روسيا وإعادة التوازن إلي العالم
محمد قاياتي
بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية بشكل عام ، برزت سياسة القطب الواحد وهيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على توجيه السياسة العالمية وفقا لمصالحها وأهدافها الاستراتيجية ، ما أدي إلي اندلاع بؤر توتر وحروب في مناطق متعددة من العالم وصلت ذروتها بغزو واحتلال أفغانستان والعراق ، ثم انطلاق موجة الاضطرابات الكبرى في المنطقة فيما عرف بـ " الربيع العربي" ، وكانت مراكز الأبحاث الأمريكية والغربية ترى أن سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات العالم ستستمر لحقب قادمة فيما لا يقل عن قرن كامل من الزمان، وظهرت كتابات فوكاياما الذي دشن فكرة نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي بشكل حاسم.
المفأجاة التي احدثت تغيرا استراتيجيا في مسار الهيمنة الأمريكية وأسقطت نظريات التفوق الغربي ، كانت في إستعادة روسيا لمكانتها الدولية والإقليمية بسرعة لم يتوقعها أحد، وذلك بعدما نجحت في لملمة شتات نفسها داخليا وإعادة الانضباط والأمن للشوارع الروسية وإعادة بناء الاقتصاد الروسي الذي كان قد وصل إلي حافة الانهيار ، وبالطبع فإن وجود قاعدة صناعية وإنتاجية ضخمة مكن الدولة الروسية من إعادة ضبط المسار ، فضلا عن توفر الكوادر البشرية في كافة المجالات ، وهي كلها عوامل صنعتها حقبة الاتحاد السوفيتي ، لكن تلك الاستعادة السريعة للدور الروسي ، بل وقدرته على إزاحة الولايات المتحدة من دوائر الصراع الساخنة لم يكن ممكنا دون وجود استراتيجية ورؤية محددة لشكل العالم وخطورة انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على مقدرات البشرية ، وكذلك وجود القيادات القادرة على تنفيذ تلك الاستراتيجية بقدر كبير من القوة والذكاء والمرونة .
دور بوتين :
كان ظهور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على المسرح السياسي الروسي بشكل خاص وعلى المسرح السياسي العالمي بوجه عام تغيرا حاسما في السياسة الدولية وعلاقات روسيا بالعالم ، والقدرة على ضبط مسار الدولة الروسية ومن ثم إعادة الدور الروسي ليكون رقما صعبا في مواجهة الولايات المتحدة والغرب ، فقد لعبت السمات الشخصية لبوتين وقدرته على تقديم نفسه للمواطنين الروس كقائد قوي دورا أساسيا في النجاح الروسي داخليا وخارجيا ، كما كانت قدراته على المناورة والتفاوض والتدخل الحاسم إذا لزم الأمر مفصلا رئيسيا في نجاح السياسات الروسية، ولعل نموذج الأزمة السورية وأزمة القرم تظهران بوضوح فاعلية سياسية المناورة والحسم التي اتبعها بوتين .
أبقى بوتين على الأساليب السوفيتية مثل الاحتفاظ بقوات أمن نافذة والحكم السلطوي المركزي الذي كان الليبراليون يأملون أن يذهب دون رجعة في روسيا المستقلة الجديدة بعد انهيار الحكم السوفيتي.
ويحظى بوتين بشعبية كبيرة بين الروس إذ أعاد إليهم درجة من الثقة بالنفس في بلد بدا على شفير الانهيار في بعض منعطفاته الصعبة خلال تسعينات القرن الماضي. وبالنسبة إلى أنصاره، فإن بوتين يعتبر بمثابة منقذ روسيا الحديثة في حين يرى فيه معارضوه النسخة الأحدث في سلسلة الزعماء الاستبداديين بدءا من إيفان الرهيب ومرورا بستالين.
وقد اظهر تصنيف خاص بمجلة فوربس ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبقى اقوى رجل في العالم للسنة الرابعة على التوالي، متقدما على الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل. واعتبرت المجلة انه "من موطنه وصولا الى سوريا مرورا بالانتخابات الاميركية، لا يزال الرئيس الروسي يحقق غاياته".
دور الدبلوماسية الروسية :
إذا كان ممكنا تقديم جوائز لوزراء الخارجية والدبلوماسيين على غرار جوائز الأوسكار الأمريكية ، فإن جائزة أفضل وزير خارجية ستذهب حتما لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ، كما سيحصل مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين على جائزة الأفضل بين نظرائه في العالم ، فقد لعب الرجلان دورا بارزا في صياغة وتوجيه وتنفيذ السياسات الروسية في العالم بشكل غير مسبوق، خاصة فيما يتعلق بالأزمة السورية التي لعبت فيها الدبلوماسية الروسية دورا حاسما ومحوريا جعل روسيا تعود وبقوة إلي الساحة السياسية العالمية بل ونجحت في إقصاء الولايات المتحدة وحلفاءها من الساحة في الشرق الأوسط.
وعادت قضايا الشرق الاوسط وقضية الدور الروسي فيه لتحتل مكانة مهمة في قائمة اولويات السياسة الخارجية الروسية ،بعدها احد الابواب الرئيسة التي يمكن ان تعيد موسكو الى المنطقة ،بعد ان دمرت سياسات الاصلاحيين الروس الجدد الذين سيطروا على مقاليد السلطة في الكرملين طوال عشرة اعوام (1991- 2000) ،العديد من العلاقات بين روسيا ودول الشرق الاوسط.
عندما تفكك الاتحاد السوفيتي وسيطرت عناصر جديدة على مقاليد السلطة في روسيا ،حدث تغيير واسع حول الرؤية الروسية (عالم الجنوب ) المصدر المهم للنفوذ ،اذ اعتقد القادة الروس الجدد ان العالم ليس في الجنوب ولا في المياه الدافئة ،ولكنه في الغرب والشمال ،حيث تقنية المعلومات والتكنلوجيا المتقدمة التي تمكن روسيا من استخراج النفط المخزون في باطن الارض الروسية والمناطق القريبة منها.
حرب عالمية على الإرهاب
ووفقا لدواجين مؤلف كتاب مستقبل الجغرافيا السياسية الروسية على مفترق طرق ،ويبحث عن مكانة في العالم الجديد ،وقد اضافت (الحرب العالمية على الارهاب ) التي تقودها الولايات المتحدة بعداً جديداً للجيوبولوتيكيا في هذا العالم .ولإدراك روسيا لهذه الحقائق الجغرافية فأنها اعادت البحث عن دورها المفقود عالمياً في ان تكون واحدة من القوى المؤثرة في الشرق الاوسط لاسيما وانها وريثة لمثل هذا الدور.
لقد اشار وزير الخارجية الروسي الى الدور الروسي في قضايا الشرق الاوسط اذ قال «اتبعت روسيا موقفاً متوازناً من قضايا الشرق الاوسط ادراكاً منها لأهمية هذه المنطقة على الصعيد الجيوبولوتيكي وعلى الصعيد الاستراتيجي.
لقد كان الهدف هو تعزيز مكانة روسيا على الساحة الدولية ،وقد بدأ العالم يقتنع بأن روسيا القوية والواثقة من نفسها ليست ظاهرة مؤقتة بل تطور جدي عملت عليه الدبلوماسية الروسية ورسخته في شكل قوي ولمدة طويلة مقبلة .وقد تحول هذا الامر الى عنصر مهم على طريق استعادة التوازن في العلاقات الدولية ،والسير نحو ضمان الاستقرار في السياسة العالمية وتحولها الى مسارات مدروسة يمكن التكهن بها بدلا من حالة الفوضى ،وهذا الامر ينطبق على منطقة الشرق الاوسط التي لها اهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لنا ،وقد اثبتت التجربة صحة الموقف الذي دعت اليه روسيا دوماً اذ دلت التطورات المرتبطة بسياسة الولايات المتحدة في العراق وكذلك الحرب الاسرائيلية الاخيرة في لبنان ،على فشل سياسة الاعتماد على استعمال القوة العسكرية لفرض اجندة سياسية.
وتلخصت المواقف الروسية من قضايا الشرق الاوسط بضرورة احلال السلام العادل والشامل في المنطقة ووقف العنف واستئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ،وعدم اللجوء لتغيير الانظمة السياسية والشرعية بالقوة المسلحة ،وعدم توظيف مجلس الامن الدولي لخدمة مصالـح دول بعينهـا.
محمد قاياتي
بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية بشكل عام ، برزت سياسة القطب الواحد وهيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على توجيه السياسة العالمية وفقا لمصالحها وأهدافها الاستراتيجية ، ما أدي إلي اندلاع بؤر توتر وحروب في مناطق متعددة من العالم وصلت ذروتها بغزو واحتلال أفغانستان والعراق ، ثم انطلاق موجة الاضطرابات الكبرى في المنطقة فيما عرف بـ " الربيع العربي" ، وكانت مراكز الأبحاث الأمريكية والغربية ترى أن سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات العالم ستستمر لحقب قادمة فيما لا يقل عن قرن كامل من الزمان، وظهرت كتابات فوكاياما الذي دشن فكرة نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي بشكل حاسم.
المفأجاة التي احدثت تغيرا استراتيجيا في مسار الهيمنة الأمريكية وأسقطت نظريات التفوق الغربي ، كانت في إستعادة روسيا لمكانتها الدولية والإقليمية بسرعة لم يتوقعها أحد، وذلك بعدما نجحت في لملمة شتات نفسها داخليا وإعادة الانضباط والأمن للشوارع الروسية وإعادة بناء الاقتصاد الروسي الذي كان قد وصل إلي حافة الانهيار ، وبالطبع فإن وجود قاعدة صناعية وإنتاجية ضخمة مكن الدولة الروسية من إعادة ضبط المسار ، فضلا عن توفر الكوادر البشرية في كافة المجالات ، وهي كلها عوامل صنعتها حقبة الاتحاد السوفيتي ، لكن تلك الاستعادة السريعة للدور الروسي ، بل وقدرته على إزاحة الولايات المتحدة من دوائر الصراع الساخنة لم يكن ممكنا دون وجود استراتيجية ورؤية محددة لشكل العالم وخطورة انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على مقدرات البشرية ، وكذلك وجود القيادات القادرة على تنفيذ تلك الاستراتيجية بقدر كبير من القوة والذكاء والمرونة .
دور بوتين :
كان ظهور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على المسرح السياسي الروسي بشكل خاص وعلى المسرح السياسي العالمي بوجه عام تغيرا حاسما في السياسة الدولية وعلاقات روسيا بالعالم ، والقدرة على ضبط مسار الدولة الروسية ومن ثم إعادة الدور الروسي ليكون رقما صعبا في مواجهة الولايات المتحدة والغرب ، فقد لعبت السمات الشخصية لبوتين وقدرته على تقديم نفسه للمواطنين الروس كقائد قوي دورا أساسيا في النجاح الروسي داخليا وخارجيا ، كما كانت قدراته على المناورة والتفاوض والتدخل الحاسم إذا لزم الأمر مفصلا رئيسيا في نجاح السياسات الروسية، ولعل نموذج الأزمة السورية وأزمة القرم تظهران بوضوح فاعلية سياسية المناورة والحسم التي اتبعها بوتين .
أبقى بوتين على الأساليب السوفيتية مثل الاحتفاظ بقوات أمن نافذة والحكم السلطوي المركزي الذي كان الليبراليون يأملون أن يذهب دون رجعة في روسيا المستقلة الجديدة بعد انهيار الحكم السوفيتي.
ويحظى بوتين بشعبية كبيرة بين الروس إذ أعاد إليهم درجة من الثقة بالنفس في بلد بدا على شفير الانهيار في بعض منعطفاته الصعبة خلال تسعينات القرن الماضي. وبالنسبة إلى أنصاره، فإن بوتين يعتبر بمثابة منقذ روسيا الحديثة في حين يرى فيه معارضوه النسخة الأحدث في سلسلة الزعماء الاستبداديين بدءا من إيفان الرهيب ومرورا بستالين.
وقد اظهر تصنيف خاص بمجلة فوربس ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبقى اقوى رجل في العالم للسنة الرابعة على التوالي، متقدما على الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل. واعتبرت المجلة انه "من موطنه وصولا الى سوريا مرورا بالانتخابات الاميركية، لا يزال الرئيس الروسي يحقق غاياته".
دور الدبلوماسية الروسية :
إذا كان ممكنا تقديم جوائز لوزراء الخارجية والدبلوماسيين على غرار جوائز الأوسكار الأمريكية ، فإن جائزة أفضل وزير خارجية ستذهب حتما لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ، كما سيحصل مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين على جائزة الأفضل بين نظرائه في العالم ، فقد لعب الرجلان دورا بارزا في صياغة وتوجيه وتنفيذ السياسات الروسية في العالم بشكل غير مسبوق، خاصة فيما يتعلق بالأزمة السورية التي لعبت فيها الدبلوماسية الروسية دورا حاسما ومحوريا جعل روسيا تعود وبقوة إلي الساحة السياسية العالمية بل ونجحت في إقصاء الولايات المتحدة وحلفاءها من الساحة في الشرق الأوسط.
وعادت قضايا الشرق الاوسط وقضية الدور الروسي فيه لتحتل مكانة مهمة في قائمة اولويات السياسة الخارجية الروسية ،بعدها احد الابواب الرئيسة التي يمكن ان تعيد موسكو الى المنطقة ،بعد ان دمرت سياسات الاصلاحيين الروس الجدد الذين سيطروا على مقاليد السلطة في الكرملين طوال عشرة اعوام (1991- 2000) ،العديد من العلاقات بين روسيا ودول الشرق الاوسط.
عندما تفكك الاتحاد السوفيتي وسيطرت عناصر جديدة على مقاليد السلطة في روسيا ،حدث تغيير واسع حول الرؤية الروسية (عالم الجنوب ) المصدر المهم للنفوذ ،اذ اعتقد القادة الروس الجدد ان العالم ليس في الجنوب ولا في المياه الدافئة ،ولكنه في الغرب والشمال ،حيث تقنية المعلومات والتكنلوجيا المتقدمة التي تمكن روسيا من استخراج النفط المخزون في باطن الارض الروسية والمناطق القريبة منها.
حرب عالمية على الإرهاب
ووفقا لدواجين مؤلف كتاب مستقبل الجغرافيا السياسية الروسية على مفترق طرق ،ويبحث عن مكانة في العالم الجديد ،وقد اضافت (الحرب العالمية على الارهاب ) التي تقودها الولايات المتحدة بعداً جديداً للجيوبولوتيكيا في هذا العالم .ولإدراك روسيا لهذه الحقائق الجغرافية فأنها اعادت البحث عن دورها المفقود عالمياً في ان تكون واحدة من القوى المؤثرة في الشرق الاوسط لاسيما وانها وريثة لمثل هذا الدور.
لقد اشار وزير الخارجية الروسي الى الدور الروسي في قضايا الشرق الاوسط اذ قال «اتبعت روسيا موقفاً متوازناً من قضايا الشرق الاوسط ادراكاً منها لأهمية هذه المنطقة على الصعيد الجيوبولوتيكي وعلى الصعيد الاستراتيجي.
لقد كان الهدف هو تعزيز مكانة روسيا على الساحة الدولية ،وقد بدأ العالم يقتنع بأن روسيا القوية والواثقة من نفسها ليست ظاهرة مؤقتة بل تطور جدي عملت عليه الدبلوماسية الروسية ورسخته في شكل قوي ولمدة طويلة مقبلة .وقد تحول هذا الامر الى عنصر مهم على طريق استعادة التوازن في العلاقات الدولية ،والسير نحو ضمان الاستقرار في السياسة العالمية وتحولها الى مسارات مدروسة يمكن التكهن بها بدلا من حالة الفوضى ،وهذا الامر ينطبق على منطقة الشرق الاوسط التي لها اهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لنا ،وقد اثبتت التجربة صحة الموقف الذي دعت اليه روسيا دوماً اذ دلت التطورات المرتبطة بسياسة الولايات المتحدة في العراق وكذلك الحرب الاسرائيلية الاخيرة في لبنان ،على فشل سياسة الاعتماد على استعمال القوة العسكرية لفرض اجندة سياسية.
وتلخصت المواقف الروسية من قضايا الشرق الاوسط بضرورة احلال السلام العادل والشامل في المنطقة ووقف العنف واستئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ،وعدم اللجوء لتغيير الانظمة السياسية والشرعية بالقوة المسلحة ،وعدم توظيف مجلس الامن الدولي لخدمة مصالـح دول بعينهـا.