عين الشيطان
كان المشهد مروعا، سيارات متعددة اصطدمت معا، يزيد من هول الموقف وجود سيارات كبيرة قد دهست سيارات صغيرة حتى ساوتها بالأرض، من المؤكد أن من بها قد فارق الحياة.
وقف نادر بعيدا يترقب الموقف مجبرا بعد أن توقف الطريق تماما ونزل سائق سيارة الباص الذي كان يركبه للمساعدة، قلبه لا يحتمل منظر الدماء، لكنه فتح كاميرا هاتفه لتسجيل الموقف، بينما يتأمل بتقريب الصورة وتركيزها على الجهود الهائلة التي يبذلها الجميع لإنقاذ من يمكن إنقاذه، لاحظ حقيبة جلدية مفتوحة جزئيا تحت إحدى السيارات، دقق النظر في الكاميرا فإذا بعملات نقدية، أصابته الدهشة وبدأ صراع عنيف في داخله، لكنه تحرك لا إراديا ناحية السيارة المسحوقة، سار بهدوء بجانبها ثم جلس على ركبتيه كأنه يبحث عن ناجين وأخذ الحقيبة، قبل أن يتحرك مبتعدا أرعبته يد تمسك في تلابيبه، التفت ليرى أكثر مناظر حياته رعبا وبشاعة. شخص ما داخل السيارة تغطيه الدماء ورأسه مفتوحة تبدو منها أجزاء من مخه، ويبد أنه محاصر داخل السيارة الراضخة تحت سيارة نقل عملاقة تجثم فوقها.
تجمدت أطرافه للحظات، ثم خلص نفسه وهو يصرخ طالبا النجدة لوجود شخص على قيد الحياة، تجمع الكثيرون حول السيارة وجاءت فرق الإنقاذ التي التي كانت تحاول مع سيارة أخرى فلا يبدو من منظر هذه السيارة أنه ممكن أن يكون بها أحياء.
انسحب هو بالحقيبة الجلدية في هدوء مستغلا الهرج والمرج، وقد لاحظ تعلق عيون ذلك الرجل المسحوق به، لا يمكن أن يعيش. هكذا ردد بينه وبين نفسه بعد أن فتح الحقيبة ليلقي نظرة سريعة، فإذا بها ممتلئة باليورو والدولارات.
ملايين بين يديه، سرت الرعشة في جميع أجزاء جسده، توقف عقله عن العمل، جلس على قارعة الطريق يحتضن الحقيبة بشوق ولهفة، لاحظ ازدياد وصول سيارات الشرطة لضخامة الحادث، عاد يراقب الموقف، لم يجد الرجل الذي كان في تلك السيارة، يبدو أنهم نجحوا في استخراجه..
إنه ميت لا محالة، حدث نفسه مرة أخرى وهو يعبر الطريق إلى الجهة الأخرى عائدا إلى منزله، اتصل بالعمل يطلب إجازة عاجلة لإصابته في حادث، ركب أول سيارة عائدة إلى مدينته التي تبعد أكثر من مائة كيلومتر، طوال الطريق رأسه تعمل، ماذا سيفعل؟ ماذا سيقول لزوجته؟ كيف سيتعامل مع هذه الثروة؟
والأهم: هل يعيدها لأصحابها؟ ربما كانت أموالا مسروقة أو حصيلة بيع مخدرات أو رشوة. ولكن، هل يبرر أي من هذا مثل الفعل؟ ولكن لو تركتها لأخذها غيري؟
وما يدريك أن الذي كان سيجدها لن يسلمها للشرطة؟
لا يمكن. كل الناس محتاجة؟
ورغم هذا أكثر الناس شرفاء لا يسرقون.
ولكن الرجل سيموت ولن يستفيد من هذه الأموال؟
وما دخلك أنت؟ لابد أن له عائلة هي أولى بأمواله.
قضي الأمر الآن، لن أعود ولن أسلمها، سيتهموني بسرقته، أطبق على الحقيبة بيد من حديد.
وصل إلى المنزل مضطربا، أحكم إغلاق باب الشقة من الداخل تحسبا لحضور زوجته من عملها أو أولاده من المدرسة مبكرا، وضع غنيمته أمامه وأخذ يتأمل فيها، كلما اقترب منها ظهرت له نظرة ذلك الرجل تلتهمه وتهاجمه بعنف، أحضر غطاءا صغيرا وفرده على الأرض ثم ألقى الأموال فوقه وبدأ في عدها..
لم يشعر بالساعتين اللتين مرتا وهو يحصي النصف مليون دولار في خمسين رزمة وبضعة رزم من اليورو والدينار وغيرها.. يبدو أنه تاجر عملة، يتاجر باقتصاد البلد ويحقق مكاسب من حرام.
حلال الغنيمة إذن..
تهللت أساريره وأخذ يقفز كالمجنون. فوجئ بأحد ما يحاول فتح باب الشقة، ارتبك بشدة وحاول جمع الأموال بسرعة، ولكنه سمع زوجته تصرخ فيه أن يفتح الباب قبل أن تكسره. اضطر إلى فتحه فدخلت مسرعة غاضبة تبحث في أرجاء الشقة عن العاهرة التي يخفيها، فهي تعلم أنه لا يعود من سفرياته إلا متأخرا، جلس في منتصف الصالة ينتظر أن تكتشف العاهرة الأكثر إغراءا القابعة عند قدميه.
خرجت والشك يقتلها تسأله عن سر عودته المبكرة. أخيرا لاحظت حقيبة الأموال المفتوحة، أصابها الذهول للحظات ثم جلست إلى جواره تتأملها.
بعد أن هدأت قليلا عاودت سؤاله: لم أكن أعلم أنك تتاجر في المخدرات؟ أم تراك عضو عصابة كبيرة لسرقة البنوك؟ أخبرني قبل أن أجن، ولا تقل لي أنك ورثتها عن المرحوم خالك المهاجر طول العمر لأنني لن أصدق.
ابتسم في هدوء، ثم روى لها تفاصيل ما حدث، لم تستوعب الموقف.
نظرت له مطولا: أنت الهادئ المسالم طوال حياتك تسرق من رجل يحتضر في هذا الموقف الرهيب؟ أنت يا نادر؟
فوجئت به يبكي: لا أعلم مالذي حدث، بلادة غريبة أصابتني فلم أساعد في إنقاذ الناس، بل شغلت الكاميرا، آه، هذه اللعينة، عين الشيطان، لولاها ما رأيت الحقيبة، ولكنها كانت ملقاة على الأرض. ربما لم تكن تخصه أصلا؟
لكن كيف وقد وجدتها أسفل سيارته.. أيضا هناك شيء غير منطقي؟ السيارة كانت من ماركة رخيصة وموديل قديم أيضا لا توحي أبدا بوجود مثل هذا المبلغ فيها..
صمتت الزوجة قليلا ثم عقبت عليه: الموضوع كبير. ربما كانت السيارة غطاءا، عليك الآن التخلص من الحقيبة، سألها متعجبا عن السبب فأتبعت: ربما كان بها جهاز تعقب يا عبقري، أيضا يجب أن نتفحص الأموال جيدا ونتأكد أنها غير مزورة، اسمع سآخذ ورقة من كل عملة وأذهب إلى بنك متأخر أو مكتب صرافة وأرى. بينما تذهب أنت بالحقيبة إلى مكان بعيد وتحرقها، واحرص على حرقها.
ابتسم يسألها عن هذا الحس الإجرامي الغريب.
ابتسمت له وهي تشاركه فحص الأموال تؤكد له أن هذا من فوائد قراءة القصص البوليسية التي لا يحبها.
فعل ما طلبت منه تماما. اتصلت به وأخبرته أن النقود سليمة وغير مرتبة فيما يبدو أنا أموال سوق. التقيا مرة أخرى في المنزل بعد عودة الأولاد. في نهاية الليلة استشارها أن يودعوا الأموال في اليوم التالي في أحد البنوك. ابتسمت له ساخرة: ساذج. لو كانت هذه أموال عصابات أو مخدرات أو تجار عملة لابد أن يراقبوا معاملات البنوك بحثا عن إيداعات تقترب من مالهم. ياحبيبي لابد أن تختفي هذه الأموال نهائيا ولا نصرفها إلا بمعدلات قليلة.
أنت داهية يا حبيبتي. وأنا الذي كنت أظنك ساذجة وسطحية.
لايعرف الرجال قيمة النساء أبدا يا حبيبي.
ولكن هناك شيء لابد أن أفعله قبل أي شيء.
ما هو يا عبقري.
لابد أن أطمئن على صاحب النقود أو ناقلها أيا كان.
عندك حق. ولكن كيف؟
سأذهب غدا إلى مركز تجميع سيارات الحوادث على الطريق وأسأل عن صاحب تلك السيارة وأتتبع أخباره.
بأي صفة؟
لا أعرف. ماذا تقترحين؟
هل نزلت الحادثة على النت؟
نعم. قرأت عنها ولكن لايوجد أسماء.
إذهب بصفتك فاعل خير تبحث عن حالات لعلاجها بعد أن سمعت أن هناك حالات حرجة وفقيرة. ستصل حتما إلى ذلك الرجل. لو كان حيا تساعده. لو مات تعطي مبلغا لأهله وتريح ضميرك.
بدأت أخاف منك يا حبيبتي. لهذه الدرجة الأموال تغير النفوس.
قبل أن تخاف مني نريد شراء سيارة متوسطة مستعملة ولكن فاخرة. وسنقول أننا اشتريناها بالتقسيط.
رائع جدا يا حبيبتي. هيا نبحث في سوق المستعمل على النت.
اتفقوا على سيارة دفع رباعي صغيرة بأقل من ثلث ثمنها وحددوا موعدا في اليوم التالي للقائه حيث ستقابله زوجته منتصف اليوم بعد أن تحول مبلغ عشرة آلاف دولار وخمسة آلاف يورو من أماكن مختلفة تكفي لإحداث إنفراجة في حياتهم وفي نفس الوقت لا تلفت انتباه أحد.
وصل إلى قسم الشرطة التابع له الحادث فوجد السيارات المحطمة أمامه ومنها ماتبقى من سيارة ذلك الرجل. دخل يسأل أمين الشرطة عن مصابي الحادث وأخبره أنه يبحث عن قريب له مفقود. أطلعه الأمين على الأسماء المعروفة. ثم أخبره أن هناك جثث مجهولة ومصاب مجهول بين الحياة والموت. طلب مشاهدته. أعطاه عنوان مستشفى العاصمة الرئيسي الذي نقلوه إليه مع الحالات الحرجة.
وصل متلهفا إلى المستشفى، استعرض الحالات المجهولة حتى وصل إليه، إنه هو، جسده كله وجزء من رأسه ملفوف بالضمادات وجبس الكسور، سأل الطبيب عن حالته فأخبره أنه يصارع الموت بسبب خطورة إصاباته خاصة في الرأس، لكنه استطاع أن يكتب رقم هاتف وقد حضرت أسرته منذ قليل.
ارتبك نادر بشدة، هل أخبر عنه؟ هل سيتعرف عليه حين يراه، لا يهم، لو أرد المال سأعطيه له.. كلا، لا يمكن، هذا المال بالتأكيد لا يخصه، ربما كان لصاحب عمله أوأي شخص آخر، ماذا سيستفيد لو أبلغ عنه، حادثة وحرقت بعض السيارات من الطبيعي أن يفقد المال، لن يحاسبه أحد.
عاد من سرحته على صوت يسأله عمن يكون، أجاب لا إراديا أنه شاهد الحادث ويمر على المصابين للإطمئنان، انهارت المرأة في البكاء ومعها طفلين صغيرين. هدأ من روعها وسألها عن سبب بكائها.
- وحوش، أنذال، بعد خدمة أكثر من 15 سنة في الشركة يرفضون نقله إلى مستشفى أفضل، سيتحمل تأمينهم ربع قيمة العلاج، وقد أخبرني الطبيب بضرورة سفره للخارج بعد استقرار حالته، رغم أنه كان في مهمة رسمية لنقل أوراق إلى فرع العاصمة، راتبه بالكاد يكفينا، والسيارة كما سمعت انتهت تماما، مازال عليها أقساط، لقد انهارت حياتنا تماما.
ابتسم نادر سريعا، يستحقون ألا تعود الأموال إليهم، الأنذال.
- اسمعي يا سيدتي، لا تقلقي، أنا معكم حتى النهاية، سأتزاصل مع إدارة المستشفى وأعرف أين يمكن أن يسافر ونحجز له.
نظرت له طويلا ثم سألته:
- ومن أنت بالضبط؟
- لا أحد، مجرد فاعل خير.
- يستحق ماهر أن يسخر له اله من يساعده، كان ملتزما ويساعد الناس كلما استطاع، لا يضيع الخير أبدا.
أحس نادر براحة في الضمير، ترك لها رقم هاتفه وطلب منها أن توافيه بالطلبات وسيرافقها في كل الخطوات حتى السفر، أخذت تدعو له والدموع تتفجر من عينيها، مر على إدارة المستشفى وطلب منها أن تساعد الزوجة على إنهاء إجراءات سفره للعلاج في الخارج.
أخبر نادر زوجته بما حدث وهو عائد في الطريق، أكدت على مشاعره الإيجابية وأن مثل أولئك الأنذال لا يستحقون عودة الأموال إليهم، ثم بشرته أنها أنهت إجراءات شراء السيارة وبسعر خيالي، وكتبتها باسمها كما اتفقا.
انتهت إجراءات السفر سريعا، قدرت تكاليف العلاج بربع مليون دولار، أعطاها جزءا من المبلغ وأخبرها أنه سيدفع فواتير العلاج أولا بأول، كان مرتاحا مع زوجته وهم يصرفون بحذر من المال حتى لا يلفتوا انتباه أحد، بعد عام تحسنت كثيرا حالة ماهر ولكنه احتاج أن ينتقل إلى دولة أخرى لاستكمال العلاج الطبيعي، فوجئ بأن تكاليف العلاج الطبيعي لن تقل عن مائتي ألف دولار، أذهله المبلغ، فهو المتبقي تقريبا معهم، ولكنه لم يستطع أن يتوقف رغم إلحاح زوجته، استمر في تمويل الرحلة التي استمرت لستة أشهر أخرى، أخيرا استطاع ماهر الوقوف على قدميه والتحدث، كان كل أمله في الحياة كما قالت زوجته لقاء ذلك المتبرع الذي وهبهم ذلك المبلغ الضخم ليستعيد صحته.
استقبل نادر وزوجته ماهر وزوجته في المطار، كان التوتر يغلب على الطرفين، خاصة بعد أن تمكن ماهر من الحصول على عمل بمؤهله المحاسبي في المجمع الطبي الاستشفائي الذي كان فيه براتب كبير.
ما أن رأى ماهر نادر حتى صرخ:
- عرفتك.
وقع قلب نادر في قدميه، سيبلغ عنه بعد كل ما حدث، سيفضحه؟!
لكنه فوجئ بماهر ينكب على يده يبكي:
- لا أعرف كيف أشكرك، أنقذتني مرتين، كنت أنظر إليك وأنا مسحوق داخل سيارتي وكأنك ملاك قادم من السماء، ثم تكمل جميلك وتصرف قرابة النصف مليون دولار لعلاجي، سأدعو لك في صلواتي أن يجازيك خيرا عنا.
ابتسم نادر ثم سأله مباشرة:
- هل كنت تنقل أموالا في سيارتك يا سيد ماهر؟
- لا يا سيدي، كنت أنقل أوراقا للفرع الرئيسي ورغم ذلك طردوني بعد أن صرفوا لي مبلغا صغيرا جدا بحجة أنني لم أعد صالحا للعمل، لكن عوضني الله بك ثم بوظيفتي الجديدة، سنهاجر ونترك كل شيء خلفنا، لكني لن أنساك أبدا.
نظر نادر لزوجته، ثم انفجرا في ضحك هيستيري.
إيهاب بديوي
كان المشهد مروعا، سيارات متعددة اصطدمت معا، يزيد من هول الموقف وجود سيارات كبيرة قد دهست سيارات صغيرة حتى ساوتها بالأرض، من المؤكد أن من بها قد فارق الحياة.
وقف نادر بعيدا يترقب الموقف مجبرا بعد أن توقف الطريق تماما ونزل سائق سيارة الباص الذي كان يركبه للمساعدة، قلبه لا يحتمل منظر الدماء، لكنه فتح كاميرا هاتفه لتسجيل الموقف، بينما يتأمل بتقريب الصورة وتركيزها على الجهود الهائلة التي يبذلها الجميع لإنقاذ من يمكن إنقاذه، لاحظ حقيبة جلدية مفتوحة جزئيا تحت إحدى السيارات، دقق النظر في الكاميرا فإذا بعملات نقدية، أصابته الدهشة وبدأ صراع عنيف في داخله، لكنه تحرك لا إراديا ناحية السيارة المسحوقة، سار بهدوء بجانبها ثم جلس على ركبتيه كأنه يبحث عن ناجين وأخذ الحقيبة، قبل أن يتحرك مبتعدا أرعبته يد تمسك في تلابيبه، التفت ليرى أكثر مناظر حياته رعبا وبشاعة. شخص ما داخل السيارة تغطيه الدماء ورأسه مفتوحة تبدو منها أجزاء من مخه، ويبد أنه محاصر داخل السيارة الراضخة تحت سيارة نقل عملاقة تجثم فوقها.
تجمدت أطرافه للحظات، ثم خلص نفسه وهو يصرخ طالبا النجدة لوجود شخص على قيد الحياة، تجمع الكثيرون حول السيارة وجاءت فرق الإنقاذ التي التي كانت تحاول مع سيارة أخرى فلا يبدو من منظر هذه السيارة أنه ممكن أن يكون بها أحياء.
انسحب هو بالحقيبة الجلدية في هدوء مستغلا الهرج والمرج، وقد لاحظ تعلق عيون ذلك الرجل المسحوق به، لا يمكن أن يعيش. هكذا ردد بينه وبين نفسه بعد أن فتح الحقيبة ليلقي نظرة سريعة، فإذا بها ممتلئة باليورو والدولارات.
ملايين بين يديه، سرت الرعشة في جميع أجزاء جسده، توقف عقله عن العمل، جلس على قارعة الطريق يحتضن الحقيبة بشوق ولهفة، لاحظ ازدياد وصول سيارات الشرطة لضخامة الحادث، عاد يراقب الموقف، لم يجد الرجل الذي كان في تلك السيارة، يبدو أنهم نجحوا في استخراجه..
إنه ميت لا محالة، حدث نفسه مرة أخرى وهو يعبر الطريق إلى الجهة الأخرى عائدا إلى منزله، اتصل بالعمل يطلب إجازة عاجلة لإصابته في حادث، ركب أول سيارة عائدة إلى مدينته التي تبعد أكثر من مائة كيلومتر، طوال الطريق رأسه تعمل، ماذا سيفعل؟ ماذا سيقول لزوجته؟ كيف سيتعامل مع هذه الثروة؟
والأهم: هل يعيدها لأصحابها؟ ربما كانت أموالا مسروقة أو حصيلة بيع مخدرات أو رشوة. ولكن، هل يبرر أي من هذا مثل الفعل؟ ولكن لو تركتها لأخذها غيري؟
وما يدريك أن الذي كان سيجدها لن يسلمها للشرطة؟
لا يمكن. كل الناس محتاجة؟
ورغم هذا أكثر الناس شرفاء لا يسرقون.
ولكن الرجل سيموت ولن يستفيد من هذه الأموال؟
وما دخلك أنت؟ لابد أن له عائلة هي أولى بأمواله.
قضي الأمر الآن، لن أعود ولن أسلمها، سيتهموني بسرقته، أطبق على الحقيبة بيد من حديد.
وصل إلى المنزل مضطربا، أحكم إغلاق باب الشقة من الداخل تحسبا لحضور زوجته من عملها أو أولاده من المدرسة مبكرا، وضع غنيمته أمامه وأخذ يتأمل فيها، كلما اقترب منها ظهرت له نظرة ذلك الرجل تلتهمه وتهاجمه بعنف، أحضر غطاءا صغيرا وفرده على الأرض ثم ألقى الأموال فوقه وبدأ في عدها..
لم يشعر بالساعتين اللتين مرتا وهو يحصي النصف مليون دولار في خمسين رزمة وبضعة رزم من اليورو والدينار وغيرها.. يبدو أنه تاجر عملة، يتاجر باقتصاد البلد ويحقق مكاسب من حرام.
حلال الغنيمة إذن..
تهللت أساريره وأخذ يقفز كالمجنون. فوجئ بأحد ما يحاول فتح باب الشقة، ارتبك بشدة وحاول جمع الأموال بسرعة، ولكنه سمع زوجته تصرخ فيه أن يفتح الباب قبل أن تكسره. اضطر إلى فتحه فدخلت مسرعة غاضبة تبحث في أرجاء الشقة عن العاهرة التي يخفيها، فهي تعلم أنه لا يعود من سفرياته إلا متأخرا، جلس في منتصف الصالة ينتظر أن تكتشف العاهرة الأكثر إغراءا القابعة عند قدميه.
خرجت والشك يقتلها تسأله عن سر عودته المبكرة. أخيرا لاحظت حقيبة الأموال المفتوحة، أصابها الذهول للحظات ثم جلست إلى جواره تتأملها.
بعد أن هدأت قليلا عاودت سؤاله: لم أكن أعلم أنك تتاجر في المخدرات؟ أم تراك عضو عصابة كبيرة لسرقة البنوك؟ أخبرني قبل أن أجن، ولا تقل لي أنك ورثتها عن المرحوم خالك المهاجر طول العمر لأنني لن أصدق.
ابتسم في هدوء، ثم روى لها تفاصيل ما حدث، لم تستوعب الموقف.
نظرت له مطولا: أنت الهادئ المسالم طوال حياتك تسرق من رجل يحتضر في هذا الموقف الرهيب؟ أنت يا نادر؟
فوجئت به يبكي: لا أعلم مالذي حدث، بلادة غريبة أصابتني فلم أساعد في إنقاذ الناس، بل شغلت الكاميرا، آه، هذه اللعينة، عين الشيطان، لولاها ما رأيت الحقيبة، ولكنها كانت ملقاة على الأرض. ربما لم تكن تخصه أصلا؟
لكن كيف وقد وجدتها أسفل سيارته.. أيضا هناك شيء غير منطقي؟ السيارة كانت من ماركة رخيصة وموديل قديم أيضا لا توحي أبدا بوجود مثل هذا المبلغ فيها..
صمتت الزوجة قليلا ثم عقبت عليه: الموضوع كبير. ربما كانت السيارة غطاءا، عليك الآن التخلص من الحقيبة، سألها متعجبا عن السبب فأتبعت: ربما كان بها جهاز تعقب يا عبقري، أيضا يجب أن نتفحص الأموال جيدا ونتأكد أنها غير مزورة، اسمع سآخذ ورقة من كل عملة وأذهب إلى بنك متأخر أو مكتب صرافة وأرى. بينما تذهب أنت بالحقيبة إلى مكان بعيد وتحرقها، واحرص على حرقها.
ابتسم يسألها عن هذا الحس الإجرامي الغريب.
ابتسمت له وهي تشاركه فحص الأموال تؤكد له أن هذا من فوائد قراءة القصص البوليسية التي لا يحبها.
فعل ما طلبت منه تماما. اتصلت به وأخبرته أن النقود سليمة وغير مرتبة فيما يبدو أنا أموال سوق. التقيا مرة أخرى في المنزل بعد عودة الأولاد. في نهاية الليلة استشارها أن يودعوا الأموال في اليوم التالي في أحد البنوك. ابتسمت له ساخرة: ساذج. لو كانت هذه أموال عصابات أو مخدرات أو تجار عملة لابد أن يراقبوا معاملات البنوك بحثا عن إيداعات تقترب من مالهم. ياحبيبي لابد أن تختفي هذه الأموال نهائيا ولا نصرفها إلا بمعدلات قليلة.
أنت داهية يا حبيبتي. وأنا الذي كنت أظنك ساذجة وسطحية.
لايعرف الرجال قيمة النساء أبدا يا حبيبي.
ولكن هناك شيء لابد أن أفعله قبل أي شيء.
ما هو يا عبقري.
لابد أن أطمئن على صاحب النقود أو ناقلها أيا كان.
عندك حق. ولكن كيف؟
سأذهب غدا إلى مركز تجميع سيارات الحوادث على الطريق وأسأل عن صاحب تلك السيارة وأتتبع أخباره.
بأي صفة؟
لا أعرف. ماذا تقترحين؟
هل نزلت الحادثة على النت؟
نعم. قرأت عنها ولكن لايوجد أسماء.
إذهب بصفتك فاعل خير تبحث عن حالات لعلاجها بعد أن سمعت أن هناك حالات حرجة وفقيرة. ستصل حتما إلى ذلك الرجل. لو كان حيا تساعده. لو مات تعطي مبلغا لأهله وتريح ضميرك.
بدأت أخاف منك يا حبيبتي. لهذه الدرجة الأموال تغير النفوس.
قبل أن تخاف مني نريد شراء سيارة متوسطة مستعملة ولكن فاخرة. وسنقول أننا اشتريناها بالتقسيط.
رائع جدا يا حبيبتي. هيا نبحث في سوق المستعمل على النت.
اتفقوا على سيارة دفع رباعي صغيرة بأقل من ثلث ثمنها وحددوا موعدا في اليوم التالي للقائه حيث ستقابله زوجته منتصف اليوم بعد أن تحول مبلغ عشرة آلاف دولار وخمسة آلاف يورو من أماكن مختلفة تكفي لإحداث إنفراجة في حياتهم وفي نفس الوقت لا تلفت انتباه أحد.
وصل إلى قسم الشرطة التابع له الحادث فوجد السيارات المحطمة أمامه ومنها ماتبقى من سيارة ذلك الرجل. دخل يسأل أمين الشرطة عن مصابي الحادث وأخبره أنه يبحث عن قريب له مفقود. أطلعه الأمين على الأسماء المعروفة. ثم أخبره أن هناك جثث مجهولة ومصاب مجهول بين الحياة والموت. طلب مشاهدته. أعطاه عنوان مستشفى العاصمة الرئيسي الذي نقلوه إليه مع الحالات الحرجة.
وصل متلهفا إلى المستشفى، استعرض الحالات المجهولة حتى وصل إليه، إنه هو، جسده كله وجزء من رأسه ملفوف بالضمادات وجبس الكسور، سأل الطبيب عن حالته فأخبره أنه يصارع الموت بسبب خطورة إصاباته خاصة في الرأس، لكنه استطاع أن يكتب رقم هاتف وقد حضرت أسرته منذ قليل.
ارتبك نادر بشدة، هل أخبر عنه؟ هل سيتعرف عليه حين يراه، لا يهم، لو أرد المال سأعطيه له.. كلا، لا يمكن، هذا المال بالتأكيد لا يخصه، ربما كان لصاحب عمله أوأي شخص آخر، ماذا سيستفيد لو أبلغ عنه، حادثة وحرقت بعض السيارات من الطبيعي أن يفقد المال، لن يحاسبه أحد.
عاد من سرحته على صوت يسأله عمن يكون، أجاب لا إراديا أنه شاهد الحادث ويمر على المصابين للإطمئنان، انهارت المرأة في البكاء ومعها طفلين صغيرين. هدأ من روعها وسألها عن سبب بكائها.
- وحوش، أنذال، بعد خدمة أكثر من 15 سنة في الشركة يرفضون نقله إلى مستشفى أفضل، سيتحمل تأمينهم ربع قيمة العلاج، وقد أخبرني الطبيب بضرورة سفره للخارج بعد استقرار حالته، رغم أنه كان في مهمة رسمية لنقل أوراق إلى فرع العاصمة، راتبه بالكاد يكفينا، والسيارة كما سمعت انتهت تماما، مازال عليها أقساط، لقد انهارت حياتنا تماما.
ابتسم نادر سريعا، يستحقون ألا تعود الأموال إليهم، الأنذال.
- اسمعي يا سيدتي، لا تقلقي، أنا معكم حتى النهاية، سأتزاصل مع إدارة المستشفى وأعرف أين يمكن أن يسافر ونحجز له.
نظرت له طويلا ثم سألته:
- ومن أنت بالضبط؟
- لا أحد، مجرد فاعل خير.
- يستحق ماهر أن يسخر له اله من يساعده، كان ملتزما ويساعد الناس كلما استطاع، لا يضيع الخير أبدا.
أحس نادر براحة في الضمير، ترك لها رقم هاتفه وطلب منها أن توافيه بالطلبات وسيرافقها في كل الخطوات حتى السفر، أخذت تدعو له والدموع تتفجر من عينيها، مر على إدارة المستشفى وطلب منها أن تساعد الزوجة على إنهاء إجراءات سفره للعلاج في الخارج.
أخبر نادر زوجته بما حدث وهو عائد في الطريق، أكدت على مشاعره الإيجابية وأن مثل أولئك الأنذال لا يستحقون عودة الأموال إليهم، ثم بشرته أنها أنهت إجراءات شراء السيارة وبسعر خيالي، وكتبتها باسمها كما اتفقا.
انتهت إجراءات السفر سريعا، قدرت تكاليف العلاج بربع مليون دولار، أعطاها جزءا من المبلغ وأخبرها أنه سيدفع فواتير العلاج أولا بأول، كان مرتاحا مع زوجته وهم يصرفون بحذر من المال حتى لا يلفتوا انتباه أحد، بعد عام تحسنت كثيرا حالة ماهر ولكنه احتاج أن ينتقل إلى دولة أخرى لاستكمال العلاج الطبيعي، فوجئ بأن تكاليف العلاج الطبيعي لن تقل عن مائتي ألف دولار، أذهله المبلغ، فهو المتبقي تقريبا معهم، ولكنه لم يستطع أن يتوقف رغم إلحاح زوجته، استمر في تمويل الرحلة التي استمرت لستة أشهر أخرى، أخيرا استطاع ماهر الوقوف على قدميه والتحدث، كان كل أمله في الحياة كما قالت زوجته لقاء ذلك المتبرع الذي وهبهم ذلك المبلغ الضخم ليستعيد صحته.
استقبل نادر وزوجته ماهر وزوجته في المطار، كان التوتر يغلب على الطرفين، خاصة بعد أن تمكن ماهر من الحصول على عمل بمؤهله المحاسبي في المجمع الطبي الاستشفائي الذي كان فيه براتب كبير.
ما أن رأى ماهر نادر حتى صرخ:
- عرفتك.
وقع قلب نادر في قدميه، سيبلغ عنه بعد كل ما حدث، سيفضحه؟!
لكنه فوجئ بماهر ينكب على يده يبكي:
- لا أعرف كيف أشكرك، أنقذتني مرتين، كنت أنظر إليك وأنا مسحوق داخل سيارتي وكأنك ملاك قادم من السماء، ثم تكمل جميلك وتصرف قرابة النصف مليون دولار لعلاجي، سأدعو لك في صلواتي أن يجازيك خيرا عنا.
ابتسم نادر ثم سأله مباشرة:
- هل كنت تنقل أموالا في سيارتك يا سيد ماهر؟
- لا يا سيدي، كنت أنقل أوراقا للفرع الرئيسي ورغم ذلك طردوني بعد أن صرفوا لي مبلغا صغيرا جدا بحجة أنني لم أعد صالحا للعمل، لكن عوضني الله بك ثم بوظيفتي الجديدة، سنهاجر ونترك كل شيء خلفنا، لكني لن أنساك أبدا.
نظر نادر لزوجته، ثم انفجرا في ضحك هيستيري.
إيهاب بديوي