات الدامية من أكبر وأخطر القضايا المطروحة حالياً. وأصبح الإعلام الفضائي بإمكانه المساهمة في ترسيخ اتجاهات رافضة للإرهاب والعنف لدى الرأي العام من خلال تناول الأحداث الإرهابية، وتحليل أسبابها والتوعية بحجم الدمار والآثار السلبية المترتبة عليها.
ومن هذا المنطلق يهدف البحث الحالي إلى معرفة مدى مُساهمة الإعلام الفضائي في تشكيل رأي عام رافض للإرهاب، وذلك من خلال تبيان الأسباب والدوافع الحقيقية لنشوب الظاهرة الإرهابية وتغلغلها. ووفقا لمعظم نتائج البحوث الإعلامية التي أجريت في السنوات القليلة الماضية، تفوقت كل من قناتي "الجزيرة" و"العربية" الإخباريتين –اللتان تُعدان نموذجاً للإعلام الفضائي العربي- على القنوات الإخبارية الأخرى في تشكيل معارف الجمهور العربي تجاه مختلف القضايا من بينها قضايا الإرهاب، ولهذا تسعى الدراسة إلى معرفة مدى مساهمتهما في توعية الرأي العام العربي بضرورة مكافحة الإرهاب والتصدي له، أم العكس توحلتا إلى منبر لتمرير أفكار وأهداف الإرهابيين.
الكلمات الدالة:ظاهرة الإرهاب – الإعلام الفضائي – الفضائيات الإخبارية العربية المتخصصة – قناة "الجزيرة" – قناة "العربية".
مقدمة:
دخل الإرهاب المُعاصر مرحلة جديدة مع بداية الأُلفية الثالثة خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث أصبح إحدى حقائق العصر، فهو لم يعد عملاً فردياً يقوم به فرد يائس ومُتعصب ومُحبط يتوهم تغيير العالم بعمله الإرهابي الفردي، بل تحول في سياق العولمة ومعطيات الثورة الاتصالية الإلكترونية إلى عمل منظم يحتاج إلى خبرات تقنية عالية وإمكانيات مادية ضخمة. وهذا معناه بروز ما أصبح يُطلق عليه بـ"الشكل العولمي للإرهاب"، فلقد انتهى عصر الجماعات الصغيرة التي تحصر نشاطها في بلد معين، وتوجه عملياتها ضد بلد معين، وفي الغالب من أجل تحقيق هدف محلي محدد، ليبدأ عصر التنظيمات "الإرهابية" ذات الصفة العالمية (وغالباً ذات الطابع الديني)، التي تمتلك منظمات في أكثر من بلد، وتسعى لتحقيق أهداف وتنفيذ عمليات في أكثر من بلد(1). ولعل الأمر الذي ساهم في إعطاء تلك الأهمية القصوى للإرهاب في زمننا الحاضر،هو التقدم الهائل لوسائل الإعلام أو ما يسمى بثورة الاتصال وظهور "الإعلام الفضائي" الذي استقطب الجماهير بشكل كبير. وتُشير العديد من نتائج الدراسات الإعلامية، إلى حقيقة مفادها أن الإعلام بمختلف أنواعه يقوم بدور فعال في تعريف المواطنين بالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المطروحة داخل مجتمعاتهم، كما يقوم أيضا بدور كبير في تكوين الرأي العام والتأثير في اتجاهاته ومعتقداته (2). لذا أصبح عالم اليوم تسوده وسائل الإعلام أكثر مما تسود الحقيقة نفسها، فهناك تمثيلاً للواقع وليس الواقع نفسه(3). ويُعبر الرأي العام في أبْلَغْ صوره على اجتماع كلمة الجماهير، فهو بمثابة تعبير إرادي عن وجهة نظر الجماعة تجاه مختلف القضايا(4). وعليه فإن أولى مهام وسائل الإعلام هي توعية الرأي العام، وتمكين المواطنين من فهم وحل مشكلات العصر، والإرهاب يُعد من أكبر وأخطر القضايا المطروحة حاليا، حيث أصبح يُشير مفهومه إلى كل عمل ينطوي على: "- ترويع وتخويف المواطنين والاغتيال والتعذيب واختطاف واحتجاز المواطنين، وإلحاق الضرر المادي والمعنوي بالمجتمع، وهو كل سلوك يتنافى مع الشرعية القانونية والدستورية، والانتهاك العمدي للقواعد الدينية والعرفية ومنظومة القيم السائدة في المجتمع، وهو أيضا كل فعل يُخِل بأمن واستقرار المجتمع، وهو كل عمل يهدد المصالح العليا للدولة –"(5)، أما مفهومه حاليا من المنظور الأمريكي هو: "- الاستخدام المحسوب للعنف أو التهديد باستخدام العنف، لتحقيق أهداف ذات طبيعة سياسية أو دينية أو أيديولوجية عن طريق التخويف أو القهر أو نشر الذعر –"(6). وهكذا تبقى مشكلة تعريف الإرهاب معقدة ومتشابكة، حيث لم تَعد قضية الإرهاب قضية دولة محددة أو عقيدة بعينها، بل أصبحت ظاهرة عالمية ديناميكية تختلف أهدافها ومفاهيمها وأساليب ممارستها وتداعياتها من دولة إلى أخرى.
الإشكالية:
أصبح الإرهاب ظاهرة عالمية تُهدد كل دول العالم بعد حدث 11/09/2001، الذي يُعَدُّ أضخم وأهم حدث عاجل "Breaking News"في التاريخ. ومع الإجماع على دور الإعلام في التوعية والتوجيه، أصبح الإعلام الفضائي من أهم الوسائل المستخدمة في التصدي للظاهرة، خاصة بعد أن أصبحت القنوات الفضائية تملك قوة تمكنها من التأثير في المجتمعات، وتغيير قناعاتهم وسلوكياتهم تجاه القضايا المطروحة لا سيما قضايا الإرهاب وتداعياتها. فالجمهور أصبح يدخل في سلسلة من المناقشات وعمليات تبادل المعلومات من خلال البرامج الحوارية التي تقدمها الفضائيات الإخبارية المتخصصة، وكثيراً ما يتبنى من خلالها موقفاً وسلوكاً معيناً، وهو ما يؤكد ضرورة الاعتماد على الإعلام بصفة عامة وعلى الإعلام الفضائي بصفة خاصة في مكافحة ظاهرة الإرهاب والحد من انتشارها. وتأتي إشكالية هذه الدراسة لتصب في هذا الإطار، وتحاول الإجابة على السؤالين التاليين:
1) ما هو الدور الذي يلعبه الإعلام الفضائي في توعية الرأي العام لمواجهة الإرهاب والتصدي له؟.
2) ما مدى مساهمة الإعلام الفضائي العربي الممثل في الفضائيتين الإخباريتين "الجزيرة" و"العربية" في توعية الرأي العام العربي بضرورة مكافحة الإرهاب والتصدي له؟.
1. العلاقة الإشكالية بين الإعلام والإرهاب:
إن الإرهاب بالرغم من عموميته وتجسيده على أرض الواقع لا يحظى بإجماع دولي، فمعظم قيادات العالم وشعوبها ترى فيما تقوم به الجماعات المعارضة المسلحة أعمال إجرامية، تهدف إلى إرهاب المواطنين وتدمير مؤسسات الدولة، في حين يذهب القائمون بهذه الأعمال والمؤيدين لها إلى اعتبارها مجرد عنف مضاد، سببه زيادة مظالم ومفاسد السلطات الحاكمة. واتفق معظم من تناول ظاهرة الإرهاب بالتحليل والدراسة أن لهذه الأخيرة محتوى سياسي، فأعمال العنف من هذا القبيل لا تكون لدوافع ذاتية أو لمصالح شخصية، وإنّما العمل الإرهابي غالبا ما تأخذ أحداثه طابعاً درامياً، يهدف جذب انتباه أكبر قدر ممكن من وسائل الإعلام، خاصة وأن الغاية المرجوة من وراء العمليات الإرهابية هو الدعاية لقضية ما – فهم يعتبرون أنفسهم أصحاب قضية – يرغب الإرهابيون في إثارتها لتعريف العالم بأبعادها.
ويبقى الهدف المحوري للإرهابيين هو كسب تَفَهُّم الناس وتعاطفهم، وعليه فإن الأساس الذي تقوم عليه الإستراتيجية الإعلامية للإرهابيين هو أن يخوضوا حرباً دعائية ونفسية وإعلامية، ولهذا تهدف الجماعات الإرهابية أساسا إلى إيصال رسائل معينة إلى الناس مـــن خلال وسائل الإعلام، وفي هـــذا الإطار يــــقول والــتـــر لاكير "Walter Laqueur ": "الإرهاب لوحده لا شيء، نشره عبر وسائل الإعلام هو كل شيء"، وفي نفس المعنى قال الباحث التركي أسفت تلجان ما يلي: "يمثل العمل الإرهابي في حد ذاته بداية الإرهاب، بداية لآلية أكثر تعقيداً وهي الدعاية، فالإرهاب والجماعة الإرهابية ستكون غير سعيدة على الإطلاق ومُحْبطة، إذا ما عرفت أن جريمتها لن تُكتشف، ولن تَجذب اهتمام المجتمع"(7).
وهكذا أصبح الإعلام وخاصة الإعلام الفضائي السلاح الأقوى بيد الإرهابيين، فالعمل الإرهابي التدميري يجذب اهتمام وسائل الإعلام، وبهذا يُمكن الإرهابيين –خاصة في الدول التي يسيطر فيها الإعلام التعددي الخاص والتجاري- من استغلال هذه الوسائل لصالحه.
فالإرهاب في أساسه هو شكل من أشكال العنف غير القانوني، يعمل على إثارة الهلع والرعب في أوساط الجماهير، أو في جزء منه تحقيقا لهدف معين، أو تعريفا لمطلب، أو كشفاً عن معاناة. ويعد الإعلام أحد أهم مرتكزاته، وأول ما يخطط له الإرهابي عادة هو(:
- كيف يوسّع من دائرة اهتمام الرأي العام به؟.
- وكيف يزيد من التعريف بقضيته؟. وهذا لن يتحقق له إلاّ عن طريق الإعلام، الذي يجعل من الإرهاب مادة إعلامية مطلوبة، وفي هذا الإطار أشارت الباحثة "Nacos" في 2002 إلى مسألة إصرار الإرهابيين على استخدام وسائل الإعلام لنشر أفعالهم وقضاياهم في إطار مفهوم جديد أسمته بـ "الإرهاب المروّج عبر الإعلام" –Mass-MediatedTerrorism-(9). وبهذا يكون الإعلام في حيرة، حيث إذَا أَوْلَى اهتماما للعمليات الإرهابية، فإنه سيقع في فخ الإرهابيين، ليجد نفسه مسخراً لخدمة الإرهاب والإرهابيين بطريقة غير واعية وغير مقصودة، وفي حالة تجاهل الإعلام للعمل الإرهابي، فإنه بذلك يتنكر لرسالته السامية، والمتمثلة في إطلاع الرأي العام على حقيقة ما يحدث من أحداث ووقائع مهما كانت سلبية. وللإعلام وظيفة إيجابية وأخرى سلبية، فالوظيفة الإيجابية تكمن أساساً في التحلي بالصدق والأمانة والموضوعية، أما السلبية فجوانبها متعددة مثلا: يمكن للإعلام أن يكون صادقا في تناوله لحادثة معينة أو لظاهرة ما، لكن نتائجها تكون سلبية(10). فالمذابح العشوائية للأبرياء هي عمل إرهابي شنيع، ومن جهة أخرى هو خبر مثير، حيث يكون الإعلام مُطَالِبٌ بالتطرق إليه، مُتَبِعاً بذلك المبدأ القائل بأن: "الخبر ليس مُلكاً للصحيفة، وليس مُلكاً للرأي العام، ولكنه ملك فقط للحقيقة"، علماً أن الإعلاميين بدورهم يسعون وراء الأخبار المثيرة، ويضخمونها لأغراض مختلفة كتوزيع أكبر عدد ممكن من الصحف على سبيل المثال، لذا فإن الخبر سيتصدر بالبند العريض العناوين الرئيسية في الصحف، كما سَيُذاع في جميع الإذاعات ويُبث في جميع القنوات الفضائية، ويكون الإعلام بهذا قد حقق هدف الإرهابيين، والمتمثل في تضخيم أعمالهم ومن ثم ممارسة عملية التهويل. فوسائل الإعلام إذن تعطي للإرهاب ترويجا إعلامياً لن تعطيه له أية مؤسسة أخرى(11).
ويعلم الإرهابي جيداً الذي ينفذ نشاطاته في المجتمعات الليبرالية أن أعماله الإرهابية سيبثها التلفزيون في الحال، وكذلك الراديو والصحافة، بالإضافة فإن صور الهجوم والعنف يمكن أن تذاع حول العالم من خلال الأقمار الصناعية، ولهذا ذهب البعض إلى القول أن الإرهابيين والإعلاميين القائمين بالتغطية الإخبارية التليفزيونية يتعاونون في تصعيد الرعب ومعدلات المشاهدة(12). ويسعى الإرهاب دوماً إلى إحداث حالة خوف لدى الجماهير كي تضغط على حكوماتها لقبول مطالب الإرهابيين، ولهذا فالهدف من العمل الإرهابي ليس العنف بحد ذاته، بل نشر حالة ذعر لدى الجماهير المستهدفة، وكلما كانت تغطية وسائل الإعلام لحدث العنف أوسع كان نجاح العمل العنيف أكبر(13). يهدف الإرهابيون عموماً من خلال تنفيذهم لمختلف العمليات الإرهابية من اغتيال سياسي، تدمير للمنشآت العامة، واحتجاز للرهائن إلى تحقيق هدفين أساسيين هما(14):
1. إثارة انتباه العالم إلى كَوْنْ الإرهاب موجود، وأن الإرهابيين أصحاب قضية، لذا وَجَبَ الاعتراف بهم، ومن ثم ضرورة معالجة قضيتهم، فهم يعتبرون أنفسهم أصحاب قضية.
2. الحصول على الشرعية الدولية لقضيتهم والتعاطف معها.
ولتحقيق هذه الأهداف يعتمد الإرهابي بالدرجة الأولى على تجاوب وسائل الإعلام معه، وليس من الضروري أن يكون التجاوب بالتعاطف، إنّما المهم هو أن تنقل هذه الوسائل رسالة الإرهابيين إلى الرأي العام الداخلي والخارجي، وعليه فإن العلاقة الموجودة بين الإعلام والإرهاب –حسب رأي العديد من الباحثين المتخصصين في الإعلام أمثال "Wardlaw"-هيعلاقة تكاملية (Symbiotic relationship) حيث يعتمد كل منهما على فوائد الآخر(15). فالإرهابي يحتاج إلى الإعلام، ويعتبره بمثابة سلاح استراتيجي لابد من جذب انتباهه، والإعلام قد يخدم أهداف الإرهابيين بنشر أقوالهم وأفعالهم، وتضخيم قوتهم دون قصد، ليُعطي بذلك للإرهاب صدى إعلامي واسع، يسعى الإرهابيون دوماً إلى تحقيقه. وهذا ما دفع مارجريت تاتشر –رئيسة الوزراء البريطانية السابقة إلى وصف الدعاية المجانية التي تقدمها وسائل الإعلام للإرهابيين: "بأنها الأكسجين اللازم للإرهاب الذي لا يستطيع الاستغناء عنه، لأن تغطية الحدث الإرهابي إعلامياً يحقق مكاسب تكتيكية وإستراتيجية للقائمين عليه"(16). وأشار شريف بسيوني(*) إلى المفارقة المتمثلة في رغبة الإرهابيين جذب الإعلام الفضائي لتحقيق أكبر دعاية وتشهير لأعمالهم، وهذا ما يدفعهم إلى البحث عن ارتكاب أعمال العنف التي تحقق لهم مثل هذه الأهداف، في المقابل فإن التغطية التلفزيونية التي فيها مبالغة وتضخيم للأعمال الإرهابية ينجم عنها خوف ورعب من الإرهاب في أوساط الجماهير(17). ويعتمد الإرهابي على رجل الإعلام في نقل أخبار العمليات الإرهابية المرعبة التي تقترف بوحشية في حق المدنيين العزل، مخلفة ضحايا أبرياءـ، صور مرعبة عن جثث مُفحّمة ودماء، حالات الفزع والخوف في الأوساط الجماهيرية، ورجال الإعلام بحديثهم ونقلهم لهذه الصور والحالات عبر مختلف وسائل الإعلام، يُحققون بذلك غاية الإرهابي الذي يشعر بفرحة كبيرة لما أنجزه، وهو يعتبره إنتصار لقضيته، حيث يردد دائما: "لقد فعلت ما فعلت من أجل القضية التي هي فوق كل إعتبار". وفي هذا الصدد يقول والتر لاكير "Walter Laqueur": "إن الإعلامي هو أفضل صديق للإرهابي"، وهناك من قال: "إن الإعلامي هو شريك الإرهابي"، وهذا لا يعني أن الإعلامي متواطيء مع الإرهابي ويؤيده فيما يقوم به، ولكن هذا معناه أن لرجل الإعلام دور فعال وهام في نقل الأحداث الإرهابية، بشكل مثير يؤثر على الرأي العام، ويحقق بذلك الصدى الإعلامي المطلوب لدى الجماعات الإرهابية التي تعمل بالمبدأ القائل: "إن العمل الإرهابي ليس شيئاً في حدّ ذاته. التشهير هو كل شيء". ولقد شبه "John Hardie Carruthers"الإرهاب بقطعة مسرحية وفيها يريد الإرهابي أن يشاهده وينتبه إليه العديد من الناس، في المقابل فهو لا يريد أن يموت الكثير من الناس(18). ولهذا تبقى أهمية كل عمل إرهابي تقاس بمدى ما يحصل عليه من اهتمام إعلامي. وحسب وجهة نظر Friederich Hacker(**)يرتبط الإرهاب بالشروط والفرص التي تضمن للإرهابيين إشهاراً واسعاً لأفعالهم، وتُمكن وسائل الإعلام الحدث الإرهابي من أن ينشر أو يُذاع أو يُبث بواقعه الحقيقي، كما تتناول أيضا وسائل الإعلام شؤون وأعمال الإرهابيين مجاناً، بحماس حقيقي واندفاع مهني مؤكد(19).
ومن الشروط والفرص التي تضمن للإرهابيين إشهاراً واسعاً، نجد على سبيل المثال اختيارهم المتعمد لأوقات محددة، وأماكن معينة لتنفيذ عملياتهم الإرهابية فمثلا: لعبت الصحافة المكتوبة اليومية بإيطاليا دوراً مركزياً، حيث كان الإرهابيون الإيطاليون لليسار المتطرف غالبا ما يوجهون ضرباتهم أيام الأربعاء والسبت، وهي الأيام التي يكون فيها سحب الجرائد كبيراً. كما أن واضعي القنابل بفرنسا عام 1986 بذلوا جهداً لوضعها في نهاية الظهيرة، وهذا لتتصدر النشرات الإخبارية المتلفزة باعتبارها الأكثر مشاهدة، ليتم إرسال الصحافيين إلى عين المكان مباشرة بعد الانفجار، والصحافيين بدورهم يضمنون معالجة درامية مفرطة للحدث المأساوي على المباشر، وهذا بمثابة مكسبا فعليا للإرهابيين، الذين يتمتعون بمهارة فائقة في استعمالهم العنف لجذب الانتباه، حيث أنه في أغلب الأحيان يكون الهدف الحقيقي للإرهابيين ليس ادعاء القوة، وإنما تحقيق الشهرة فحسب(20). وتُساهم التغطية الإعلامية المُكثفة للإرهاب في منح الاعتراف والشرعية للإرهابيين، حيث أصبحت وسائل الإعلام حاليا تُجري مقابلات مع الإرهابيين، وعندما تَنْشُرُ وتَبُثُ تصريحاتهم وأحاديثهم، فهي تُضفي بذلك –ودون أن تتعمد- الشرعية والاحترام على القادة الإرهابيين، وهكذا فإن الإعلام يجعل من الإرهابيين شخصيات معروفة، وهذا يُعد للأسف اعترافا رسمياً وإعلامياً بوجودهم(21). ويُعد الإرهاب بمثابة هجوم على معنويات المواطنين، فهو يؤثر على مشاعر الأفراد، ويسعى دائما إلى إحداث الحدّ الأقصى من التأثير الشعوري، كالشعور بالأسى والإشفاق على الضحايا والشعور بالغضب من السلطات، لأنها تسمح للإرهابيين بممارسة أعمالهم الإجرامية وهي بذلك عاجزة عن توفير الحماية للمواطنين، والسبيل لإحداث مثل هذا التأثير في الشعور، يكمن في قوة تأثير وسائل الإعلام(22)، حيث اكتسبت وسائل الإعلام أهمية مستحدثة مرتبطة بطريقة تصويرهم أو كتابتهم عن الأحداث الإرهابية، وهي بذلك أصبحت قادرة على التأثير في الآخرين، حيث أن مختلف التصورات والانطباعات عن الإرهاب تكونت إلى حدّ كبير من تأثير الإعلام.
فالإعلام له الحق الشرعي للحديث عن الأحداث الإٍرهابية والتعليق عليها، ولكنه يجب أن يكون حذراً حتى لا تتلاعب به المنظمات الإرهابية، فهو مطالب بعدم التحيز وعلى الإعلامي أن يكون على علم بأن الإرهابيين يحتاجون دائما لتلك الدعاية للتعريف بمطالبهم والإعلان عنها(23). ولعب الإعلام بصفة عامة والإعلام الفضائي بصفة خاصة دوراً كبيراً في إشعال ضجة إعلامية لم تنته إلى غاية يومنا هذا عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها(24). وأصبح الإرهابيون حاليا يحددون القنوات الفضائية التي يتعاملون معها خاصة أثناء تنفيذهم لعمليات إرهابية، وضَمنت هذه الطريقة للعمل الإرهابي مزيداً من قوة التأثير في الجمهور من خلال وسائل الإعلام المنتقاة التي أصبحت تقدم المزيد من التنازلات للإرهابيين، مقابل انفرادها بتغطية عملياتهم ونشر وثائقهم وبياناتهم وتصريحاتهم(25). وهكذا يُعد الإعلام سلاح ذو حدين أثناء تعامله مع الظاهرة الإرهابية، فهو إما يفيد أو يضر وذلك حسب الطريقة التي يتم من خلالها إدارة وسائل الإعلام، وحسب آراء الذين يديرونها، وكذا حسب الخطط الاستراتيجية القريبة أو بعيدة المدى التي تَمَ وضعها، فكل هذه العوامل تؤثر بالضرورة في مخرجات الإعلام(26). وعموما تؤدي ظروف الأزمة مهما كان نوعها إلى تزايد أهمية تأثير الإعلام المتلفز، فمثلا: بعد الحرب الأمريكية على أفغانستان في إطار ما اصطلح على تسميته بـ "مكافحة الإرهاب الدولي"، قامت حكومة طالبان بمنع كل وسائل الإعلام العالمية ما عدى قناة "الجزيرة" التي قامت بدور مؤثر على سير المعركة، بل وأفسدت الكثير من المخططات العسكرية والسياسية الأمريكية، بسبب تغطياتها الحية المباشرة من ميادين القتال في أفغانستان، فكانت تُظهر للرأي العام العالمي حقائق مناقضة تماما لما تقدمه وسائل الإعلام الأمريكية، أو ما يصدر من بيانات عن البيت الأبيض والبنتاغون الأمريكي(27). وللإعلام خمسة وظائف أساسية خلال فترات الأزمات وتتمثل فيما يلي(28):
1. تقديم المعلومات. 2. شرح أهمية ومغزى الأحداث. 3. بناء الوفاق الاجتماعي. 4. التخفيف من الضغط والتوتر. 5. تحقيق التسلية.
وإزدادت أهمية هذه الوظائف بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتداعياتها.
وهناك من ذهب إلى القول أن العلاقة الموجودة بين الإعلام والإرهاب قائمة على مبدأ المصلحة المتبادلة(29)، فمن جهة يوفر الإعلام للإرهابيين الدعاية لأعمالهم من خلال الحديث عنها بشكل مفرط فيه نوع من المزايدة، حيث يتم نشر وبث صور مرعبة عن الضحايا والجثث، وصور أخرى عن الدمار والخراب، مصحوبة هذه الصور بتقارير وتعليقات صحفية مؤثرة. وبهذا يضمن الإعلام للعمل الإرهابي ديمومته واستمراريته عن طريق بث رسائل دعائية لزعماء الإرهاب عبر الفضائيات والصحف والمجلات، وكذا بث صور العمليات التي يقومون بها من تفجير أو خطف أو غير ذلك على المباشر. في المقابل فإن الأحداث الإرهابية تضمن لوسائل الإعلام خاصة الإعلام الفضائي تحقيق مصالح مهنية واقتصادية مؤكدة، وذلك عن طريق المزايدة في الحديث عن هذه الأحداث بطريقة مكثفة، حيث يتحول الإرهاب إلى مادة إعلامية للمتاجرة قصد تحقيق أرباح مادية، وخدمة لمصالح الدول الممولة للإعلام بمختلف أنواعه. وأجمع الباحثين أن هذه العلاقة المتبادلة بين الإعلام والإرهاب هي ليست بالضرورة علاقة مباشرة، فهي قد تكون علاقة غير مباشرة قائمة على أساس المصالح المشتركة، فهناك بعض المتخصصين الإعلاميين يرون أن العلاقة بين الإعلام والإرهاب أصبحت في الوقت الحالي عبارة عن شراكة بين مؤسستين، إحداهما تقوم بصنع الحدث والأخرى تسوقه(30). وانتبه رجال حروب العصابات والحركات الثورية خلال الستينيات إلى أهمية الاستعمال الجيد لوسائل الإعلام خاصة التلفزيون، ونذكر على سبيل المثال رجل العصابات البرازيلي "Carlos Marighela"الذي تحدث انطلاقا من تجربته الشخصية في حرب العصابات على أن "وسائل الإعلام العصرية تعمل وببساطة بشكل مدهش على التعريف بالثوريين، وتكمن أهميتها كوسائل للدعاية"(31). وأصبحت الدعاية بعد تطور بحوث الاتصال ودراسات الإعلام الدولي جزءاً من نشاط وسائل الإعلام(32). وهناك نوع من الدعاية تعرف بالدعاية غير المقصودة، ويقصد بها مجموعة العوامل والظروف التي تجعل من التغطية الإخبارية عملاً دعائياً، دون أن يكون ذلك من أهداف الصحفي أو المؤسسة الإعلامية، فالضوابط السياسية والثقافية التي توجه الصحفي إلى اختيار أحداث معينة والاهتمام ببعض جوانب هذه الأحداث دون جوانب أخرى، قد تجعل التغطية الإخبارية عملاً دعائياً. إن التأثير الدعائي للأخبار قد يكون أقوى، خاصة وأن الجمهور يتابع الأخبار باعتبارها تقارير عن حقائق مباشرة(33)، غير أنه من الناحية الفعلية يبقى اختيار الحقائق والتلاعب بها، أو حذفها من الخبر عن قصد أو غير قصد، هو نوع من الدعاية يُمارسها رجل الإعلام الذي يعلم جيّداً الجوانب الدعائية في الخبر. ولما كانت وظيفة وسائل الإعلام الرئيسية هي اطلاع الأفراد والجماعات بحقيقة ما يجري داخل مجتمعاتهم، لذا فهي تتحدث عن الأحداث الإرهابية بحماس أحياناً فيه مزايدة، حيث تركز في نقلها لهذه الأحداث على الصور وحالات الفزع والرعب الناجمة عن العمل الإرهابي، والتي تترك أثراً بسيكولوجياً عميقاً على الجماهير، لتتحول بذلك التغطيات الإخبارية إلى تغطيات دعائية تساهم في ترويج أخبار الإرهابيين، ومن ثم الدعاية لأفعالهم وهذا ما يطمح إليه الإرهابيون وهي الدعاية لقضيتهم. لذا اعتبر بعض المحللين والباحثين الإعلاميين أن التغطية الإخبارية المكثفة لنشاطات الإرهابيين وأعمالهم، هي من بين الأسباب المهمة التي تحفزهم وتدفعهم للتوسع فيها، حيث يحصلون من ورائها على حضور إعلامي درامي على الصعيد العالمي، دون أن يقدموا شيئاً للإنفاق عليه أي يحصلون عليه مجانا(34). ولهذا السبب اقترحت اللجنة الخاصة بموضوع الإرهاب الدولي التابعة للأمم المتحدة على الدول، أن تحصر تغطيتها الإخبارية للأعمال الإرهابية في حدود ضيقة، وذلك لحرمان الإرهابيين من تحقيق هدفهم، المتمثل في الحصول على أكبر دعاية دولية ممكنة لعملياتهم. ويجب الاعتراف أن الإعلام تحول إلى نظام لإنتاج المعلومات حول الإرهاب(35)، ولكن يبقى الإرهاب كمادة إعلامية تتناولها وسائل الإعلام يطرح إشكال كبير في الكيفية والطريقة التي ينبغي أن يُعالج بها. ويؤكد "Dominique Wolton"أن الإرهاب هو ملف صعب في التحرير(36)، ولهذا تُطرح عدة تساؤلات جوهرية خلال تناوله ومُعالجته إعلامياً وهي كالتالي:
§ من المسؤول عن ملف تحرير الإرهاب؟.
§ كيف يتم تحريره؟.
§ وهل وسائل الإعلام مُطالبة بمتابعة دائمة ومستمرة لقضايا الإرهاب وتداعياتها، أو أن الاهتمام الإعلامي يكون مجرد ردود أفعال مؤقتة لأحداث إرهابية متفرقة؟.
§ وهل ينبغي على القنوات الفضائية الحديث عن كل تفاصيل العمليات الإرهابية، وبث كل صور الدمار والدم والخراب التي تخلفها؟.
§ وكيف يمكن لوسائل الإعلام الحديث عن الإرهاب والإرهابيين دون القيام بدور دعائي لهم؟.
وبخصوص تحديد نوع المعالجة الإعلامية لقضايا الإرهاب، توجد نظريتان رئيسيتان تطرحان مدى تأثير التغطية الإعلامية للإرهاب على الرأي العام وهما كالآتي(37):
1)- نظرية العلاقة السببية بين الخطاب الإعلامي والإرهاب:ووفقاً لهذه النظرية فإن التغطية الإعلامية للإرهاب تؤدي إلى انتشار ظاهرة الإرهاب، حيث تتكاثر العمليات الإرهابية كنتيجة طبيعية للتغطية الإعلامية، وحسب هذه النظرية هناك ثلاثة أنواع للتأثيرات الإعلامية هي: الوعي والتبني، انتشار العدوى، الوساطة. "فالوعي والتبني" يشيران إلى أن التغطية الإعلامية لحوادث الإرهاب ترفع مستوى وعي الجماهير عامة والجماعات الأكثر ميلا خاصة، أما أثر "انتشار العدوى" فيعني أن التغطية الإعلامية تفرز العديد من العمليات الإٍرهابية. و"الوساطة" تعني إمكانية وجود تدخل فعلي من جانب الصحافيين، للوساطة بين الإرهابيين ورجال الشرطة أو المسؤولين بالدولة. وتدعو هذه النظرية الحكومات إلى المزيد من القيود على وسائل الإعلام، فهي تفترض أن وسائل الإعلام ترتبط عضويا بالإرهاب، فالإرهاب يعتمد على الإعلام لتحقيق المزيد من الفزع في أوساط الجماهير وللحصول على الشرعية لدى السلطة، في المقابل يعتمد الإعلام على التهويل في تغطيته للإرهاب قصد تحقيق أكبر ربح ممكن من خلال زيادة المبيعات. فالعلاقة بين الطرفين تأخذ شكلاً دائرياً لا ينتهي، حيث يستفيد كل طرف منهما من الطرف الآخر.
إن هذا التصور العلمي يرى أن وسائل الإعلام ضحية للإرهاب، فهي إما تتناول الحدث الإرهابي وتحقق أثراً نفسياً مروعاً، وإما تتجاهله بسبب قيود الحكومات فتفقد بذلك مصداقيتها.
2)- نظرية الخطاب الإعلامي والإرهاب والعلاقات المتباعدة:يرى أصحاب هذه النظرية أنه لا يوجد دليل علمي على أن التغطية الإعلامية للإرهاب هي المسؤولة عن مضاعفة العمليات الإرهابية، فليس هناك أية علاقة قائمة بين المتغيرين، ولهذا يدعوا أصحاب هذه النظرية إلى عدم التدخل في أداء وسائل الإعلام عامة وفي علاقتها بالإرهاب خاصة، لأنه من غير المعقول حسب رأيهم أن تكون هناك علاقة بين الطرح الإعلامي لقضايا الإرهاب وزيادة معدّله. علاوة على هذا فهم يرون في حرمان الإرهابيين من الوصول إلى وسائل الإعلام يُساهم في زيادة معدّل الإرهاب، لأن الإرهابي يريد أن تصل رسالته إلى الطرف الثالث، وفي حالة عدم وصولها من خلال وسائل الإعلام، سيعتمد الإرهابيون على تكرار الأحداث باستخدام وسائل أكثر شناعة في مختلف الأماكن وعبر فترات زمنية مختلفة، ليحققوا بذلك خسائر مادية وبشرية كبيرة، تُمكنهم من إيصال رسالتهم وتحقيق أهدافهم.
وفي الأخير يمكن القول حول ما قدمته النظريتين، بأنه لا يمكن نفي تأثير المعالجة الإعلامية لأحداث العنف والإرهاب في خلق رأي عام مؤيد أو معارض لها، ولكن هذا لا يعني بأن حرية النظم الإعلامية تشكل سببا للإرهاب، بل فرض قيود على وسائل الإعلام وغياب حرية التعبير وحجب المعلومات هو الذي سيؤدي إلى تنمية فكر متطرف ليتحول إلى فكر ذو طبيعة إرهابية، خاصة وأن العالم يشهد ثورة معلومات تُتيح للجميع بما فيها الجماعات الإرهابية التحرر من كل أنواع القيود التقليدية. في المقابل –وكما رأينا- لا يمكن تجاهل حقيقة وجود علاقة مصلحة مشتركة بين وسائل الإعلام والإرهابيين، فهي علاقة قائمة على أساس المصلحة المتبادلة بين الطرفين. وبالرغم من أن الإعلام سَاعَدَ الجماهير على فهم بعض الأحداث الإرهابية، أو على بعض الطرق التي تنفذ بها هذه الأحداث، ولكن يُعاب عليه عُمُوماً، أنه أهمل وتجاهل الحديث عن الأسباب الأساسية، في بروز وتطور ظاهرة الإرهاب بالتحليل والدراسة. وهذا ما توصل إليه الأستاذان الجامعيان الكنديان: ميشال كيلي "Michel Kelly"وتوماس ميتشل "Thomas Mitchell"من خلال دراستهما التي جاءت تحت عنوان "التغطية الإخبارية للعمليات الإرهابية في صحيفتي" نيويورك تايمز "الأمريكية و"التايمز" البريطانية"، حيث اختار الأستاذان 158 حادثا إرهابياً في عدة مناطق من العالم، درسا الكيفية التي تَمَ بها تغطية هذه الأحداث في الصحيفتين، وتوصلا إلى أن هناك إغفالا شبه تام، وأحيانا تجاهلا تاماً للأسباب الكامنة وراء تلك العمليات الإرهابية(38). وهناك العديد من الباحثين الإعلاميين يرون أن الإعلام فشل في التعامل مع الإرهاب، وهذا الفشل يتمثل في عجزه عن تزويد قرائه ومشاهديه بصورة واضحة وخلفية دقيقة عن الأحداث الإرهابية، وهذا أدى إلى بروز تفسيرات متضاربة عن قضايا الإرهاب وتداعياتها، تختلط فيها المعالجة الإعلامية بالحملات الدعائية(39). وهكذا فمهما اختلفت الآراء حول العلاقة الإشكالية بين الإعلام والإرهاب، فإن الكثيرين يدعون ولحساسية المسألة إلى التعامل بحرص شديد مع ملف الإرهاب، وعدم إبراز أحداثه وإعطائها صدى إعلامي أكثر من حجمها الحقيقي.
2.الإعلام الفضائي والإرهاب ... الترويج أم التصدي
إن لوسائل الإعلام دور كبير في تغطية ومعالجة قضايا الإرهاب بمهنية، حيث تقوم بدور فعال في توجيه الممارسات المهنية لإقناع الجمهور بخطورة الأحداث الإرهابية، وما يجب اتخاذه للتعامل مع هذه الأحداث وتداعياتها(40).وتتطلب مواجهة ظاهرة الإرهاب وجود العديد من الوسائل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالإضافة إلى الوسائل الإعلامية التي ينبغي التركيز عليها، وذلك نظراً للتأثير الكبير الذي تمارسه على الجماهير بمختلف أنواعها من إذاعة وتلفزيون وصحافة مكتوبة.
وتلعب وسائل الإعلام دور كبير في توعية الرأي العام بضرورة مكافحة الإرهاب والتصدي له، فهي تساعد على الفهم الكامل لظاهرة الإرهاب، وتبيان الأسباب والدوافع الحقيقية لنشوبها وتغلغلها داخل المجتمع(41). ولقد شهد النصف الأول من التسعينيات تحولاً هاماً لملف الإرهاب والإعلام على حد سواء، حيث عرفت العديد من دول العالم سلسلة من العمليات الإرهابية انتقل على إثرها الإعلام بمختلف أنواعه "حكومي وخاص" إلى التعامل مع الإرهاب كظاهرة تحتاج إلى نسق متكامل من المواجهة الفكرية والإبداعية والإعلامية، وظهر ذلك واضحاً في تصدي مختلف الصحف للظاهرة الإرهابية، وفي الصحوة التلفزيونية التي تمثلت في تقديم برامج حوارية متنوعة، تُرسخ موضوعات التحدي للإرهاب والإرهابيين(42).
وعليه يمكن القول أن العلاقة الموجودة بين الإرهاب والتلفزيون هي علاقة تكاملية، فالتلفزيون يندفع تجاه الحدث الإرهابي لأنه يمثل بالنسبة له دراما متكاملة العناصر وبالغة الإثارة، حيث أصبحت قوانين السوق والمنافسة والربح والسبق الصحفي هي التي تحكم الفضاء التلفزيوني. في المقابل يندفع الإرهابيون تجاه التلفزيون لأنه الوسيلة الأقوى والأوسع انتشارا، وكذا الأقدر على الوصول إلى مختلف فئات المجتمع، وقد أُطلق على هذه العلاقة بمصطلح "Terrovision"ومعناه الإرهاب المروّج عبر التلفزيون، والخدمة التي يقدمها التلفزيون للإرهاب بطريقة غير مقصودة وغير مباشرة(43). وهذا يقودنا للحديث عن التلفزيون الذي يُعد من بين وسائل الإعلام الجماهيرية الهامة، وذلك لما لهذه الوسيلة من قدرة على التأثير والتغيير في المواقف والاتجاهات، وكذا لما تنفرد به من قدرة للاستحواذ على قطاع واسع من الجمهور، وهو الجمهور الذي وصفه أحد خبراء الاتصال بأنه "جمهور مَهُولْ، من حيث حجمه الكلي، ومن حيث نسبته المئوية من السكان، إنه ظاهرة اجتماعية لا سابق لها في التاريخ"، لذا وصف التلفزيون بالعملاق الهادئ "Le Geant Timide"(44)، واستطاع أن يكتسح مختلف مجالات الحياة الإنسانية بفضل القدرات التي يمتلكها في نقل المعلومات، فهو يتميز بالتركيبة الثلاثية المنفردة "نص + صورة+ صوت" وهي قدرات لا تمتلكها باقي وسائل الإعلام الأخرى. إن السمة الخاصة والمميزة للتلفزيون هي قدرته على تقديم الحدث لحظة وقوعه، وهذا يعني أنه بإمكانه تحقيق التزامن بين وقوع الحدث وبين زمن العرض(45).
ومن ثم فإن نقل الواقع من خلال الشاشة التلفزيونية يبقى هو أقرب الطرق لنقل "الأصل". فالتلفزيون ينقل الواقع ويُشعر المشاهد بالفورية التي تزيد من واقعيته وقوة تأثيره، فهو يبث الأحداث حال وقوعها، ولهذا يمكن القول أنه لا يوجد ما يضاهي قدرة التلفزيون في أن يكون مرآة صادقة تعكس صورة المجتمع. وفي هذا الصدد يقول الكاتب "دانيال بونيو" –Daniel Bougnoux-أن التلفزيون "هو راصد لأحوال العصر، يبث أجواء الزمن، فليس من الجدوى أن نشتكي من هذا (حتى ولو كان أمراً عفويًّا) ونحن نتقيأ أحوال عصرنا". كما يعتبر التلفزيون من أكثر وسائل الإعلام قدرة على تفسير وتوضيح الأحداث المستمدة من الواقع، وذلك لما يتميز به من خاصية الجمع بين الصورة الحيّة والكلمة المنطوقة(46).
والتلفزيون بالإضافة إلى كونه وسيلة إعلامية لنشر المعلومات، فهو يُعد وسيلة هامة للتعبير عن الآراء والأفكار، وهو يتميز بقدرته على تداعي الأفكار من خلال الصورة التلفزيونية. وتشير مُعظم الدراسات الإعلامية أن التلفزيون أصبح من أكثر وسائل الإعلام التي تسيطر على حياة الفرد في أغلب دول العالم، حيث أكدت دراسة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية للتعرف على أكثر المصادر الإخبارية تفضيلاً لدى الجمهور أن التلفزيون كمؤسسة ذات سلطة ونفوذ جاء في المرتبة الأولى بنسبة 60%، بينما جاءت الصحف في المرتبة الثانية بنسبة 48%، ثم الإذاعة بنسبة 23%، وجاءت المجلات في المرتبة الأخيرة بنسبة 05%فقط. وفي دراسة أخرى إحتل التلفزيون المرتبة الرابعة في ترتيب المؤسسات التي تحكم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث جاء البيت الأبيض ورجال الأعمال ومجلس الشيوخ في المراتب الثلاث الأولى(47). وإذا كان قراء الصحف يعدّون بالملايين في العالم، فإن مشاهدي التلفزيون يعدّون بمئات الملايين، وهذا ما أكدّه الإستفتاء الذي أجرته مؤسسة نيلسون الأمريكية (وهي مؤسسة خاصة تهتم بدراسة تأثير وسائل الإعلام الجماهيرية على الجمهور)، أن 57%من الذين شاركوا في هذا الإستفتاء أكدوا أن التلفزيون هو المصدر الرئيسي المفضل لتزويدهم بالأخبار(48). وتوصل أيضا معهد دراسات الرأي العام التابع لهيئة الإذاعة اليابانية، أنّ عدداً كبيرا من اليابانيين يعتبرون التلفزيون جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية. وتُشير بعض الإحصائيات أن التلفزيون خلال سنوات التسعينيات كان موجود بنسبة تتراوح ما بين 80%إلى 95%لدى الأسر في الدول الغربية، حيث صرحت حوالي 80ٍ%من العائلات الغربية أنها تشاهد التلفزيون يومياً تقريباً، وتُخصص له أكثر من ثلاث ساعات كمعدل يومي(49). وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدل على التأثير الواسع الذي يمارسه التلفزيون على الجمهور، خاصة وأنه يُعتَبَرْ كجهاز يُنتج ويَبُثُّ يوميا، بل وحتى ثانية بثانية قصصا إخبارية عن الواقع المحلي والعالم، تُؤثر بالطبع في إدراك العالم(50). وأحسن مثال عن النقل السريع والحي للأحداث عبر شاشات التلفزيون هو حادث 11/09/2001الذي حَظيَّ بتغطية تلفزيونية فورية ومستمرة على الصعيد العالمي، وكتبت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في هذا الشأن ما يلي: "إن الهجوم على برجي التجارة تراجيديا حديثة، العنصر الرئيسي فيها هو التلفزيون"(51).
إن تطور العنف في المجتمع يتعمّق بالمزايدة والإفراط في عرض الصور العنفوانية، أي المشاهد الأكثر عُنفاً ووحشيةً عبر شاشات التلفزيون(52). وهذا ما أكدته الدراسات التي خُصصت لموضوع تأثيرات العنف في التلفزيون، لقد تميزت سنوات الستينيات بتصاعد العنف بمختلف أشكاله في المجتمعات الديمقراطية: كأحداث الشغب الإجتماعي، إغتيالات في صفوف أفراد الشرطة، مظاهرات ضد حرب الفيتنام، مظاهرات أخرى ضد النظام التربوي...إلخ، وخلال هذه المرحلة إستطاع التلفزيون أن يحتل مكانة هامة في الحياة العامة والخاصة. كذلك يمكن الرجوع بالإعلام التلفزيوني إلى أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، حين تَمَ طرح خلال هذه المرحلة إشكالية "صناعة العنف المتلفز" الذي تولت إنتاجه أشهر المحطات التلفزيونية الغربية، حيث بثت تلك المحطات في نشراتها الإخبارية المتتالية صوراً عن مذبحة مزيفة في "تيمي شوارا" "Timisoara"برومانيا عند سقوط "تشاوسيسكو"، وكذا في الصين عندما إندلعت الأزمة في ساحة "Tianan Man"، والتي عُرفت بربيع بيكين(53). وفي أعقاب الموجة الأولى للعنف التي إجتاحت الدول الغربية أصبح شباب الجيل الأول للتلفزيون يحتجّون(54)، وتحولوا إلى أشخاص عدوانيين نتيجة الحصص العنيفة التي يبثها التلفزيون، بإعتباره المصدر الرئيسي الذي يستقون منه معظم معارفهم، وكان هناك نوع من الإتفاق حول بعض المشاهد التي تجسّد العنف: كالضرب، صور عن المصابين بجروح، صور الدّم، القتل، الإغتصاب وغيرها من صور العنف المختلفة. ونتيجة لاحتجاجات الجمهور وإتهاماته الموجهة للتلفزيون، دعت اللجان الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية العلميين لفحص العلاقة بين التلفزيون والعنف وتأثيره على الجمهور، ولهذا الغرض تَمَ إحصاء 2500 دراسة منشورة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها حول تأثير التلفزيون على السلوك، وخُصصت معظم هذه الأعمال لتأثيرات العنف في التلفزيون، والإرهاب هو صورة من صور العنف يطرح بدوره إشكالية تأثيرات الإرهاب في التلفزيون، أي بمعنى آخر:
- ما هي انعكاسات وآثار عملية بث صور الضحايا والدّم الناجمة عن العمل الإرهابي عبر التلفزيون؟
ولما كان التلفزيون يحتل مكانة هامة في المجتمع، فهو لديه حسب الباحثة مارجريت ميد "قوة يمكنها تغيير طبيعة المجتمع". لذا وصفت كاميرا التلفزيون بأنها عين الحقيقة، فالتلفزيون يسجل وينقل حقيقة الأحداث كما حدثت، لأنه مُطالب "بتقديم الحقيقة"، فهو بمثابة العين الفعلية للمشاهد، ونتيجة لكل هذه الصفات التي يتسم بها التلفزيون، دفعت بعض المختصين في الإعلام إلى القول أن التلفزيون قادر على القيام بعملية التهويل وتضخيم أحداث العنف(55).
ولهذا يُعد التلفزيون سلاح مهم يخدم الإرهابيين أحيانا، والإرهابيين بدورهم إكتشفوا أهميته، لذا أصبح هدفهم هو السعي لإستعماله كمنبر لتمرير أفكارهم وأهدافهم. وفي هذا الصدد يقول "Richard Clutterbuk"" إن السلاح الأقوى بيد الإرهابيين هو كاميرا التلفزيون"(56). وتوصلت العديد من الدراسات &