لحظات مضيئة
هناك أحلام و أماني دائماً يعيش عليها الإنسان، و كلما حقق شيئاً منها تدفقت أحلام و أماني أخرى تفوق ما تحقق منها. هكذا الإنسان دائماً لا تنتهي أحلامه، و لا تنضب أمانيه؛ لأن هذه الأحلام و الأماني مرتبطة بوجوده و من أجل استمراريته في الحياة، و متعلقة بمساحة فكره و عمقه و نضوج وعيه و ثقافته، و كلما نضجت هذه الأشياء عنده كلما كانت أمانيه و أحلامه أكثر صعوبة، و تفاصيلها تتعدى الواقع أو ربما تصبح مخالفة للزمن، أو قد تتعداها الزمن.
و (غنوة) المرأة التي سحرت و أثّرت قلوب كثيرة و هام بعشقها عدد كبير ممن التقتهم في مشوارها الحياتي من مختلف المستويات و كثير من الشعراء الذين كانت لهم مصدر إلهام و منبعاً للإبداع. و كم من قصائد كتبت لها من عشاقها الذين تغزلوا بعيونها، ووصفوا سحر هذه العيون و تفاصيل جمالها، و حسرتهم على لحظة يتمنون أن يقضوها بقربها و معها، و رغم كل هذا لم تجد فارس أحلامها، و لم يستطع أحد منهم العثور على مفتاح قلبها و الدخول إليه، فقلبها بحر عميق الغور، يحتاج إلى غوّاص ماهر كي يصل إلى عمق غورها، فعواطفها كالصخر في تصلبه و قسوته لا يلين بسهولة، و عقلها يعمل على مدار الساعة لا يتوقف، لذا لا يخضع لضغوط عاطفية أو إغراءات حياتية، فهي لها فلسفتها الخاصة بالحب، و منطق لا تحيد عنه، لذا بدأ كل من يراها و تطاله نار عشقها و لهيب هواها يخاف الاقتراب منها، مما عرف و سمع عن صلابتها، و لكن رغم هذا الحذر و الخوف على مصير قلوبهم معها لم ينجحوا في قراراتهم بالبعد عنها، و يمنون النفس ربما ببصيص أمل قائلين: ربما تلين يوماً ما، أو ترحم عذاب الوجدان و لوعة الروح، أو لسان حالهم يقول: يكفي أن أجلس معها لحظات أو ساعات أروي عيوني من النظر إليها، أشعر و كأنني لمست النجوم بيديّ، ليس المهم أن تبادلني عواطفي، المهم أن أراها من بعيد.
هكذا كان مشوارها الحياتي، هم يستمتعون بمجالستها و النظر إليها، و هي تعاني من كثرة صدهم عنها، هم سعداء وهي تعيسة، بل لم يكن أتعس منها؛ لأنها عندما تنظر إلى هذا الكم الهائل من المحبين و المعجبين ولا تجد ضالتها بينهم يلفها الحزن و يعصرها الحرمان، فتقول: كأنني ولدت في زمن غير زمني؛ لأن هذا الزمان ليس زمن الرجل الحق الذي يحمل مواصفات مميزة تقنعني و تجعلني أحبه، لقد فات زمن الرجل الذي أحلم به، و كل ما أراه أمامي هم أنصاف رجال، ليس بينهم ضالتي التي أبحث عنها.
و هكذا مرّت الأيام و تلتها السنون إلى أن رمى القدر في طريقها رجلاً استطاع أن يوهمها بصفاته التي تبحث عنها، أو هكذا أوهمت نفسها بذلك، من كثرة ما انتظرت فارسها، فأطلقت لقلبها العنان لأن يحب و يعيش الأيام في هذا العالم الساحر، عالم الحب الذي كانت تعيش تفاصيله في روايات الأدب التي تحمل قصص الحب فيها، الآن تعيش على ارض الواقع و هذا ما جعلها تشعر بأنها ولدت من جديد و أن قلبها عاد طفلاً يركض في الحدائق المعطرة بالورود، تنتقل مع الفراشات بين الزهور. بدت الدنيا لها بطعم آخر مختلف عن ذي قبل، كان فارسها شاعراً رقيقاً كنسمة ناعمة تنساب في ليالي الربيع المفرحة، عاشقاً يلهب الوجدان إلى درجة الانصهار، و يعرف كيف يسخر مفردات شعره في عبق عالمها الساحر، فكانت حلمه و كان رجاءها و أملها و أمانيها. كانت الأيام تمضي بها، و شعور السعادة يغلّفه إحساس الخوف من أن يكون حلمها هذا وهماً صنعته مشاعرها المحرومة. و بمرور الشهور القليلة بدأت في كل يوم تكتشف من فارسها أشياء و طباع لا تعجبها و لا تحبها بفارسها، كانت تسبب بينهما خصاماً كثيراً، جعلتها تقف مع نفسها طويلاً و تراجع حساباتها الوجدانية و تلوم نفسها كيف وقعت في هذا المطب، و كان في كل مرة يعتذرلها و يعدها بأن لن يكرر خطأه هذا غير المقصود، و كانت غنوة تهدده إن بقي هكذا أو كرر تصرفاته سيقع بينهما خصام و تأكله نار الفراق فتلهبه لوعة الروح و لهفة الشوق، فيكتب قصائد يصف فيها حالة تلهب الوجدان و تأكل القلب، مستجديا رضاها طالباً مصالحتها، و أحياناً كان يكتب معاتباته و رسائله الشعرية و ينثرها في حب و حمامة سلام فتسامحه و يعودان إلى حبهما، و لكن هل يستطيع المحب التسامح في كل الأمور؟ لا أظن، خاصة إذا كان هذا الأمر يتعلق بحب شيء أقوى من أي حبيب أو بشر، إنه حب الوطن و الأرض.
و عندما هبت رياح ثورة /25/ يناير، حملت معها نهاية هذا الحب و رمته خارج دائرة حياة (غنوة) التي كان قلبها مليئاً بالعطاء و التضحية، و حب لهذا الوطن الكبير الذي خذلها فارسها أمامه، مثلما حمل معه نظام مبارك الفاسد و عصابته و رماهم في مزبلة التاريخ لتبتلعهم قذارة أفعالهم المشينة. كانت ثورة شباب مصر قد حكمت على حبها بالإعدام، كما حكمت على فاسدي النظام بالموت السلطوي و السجون، و قد حدث هذا حين كانت الثورة مشتعلة، و الملايين يطوفون الشوارع في ثورتهم الغاضبة و المئات يموتون بقناصات و قنابل و عربات النظام البائد و (غنوة) كان قلبها يرقص فرحاً لهذه الثورة وروحها تتلوى و تتألم على هؤلاء الشهداء و المصابين، و تعيش أيامها قلقة خائفة على هذه الثورة، محبوسة الأنفاس. كان فارسها ماجد مشغولاً بشيء آخر، وهو سفره إلى النرويج ليكرم على بحث كان قد كتبه، و قد اختير ماجد مع خمسة آخرين من بلاد أجنبية، و كانت فرحته بهذا التكريم تفوق كل ما يدور حوله، و يستعجل السفر، و كان موعد سفره في الثامن و العشرين من يناير، و عندما اندلعت نار الثورة ألغيت الرحلات في مطار القاهرة، و ألغي سفره أو تأجل إلى حين، و كان لهذا التأجيل شيء من الوقع على نفس فارسها ماجد، فاعتزل في بيته و أغلق هاتفه و انقطع عن الاتصال مع الجميع، حتى (غنوة) التي لم تسمع منه اتصالاً أو مكالمة يطمئن فيها عليها في هذه الظروف الصعبة و حالة الفوضى التي عمت البلاد، و البلطجية و الخارجين عن القانون الذين خرجوا من السجون لإشاعة الفوضى و السلب و النهب و القتل والاغتصاب، رغم كل هذه الأمور التي كانت تحدث في البلد، لم يتفقدها هذا الفارس و الحبيب و لم يسأل عنها؛ لأنه كان حزيناً و يتابع الاتصالات مع المسؤولين عن التكريم، عشرة أيام مضت و هو منقطع عن العالم، مغلق هاتفه، لا أحد يعرف عنه شيئاً، ولا هو يسأل عن أحد حتى حبيبته التي فجرت أشعاره و تنغمت بها مفرداته و عصف عشقها بعالمه و غزا حبها فضاءاته ووجدانه، فكان لتصرفه هذا وقع سيئ في نفسها و غضب غضباً شديداً، و لكنها لم تتصل به أو تسأل أو تعاتبه، و لم تعرف عنه شيئاً حتى اتصل بها صديقه الدكتور أشرف و سألها عن أخباره قائلاً لها:
ـ إنني أتصل به كثيراً و لم أستطع العثور عليه؛ لأنه أغلق هاتفه و أنا ليس لي سبيل سوى هذا الهاتف، و أنا قلق عليه بعد أن رجع من المطار لتوقف الرحلات. فقلت لا أحد يعرف أخباره غيرك.
قالت له، و الحزن يغزو صوتها :
ـ و أنا مثلك يا صديقي لا أعرف عنه شيئاً، فهو لم يتصل بي منذ أن عاد من المطار و اخبرني بتوقف الرحلات، و من ساعتها لم يتصل بي و لم أسمع عنه شيئاً.
قال الدكتور أشرف، و هو يحاول تطييب خاطرها بعذر ما:
ـ مؤكد أنه متعب نفسياً من موضوع إلغاء سفره، لذا تجدينه معتكفاً في منزله، فأرجو ألا تغضبي منه أو أن يسبب لك هذا التصرف شيئاً من الحزن.
قالت بشيء من الغضب و الانفعال:
ـ ألا يستحق منه بلده أن يضحي بتأخير سفره إلى أن تنقشع الأمور و يطمئن على حالة البلد و الثورة؟ بل يجب عليه أن يخرج إلى الشارع و يشارك في هذه الانتفاضة الشعبية، أو على أقل تقدير أن يشارك بقلمه، لا أن يحزن على سفره من أجل هذا التكريم، و هل تكريمه أهم من مصر و ما يحدث فيها؟ إنها ثورة مصيرية يا دكتور، و عليه الاهتمام بأمرها و المشاركة فيها، و هذا التكريم لن يهرب منه.
ـ هدئي من روعك ولا تضايقي نفسك، فلا نعرف ما هي ظروفه التي جعلته يتصرف هكذا، فأرجو أن تجدي له بعض العذر، فهو إنسان طيب و رقيق و يحبك كثيراً، و لكن فرحته بالتكريم كانت كبيرة، لذا إلغاء سفره سبب له شيئاً من الصدمة.
ـ مهما يكن من أمر هذا لا يعفيه من عدم الإحساس بالمسؤولية تجاه بلده و مصيرها المهدد، ثم هناك أشخاص كانوا في الخارج و لديهم أعمال فيها كسب ملايين تركوها و عادوا إلى الوطن للمشاركة في هذه الثورة، فما قيمة هذا التكريم؟ و ماذا يعني له؟
ـ اهدئي، اهدئي، سوف أعيد محاولاتي للاتصال به علني أستطيع العثور عليه.
ـ لم يعد يهمني أو يعني لي شيئاً لا هو ولا أخباره.
ـ غنوة، هدئي من روعك ولا تنفعلي هكذا، انتظري حتى أراه و أعرف ما هي ظروفه.
صمتت و لم تجبه، ثم شكرته و أنهت المكالمة و أغلقت الهاتف، و هي تلعن الساعة التي سمحت فيها لعواطفها أن تتعلق به.
بعد يومين رنّ هاتفها و إذا برقم فارسها المغوار يظهر، نظرت إليه ثم أشاحت بوجهها عنه و لم ترد.
بعد هذا الاتصال بعدة أيام جاءها اتصال من الصديق الدكتور أشرف و سألها عن ماجد فقال لها:
ـ ألم يتصل بك؟
ـ بلى، لقد اتصل مرة واحدة و لم أرد عليه، لذا لم أعرف عنه شيئاً.
ـ لماذا يا غنوة؟ ألم أقل لك كلميه و اعرفي سبب اختفائه؟
قالت بعصبية و انفعال:
ـ لا أريد أن أعرف عنه شيئاً.
ـ سامحك الله، لقد كان يريد وداعك؛ لأنه في طريقه إلى المطار.
ـ و هل سافر؟
ـ نعم، سافر يوم اتصل بك.
ـ و كيف عرفت ذلك؟ هل فتح هاتفه؟
ـ أجل، لقد فتحه قبل سفره بيوم واحد، حين تأكدت ساعة سفره، فكلمته و نقلت له عتبك و لمته على تصرفه هذا، فقال إنه كان في حالة نفسية متعبة، فأحب أن يختلي بنفسه طيلة هذه الأيام.
ـ اسمع أيها الصديق، إن الرجل الذي لا يشعر بمسؤوليته و إحساسه و انتمائه إلى بلده ليس برجل، و لا يقنع امرأة مثلي، فتكريمه هذا ليس أهم من بلده الذي يمر بأيام عصيبة وتاريخية و مصيرية، و هي أهم من أي شيء في الدنيا، و هذا التكريم لن يصنع له مجداً، فهو مبدع و متميز في كتاباته و أبحاثه، و لن يضيف له هذا التكريم شيئاً، ثم هناك شيء اسمه سفارة تنوب عنه في مثل هذه الظروف و تستطيع أن تتسلم تكريمه هذا. لقد سئمت منه و من تصرفاته، و سوف أنهي وضعي معه وافسخ الخطوبة فور عودته؛ لأنه بعد هذا التقصير في حق البلد و عدم اهتمامه لما يحدث، فأنا لم أعرفه هكذا.
ـ غنوة، لا تضخمي الموضوع و تجعلي منه مشكلة بينكما، إنها حالة طارئة ولا أظنه غير وطني أو غير محب إلى بلده أو غير مبالٍ بما يحدث كما تقولين.
ـ بل هو إنسان عديم الإحساس الوطني و غير محب لبلده، و هو رجل أناني لا يحب سوى نجاحاته و نفسه، و أنا لا أحب الرجل الذي يكون من هذا النوع، فكل ما فعله معي من تقصير بكفة، و ما صدر عنه تجاه بلده بكفة أخرى، قد أسامحه عن نفسي، لكن لا أستطيع أن أسامحه عن تقصيره بحق الوطن.
حاول إقناعها و ثنيها عن قرارها هذا إلا أنها ظلت على تصميمها، و النار تأكل نفسها وروحها إلى أن عاد.
و عندما اتصل بها ردت عليه و بادرته بالقول:
ـ مبارك عليك التكريم الذي حصلت به على صك تحرير فلسطين، مبارك كل هذا العرش الذي توّجوك به و الذي يستحق أن تضحي بألف بلد من أجله، لقد عدت بعد انتصار الثورة و خلع جذور فرعون القرن العشرين الذي دمر هذا الشعب و البلد، و أنت حصلت على جائزتك و تكريمك، و قد سعدت في تجوالك و سياحتك طيلة شهر، و العالم هنا تموت، و أنت و كأنك لست من هذه البلدة، يا لك من رجل نرجسي و أناني. اسمع يا دكتور ماجد، أنا لن أعاتبك على تقصيرك معي و عدم اتصالك بي خلال هذه الظروف ولا عن أي شيء يخصني؛ لأنني لست شيئاً أمام امن و أمان البلد ولا أغلى منها و من حريتها و تحررها و استقرارها، و قد أسامحك عن هذا الشيء الذي يخصني، و لكنني لن أغفر لك و أسامحك عن تقصيرك بحق بلدك؛ لأنه فوق كل شيء، ثم إن الإنسان يا عزيزي هو موقف و مبدأ و رجولة، لو كنت اعتذرت لهم عن عدم سفرك لكانوا احترموك و قدّروك أكثر، كان يجب أن تعتذر و ترفض السفر، و بلدك يمر بهذه الظروف القاسية، و تقول لهم هذا.
كانت تطلق كلماتها بسرعة و اندفاع، و لم تدع له فرصة الدفاع عن نفسه، و أردفت قائلة:
ـ أنا لا يرضيني أنصاف الرجال.
و هنا ارتفع صوته، و هو يقول:
ـ غنوة، لا تكوني قاسية إلى هذه الدرجة، ثم أنا لست جباناً أو عديم الشعور بالمسؤولية تجاه بلدي، و إنما هذا ظرف طارئ، ثم ماذا سيغير وجودي أو عدمه في هذه الأحداث؟ سواء أكنت هنا أم مسافراً فالوضع هو هو.
ـ بهتكم الله، يا لك من حكيم في نظرياتك، لو كل رجل قال هذا الكلام و كل فرد من الشعب تعامل مع الموقف من هذا المنطلق فلن تجد فرداً يقف في ساحة التحرير، و الثورة ستعدم قبل ولادتها.
ـ غنوة، لا تكوني قاضياً ظالماً و تحكمي علي بالإعدام، كل ما في الأمر هو أنني كنت فرحاً بهذا التكريم، و لم احسبها هكذا.
ـ حسناً يا دكتور، منذ هذه اللحظة انسَ اسمي ووجودي، فانا عندما أحب فيجب أن يكون من أحبه على درجة عالية من الروح الوطنية و القومية، و يكون كل عطائه لبلده، و ليس إنساناً مطبوعاً على الأنانية، إنك رجل نرجسي و أناني لا تحب غير نفسك و نجاحاتك، و عندما ربطت عواطفي معك لم أكن أعرف عنك هذا، و بعد أن عرفتك جيداً، هذا آخر عهد بيني و بينك، و انتهت الرابطة بيننا.
حاول كثيراً أن يغير موقفها و أن يقنعها إلا أنها لم تتراجع عن قرارها.
و هكذا انتهت قصة حبها التي حملتها رياح الثورة، و كأن هذه الثورة جاءت لتحمل معها كل ما هو خطأ. و راحت غنوة تحاول نسيانه، وقد عذبها هذا النسيان؛ لأن هذا المحب كان قد تجذّر في أعماقها ووجدانها، فكان اقتلاعه قاسياً و صعباً، و لكن يجب أن تقتلعه و ترميه خارج دائرة حياتها؛ لأنها لم تتعود أن يهزمها شيء مهما كان قوياً،
الكاتبة وليدة عتو
هناك أحلام و أماني دائماً يعيش عليها الإنسان، و كلما حقق شيئاً منها تدفقت أحلام و أماني أخرى تفوق ما تحقق منها. هكذا الإنسان دائماً لا تنتهي أحلامه، و لا تنضب أمانيه؛ لأن هذه الأحلام و الأماني مرتبطة بوجوده و من أجل استمراريته في الحياة، و متعلقة بمساحة فكره و عمقه و نضوج وعيه و ثقافته، و كلما نضجت هذه الأشياء عنده كلما كانت أمانيه و أحلامه أكثر صعوبة، و تفاصيلها تتعدى الواقع أو ربما تصبح مخالفة للزمن، أو قد تتعداها الزمن.
و (غنوة) المرأة التي سحرت و أثّرت قلوب كثيرة و هام بعشقها عدد كبير ممن التقتهم في مشوارها الحياتي من مختلف المستويات و كثير من الشعراء الذين كانت لهم مصدر إلهام و منبعاً للإبداع. و كم من قصائد كتبت لها من عشاقها الذين تغزلوا بعيونها، ووصفوا سحر هذه العيون و تفاصيل جمالها، و حسرتهم على لحظة يتمنون أن يقضوها بقربها و معها، و رغم كل هذا لم تجد فارس أحلامها، و لم يستطع أحد منهم العثور على مفتاح قلبها و الدخول إليه، فقلبها بحر عميق الغور، يحتاج إلى غوّاص ماهر كي يصل إلى عمق غورها، فعواطفها كالصخر في تصلبه و قسوته لا يلين بسهولة، و عقلها يعمل على مدار الساعة لا يتوقف، لذا لا يخضع لضغوط عاطفية أو إغراءات حياتية، فهي لها فلسفتها الخاصة بالحب، و منطق لا تحيد عنه، لذا بدأ كل من يراها و تطاله نار عشقها و لهيب هواها يخاف الاقتراب منها، مما عرف و سمع عن صلابتها، و لكن رغم هذا الحذر و الخوف على مصير قلوبهم معها لم ينجحوا في قراراتهم بالبعد عنها، و يمنون النفس ربما ببصيص أمل قائلين: ربما تلين يوماً ما، أو ترحم عذاب الوجدان و لوعة الروح، أو لسان حالهم يقول: يكفي أن أجلس معها لحظات أو ساعات أروي عيوني من النظر إليها، أشعر و كأنني لمست النجوم بيديّ، ليس المهم أن تبادلني عواطفي، المهم أن أراها من بعيد.
هكذا كان مشوارها الحياتي، هم يستمتعون بمجالستها و النظر إليها، و هي تعاني من كثرة صدهم عنها، هم سعداء وهي تعيسة، بل لم يكن أتعس منها؛ لأنها عندما تنظر إلى هذا الكم الهائل من المحبين و المعجبين ولا تجد ضالتها بينهم يلفها الحزن و يعصرها الحرمان، فتقول: كأنني ولدت في زمن غير زمني؛ لأن هذا الزمان ليس زمن الرجل الحق الذي يحمل مواصفات مميزة تقنعني و تجعلني أحبه، لقد فات زمن الرجل الذي أحلم به، و كل ما أراه أمامي هم أنصاف رجال، ليس بينهم ضالتي التي أبحث عنها.
و هكذا مرّت الأيام و تلتها السنون إلى أن رمى القدر في طريقها رجلاً استطاع أن يوهمها بصفاته التي تبحث عنها، أو هكذا أوهمت نفسها بذلك، من كثرة ما انتظرت فارسها، فأطلقت لقلبها العنان لأن يحب و يعيش الأيام في هذا العالم الساحر، عالم الحب الذي كانت تعيش تفاصيله في روايات الأدب التي تحمل قصص الحب فيها، الآن تعيش على ارض الواقع و هذا ما جعلها تشعر بأنها ولدت من جديد و أن قلبها عاد طفلاً يركض في الحدائق المعطرة بالورود، تنتقل مع الفراشات بين الزهور. بدت الدنيا لها بطعم آخر مختلف عن ذي قبل، كان فارسها شاعراً رقيقاً كنسمة ناعمة تنساب في ليالي الربيع المفرحة، عاشقاً يلهب الوجدان إلى درجة الانصهار، و يعرف كيف يسخر مفردات شعره في عبق عالمها الساحر، فكانت حلمه و كان رجاءها و أملها و أمانيها. كانت الأيام تمضي بها، و شعور السعادة يغلّفه إحساس الخوف من أن يكون حلمها هذا وهماً صنعته مشاعرها المحرومة. و بمرور الشهور القليلة بدأت في كل يوم تكتشف من فارسها أشياء و طباع لا تعجبها و لا تحبها بفارسها، كانت تسبب بينهما خصاماً كثيراً، جعلتها تقف مع نفسها طويلاً و تراجع حساباتها الوجدانية و تلوم نفسها كيف وقعت في هذا المطب، و كان في كل مرة يعتذرلها و يعدها بأن لن يكرر خطأه هذا غير المقصود، و كانت غنوة تهدده إن بقي هكذا أو كرر تصرفاته سيقع بينهما خصام و تأكله نار الفراق فتلهبه لوعة الروح و لهفة الشوق، فيكتب قصائد يصف فيها حالة تلهب الوجدان و تأكل القلب، مستجديا رضاها طالباً مصالحتها، و أحياناً كان يكتب معاتباته و رسائله الشعرية و ينثرها في حب و حمامة سلام فتسامحه و يعودان إلى حبهما، و لكن هل يستطيع المحب التسامح في كل الأمور؟ لا أظن، خاصة إذا كان هذا الأمر يتعلق بحب شيء أقوى من أي حبيب أو بشر، إنه حب الوطن و الأرض.
و عندما هبت رياح ثورة /25/ يناير، حملت معها نهاية هذا الحب و رمته خارج دائرة حياة (غنوة) التي كان قلبها مليئاً بالعطاء و التضحية، و حب لهذا الوطن الكبير الذي خذلها فارسها أمامه، مثلما حمل معه نظام مبارك الفاسد و عصابته و رماهم في مزبلة التاريخ لتبتلعهم قذارة أفعالهم المشينة. كانت ثورة شباب مصر قد حكمت على حبها بالإعدام، كما حكمت على فاسدي النظام بالموت السلطوي و السجون، و قد حدث هذا حين كانت الثورة مشتعلة، و الملايين يطوفون الشوارع في ثورتهم الغاضبة و المئات يموتون بقناصات و قنابل و عربات النظام البائد و (غنوة) كان قلبها يرقص فرحاً لهذه الثورة وروحها تتلوى و تتألم على هؤلاء الشهداء و المصابين، و تعيش أيامها قلقة خائفة على هذه الثورة، محبوسة الأنفاس. كان فارسها ماجد مشغولاً بشيء آخر، وهو سفره إلى النرويج ليكرم على بحث كان قد كتبه، و قد اختير ماجد مع خمسة آخرين من بلاد أجنبية، و كانت فرحته بهذا التكريم تفوق كل ما يدور حوله، و يستعجل السفر، و كان موعد سفره في الثامن و العشرين من يناير، و عندما اندلعت نار الثورة ألغيت الرحلات في مطار القاهرة، و ألغي سفره أو تأجل إلى حين، و كان لهذا التأجيل شيء من الوقع على نفس فارسها ماجد، فاعتزل في بيته و أغلق هاتفه و انقطع عن الاتصال مع الجميع، حتى (غنوة) التي لم تسمع منه اتصالاً أو مكالمة يطمئن فيها عليها في هذه الظروف الصعبة و حالة الفوضى التي عمت البلاد، و البلطجية و الخارجين عن القانون الذين خرجوا من السجون لإشاعة الفوضى و السلب و النهب و القتل والاغتصاب، رغم كل هذه الأمور التي كانت تحدث في البلد، لم يتفقدها هذا الفارس و الحبيب و لم يسأل عنها؛ لأنه كان حزيناً و يتابع الاتصالات مع المسؤولين عن التكريم، عشرة أيام مضت و هو منقطع عن العالم، مغلق هاتفه، لا أحد يعرف عنه شيئاً، ولا هو يسأل عن أحد حتى حبيبته التي فجرت أشعاره و تنغمت بها مفرداته و عصف عشقها بعالمه و غزا حبها فضاءاته ووجدانه، فكان لتصرفه هذا وقع سيئ في نفسها و غضب غضباً شديداً، و لكنها لم تتصل به أو تسأل أو تعاتبه، و لم تعرف عنه شيئاً حتى اتصل بها صديقه الدكتور أشرف و سألها عن أخباره قائلاً لها:
ـ إنني أتصل به كثيراً و لم أستطع العثور عليه؛ لأنه أغلق هاتفه و أنا ليس لي سبيل سوى هذا الهاتف، و أنا قلق عليه بعد أن رجع من المطار لتوقف الرحلات. فقلت لا أحد يعرف أخباره غيرك.
قالت له، و الحزن يغزو صوتها :
ـ و أنا مثلك يا صديقي لا أعرف عنه شيئاً، فهو لم يتصل بي منذ أن عاد من المطار و اخبرني بتوقف الرحلات، و من ساعتها لم يتصل بي و لم أسمع عنه شيئاً.
قال الدكتور أشرف، و هو يحاول تطييب خاطرها بعذر ما:
ـ مؤكد أنه متعب نفسياً من موضوع إلغاء سفره، لذا تجدينه معتكفاً في منزله، فأرجو ألا تغضبي منه أو أن يسبب لك هذا التصرف شيئاً من الحزن.
قالت بشيء من الغضب و الانفعال:
ـ ألا يستحق منه بلده أن يضحي بتأخير سفره إلى أن تنقشع الأمور و يطمئن على حالة البلد و الثورة؟ بل يجب عليه أن يخرج إلى الشارع و يشارك في هذه الانتفاضة الشعبية، أو على أقل تقدير أن يشارك بقلمه، لا أن يحزن على سفره من أجل هذا التكريم، و هل تكريمه أهم من مصر و ما يحدث فيها؟ إنها ثورة مصيرية يا دكتور، و عليه الاهتمام بأمرها و المشاركة فيها، و هذا التكريم لن يهرب منه.
ـ هدئي من روعك ولا تضايقي نفسك، فلا نعرف ما هي ظروفه التي جعلته يتصرف هكذا، فأرجو أن تجدي له بعض العذر، فهو إنسان طيب و رقيق و يحبك كثيراً، و لكن فرحته بالتكريم كانت كبيرة، لذا إلغاء سفره سبب له شيئاً من الصدمة.
ـ مهما يكن من أمر هذا لا يعفيه من عدم الإحساس بالمسؤولية تجاه بلده و مصيرها المهدد، ثم هناك أشخاص كانوا في الخارج و لديهم أعمال فيها كسب ملايين تركوها و عادوا إلى الوطن للمشاركة في هذه الثورة، فما قيمة هذا التكريم؟ و ماذا يعني له؟
ـ اهدئي، اهدئي، سوف أعيد محاولاتي للاتصال به علني أستطيع العثور عليه.
ـ لم يعد يهمني أو يعني لي شيئاً لا هو ولا أخباره.
ـ غنوة، هدئي من روعك ولا تنفعلي هكذا، انتظري حتى أراه و أعرف ما هي ظروفه.
صمتت و لم تجبه، ثم شكرته و أنهت المكالمة و أغلقت الهاتف، و هي تلعن الساعة التي سمحت فيها لعواطفها أن تتعلق به.
بعد يومين رنّ هاتفها و إذا برقم فارسها المغوار يظهر، نظرت إليه ثم أشاحت بوجهها عنه و لم ترد.
بعد هذا الاتصال بعدة أيام جاءها اتصال من الصديق الدكتور أشرف و سألها عن ماجد فقال لها:
ـ ألم يتصل بك؟
ـ بلى، لقد اتصل مرة واحدة و لم أرد عليه، لذا لم أعرف عنه شيئاً.
ـ لماذا يا غنوة؟ ألم أقل لك كلميه و اعرفي سبب اختفائه؟
قالت بعصبية و انفعال:
ـ لا أريد أن أعرف عنه شيئاً.
ـ سامحك الله، لقد كان يريد وداعك؛ لأنه في طريقه إلى المطار.
ـ و هل سافر؟
ـ نعم، سافر يوم اتصل بك.
ـ و كيف عرفت ذلك؟ هل فتح هاتفه؟
ـ أجل، لقد فتحه قبل سفره بيوم واحد، حين تأكدت ساعة سفره، فكلمته و نقلت له عتبك و لمته على تصرفه هذا، فقال إنه كان في حالة نفسية متعبة، فأحب أن يختلي بنفسه طيلة هذه الأيام.
ـ اسمع أيها الصديق، إن الرجل الذي لا يشعر بمسؤوليته و إحساسه و انتمائه إلى بلده ليس برجل، و لا يقنع امرأة مثلي، فتكريمه هذا ليس أهم من بلده الذي يمر بأيام عصيبة وتاريخية و مصيرية، و هي أهم من أي شيء في الدنيا، و هذا التكريم لن يصنع له مجداً، فهو مبدع و متميز في كتاباته و أبحاثه، و لن يضيف له هذا التكريم شيئاً، ثم هناك شيء اسمه سفارة تنوب عنه في مثل هذه الظروف و تستطيع أن تتسلم تكريمه هذا. لقد سئمت منه و من تصرفاته، و سوف أنهي وضعي معه وافسخ الخطوبة فور عودته؛ لأنه بعد هذا التقصير في حق البلد و عدم اهتمامه لما يحدث، فأنا لم أعرفه هكذا.
ـ غنوة، لا تضخمي الموضوع و تجعلي منه مشكلة بينكما، إنها حالة طارئة ولا أظنه غير وطني أو غير محب إلى بلده أو غير مبالٍ بما يحدث كما تقولين.
ـ بل هو إنسان عديم الإحساس الوطني و غير محب لبلده، و هو رجل أناني لا يحب سوى نجاحاته و نفسه، و أنا لا أحب الرجل الذي يكون من هذا النوع، فكل ما فعله معي من تقصير بكفة، و ما صدر عنه تجاه بلده بكفة أخرى، قد أسامحه عن نفسي، لكن لا أستطيع أن أسامحه عن تقصيره بحق الوطن.
حاول إقناعها و ثنيها عن قرارها هذا إلا أنها ظلت على تصميمها، و النار تأكل نفسها وروحها إلى أن عاد.
و عندما اتصل بها ردت عليه و بادرته بالقول:
ـ مبارك عليك التكريم الذي حصلت به على صك تحرير فلسطين، مبارك كل هذا العرش الذي توّجوك به و الذي يستحق أن تضحي بألف بلد من أجله، لقد عدت بعد انتصار الثورة و خلع جذور فرعون القرن العشرين الذي دمر هذا الشعب و البلد، و أنت حصلت على جائزتك و تكريمك، و قد سعدت في تجوالك و سياحتك طيلة شهر، و العالم هنا تموت، و أنت و كأنك لست من هذه البلدة، يا لك من رجل نرجسي و أناني. اسمع يا دكتور ماجد، أنا لن أعاتبك على تقصيرك معي و عدم اتصالك بي خلال هذه الظروف ولا عن أي شيء يخصني؛ لأنني لست شيئاً أمام امن و أمان البلد ولا أغلى منها و من حريتها و تحررها و استقرارها، و قد أسامحك عن هذا الشيء الذي يخصني، و لكنني لن أغفر لك و أسامحك عن تقصيرك بحق بلدك؛ لأنه فوق كل شيء، ثم إن الإنسان يا عزيزي هو موقف و مبدأ و رجولة، لو كنت اعتذرت لهم عن عدم سفرك لكانوا احترموك و قدّروك أكثر، كان يجب أن تعتذر و ترفض السفر، و بلدك يمر بهذه الظروف القاسية، و تقول لهم هذا.
كانت تطلق كلماتها بسرعة و اندفاع، و لم تدع له فرصة الدفاع عن نفسه، و أردفت قائلة:
ـ أنا لا يرضيني أنصاف الرجال.
و هنا ارتفع صوته، و هو يقول:
ـ غنوة، لا تكوني قاسية إلى هذه الدرجة، ثم أنا لست جباناً أو عديم الشعور بالمسؤولية تجاه بلدي، و إنما هذا ظرف طارئ، ثم ماذا سيغير وجودي أو عدمه في هذه الأحداث؟ سواء أكنت هنا أم مسافراً فالوضع هو هو.
ـ بهتكم الله، يا لك من حكيم في نظرياتك، لو كل رجل قال هذا الكلام و كل فرد من الشعب تعامل مع الموقف من هذا المنطلق فلن تجد فرداً يقف في ساحة التحرير، و الثورة ستعدم قبل ولادتها.
ـ غنوة، لا تكوني قاضياً ظالماً و تحكمي علي بالإعدام، كل ما في الأمر هو أنني كنت فرحاً بهذا التكريم، و لم احسبها هكذا.
ـ حسناً يا دكتور، منذ هذه اللحظة انسَ اسمي ووجودي، فانا عندما أحب فيجب أن يكون من أحبه على درجة عالية من الروح الوطنية و القومية، و يكون كل عطائه لبلده، و ليس إنساناً مطبوعاً على الأنانية، إنك رجل نرجسي و أناني لا تحب غير نفسك و نجاحاتك، و عندما ربطت عواطفي معك لم أكن أعرف عنك هذا، و بعد أن عرفتك جيداً، هذا آخر عهد بيني و بينك، و انتهت الرابطة بيننا.
حاول كثيراً أن يغير موقفها و أن يقنعها إلا أنها لم تتراجع عن قرارها.
و هكذا انتهت قصة حبها التي حملتها رياح الثورة، و كأن هذه الثورة جاءت لتحمل معها كل ما هو خطأ. و راحت غنوة تحاول نسيانه، وقد عذبها هذا النسيان؛ لأن هذا المحب كان قد تجذّر في أعماقها ووجدانها، فكان اقتلاعه قاسياً و صعباً، و لكن يجب أن تقتلعه و ترميه خارج دائرة حياتها؛ لأنها لم تتعود أن يهزمها شيء مهما كان قوياً،
الكاتبة وليدة عتو