العرب خطر في خطر
:
أحمد برقاوي
ما أن تذكر العرب وتتلفظ بكلمة العرب حتى ينبري كثير من أهل العربية بالاستنكار والتذمر والسخرية والدهشة وكأنك أتيت أمرا مرذولا. والحق إن مصدر شعور كهذا ليس مرده إلا إلى خيبة الأمل المصاب بها ثلاثماية وخمسون مليونا من العرب وهم يعيشون في مساحة جغرافية تصل إلى اثني عشر مليونا من الكيلومترات المربّعة ويقعون على سواحل المتوسط والأطلسي والأحمر وبحر العرب والخليج العربي، ويتوافرون على ثروات لا حصر لها ومع ذلك تراهم مهانين أذلاّء ولا حول لهم ولا قوة.
ويرى العربي في الوقت نفسه أقواماً حوله تحولت إلى دول قوية كإيران وتركيا، وليس هذا فحسب بل إن هاتين الدولتين فاعلتان في الداخل العربي كفاعلية الغرب وأميركا. وبالمقابل ترى العالم اليوم مشغولا بمسائل العرب وثوراتهم وحروبهم الداخلية وقضايا ثرواتهم.
من هم هؤلاء العرب الذين يشغلون العالم كله؟ ولماذا ينشغل العالم الفاعل بأمور العرب؟ هل يشكل العرب خطرا ما على العالم وعلى الغرب وأميركا على وجه الخصوص؟ لماذا قامت دولة اسمها إيران ومن أقوام متعددة وكان بإمكان الغرب أن يقسّمها إلى عدة دول؟ وكذلك لماذا رضي الغرب بقيام تركيا ومن عدة أقوام أيضا وكانت منهزمة في الحرب العالمية الأولى كوريثة بقية من بقايا الإمبراطورية العثمانية؟ بل وقد ضمّت إيران إليها وبواسطة إنكلترا منطقة الأحواز أو عربستان كما سمّاها الفرس، وهي منطقة خصبة وذات ثروات هائلة وتبلغ مساحتها 348 ألف كيلومتر مربع، كما ضمت تركيا أكثر من 60 ألف كيلومتر مربع من أرض بلاد الشام بواسطة فرنسا.
أقول لماذا قامت دولة إيرانية قومية ودولة تركية قومية ومنع العرب من إقامة دولة قومية؟ بل ما حصل في بلاد الشام ما كان لأدهى العقول أن تتخيله، دولة ليهود أوروبا، دولة في شرق الأردن، دولة في جبل لبنان وضمت إليها طرابلس والأقضية الأربعة، ودولة سوريا. وكل ذلك تمّ برسم الحدود من قبل الاستعمارين الفرنسي والبريطاني. أترى هذا أمر طبيعيا؟
لماذا اكتفت بريطانيا بإنشاء جامعة الدول العربية ولم تدفع الأمر إلى أكثر من ذلك، وكانت قادرة عليه؟
دعوني أطرح السؤال في صيغة بدئية: هل هناك جماعة اسمها العرب؟ وما هي هذه الجماعة؟ سأضرب صفحا عمّا تعلمناه من وجود مقومات الأمّة العربية.
من حيث الواقع هناك قوم يدعون بالعرب. دعونا الآن من تحديد القوم. العرب قوم موجودون في اسم الدولة، في اللغة، في الوعي الذاتي، في الثقافة الموضوعية والثقافة الإبداعية.
ويقول قائل إن الاسم لا يدل على المسمى، إذن لا يدل اسم جمهورية مصر العربية على أن مصر عربية. ولكن ما الذي يدعو مصر والإمارات والسعودية وسوريا ودولا تقول في دساتيرها إنها جزء من الأمة العربية؟ إن ذلك يعود إلى واقع موضوعي وهو وجود العرب بوصفهم قوما.
إن الوعي الذاتي المعبّر عنه بأنا عربي يكاد يكون عاما باستثناء وعي بعض المثقفين الذين اخترعوا لهم وعيا أقواميا جديدا. هذا الوعي الذاتي البسيط بالهوية العربية نجده عند الفلسطيني حين يصرخ: أين العرب وعند السوري الذي يطلب مساعدة العرب للتخلص من حاكمه. وقس على ذلك.
هذا الوعي الذاتي البسيط المعبر عنه بأنا عربي ما كان يمكن أن يكون دون وجود عرب بالمعنى الموضوعي.
وقس على ذلك هوية التفكير المعبر عنها عربيا لدى معظم الكتاب العرب.
حسبك أن تقرأ: تجديد الفكر العربي لزكي نجيب محمود، والأيديولوجيا العربية لعبدالله العروي، وتكوين العقل العربي للجابري، والعرب بين الأيديولوجيا والتاريخ لأحمد برقاوي، وقس على ذلك.
بل إن جامعة الدول العربية على هشاشتها ما كانت لتقوم لو لم يكن هناك وعي ذاتي بالانتماء إلى قوم اسمهم العرب.
وها أنا اكتب في صحيفة “العرب”، وأقرأ مجلة العربي، وأشاهد العربية، وأكتب، كغيري من العرب، باللغة العربية.
إذن نفي وجود قوم اسمهم العرب ولديهم وعي ذاتي بانتمائهم وشعور بهويتهم ضرب من الخفة العقلية.
لكنّي قلت إن العرب قوم، لماذا هم قوم؟ لأنهم جماعة إثنية-ثقافية ما قبل الأمة-الدولة. وهنا يكمن بيت القصيد.
لم يحقق العرب دولة عربية، ولا دولة دينية، ولا دولة قبلية ولا دولة في حدودها الحالية مكتملة، النتيجة المترتبة على ذلك: العرب قوم ما قبل الدولة.
سأطرح الفرضية التالية: الدولة الحديثة هي دولة قومية. والتاريخ لم يأت على الدولة القومية، الدولة القومية هي دولة الأمة. كلّ سلطة تقوم في حالة ما قبل الأمة دون أن تتحول إلى سلطة دولة حالة قديمة وليست دولة. إذا ما تحولت الجماعات التي تسكن الاقطار التي تعيش فيها إلى قوميات فإن الدولة القطرية الحالية قد تأخذ صيغة الأمة الدولة.
إذن: لا يمكن نظرياً قيام دولة دينية ولا دولة قبلية ولا دولة مناطقية في الوطن العربي. بل إن السلطة في الوطن العربي لم تصل بعد إلى مرحلة سلطة الدولة. وما الربيع العربي إلا نتيجة لذلك ومن أجل ذلك.
ما هي هذه السلطة ما قبل الدولة؟
في المستوى الشكلي هناك دول في الوطن العربي، حدود، اعتراف، علم، نشيد وطني، رئيس، ملك، أمير، وزارات، جيش، شرطة، مؤسسات… الخ.
هذا المستوى الشكلي يقع في تناقض مع جوهر الدولة، مع المصالح العميقة للبشر، مع السيادة كمفهوم مقوّم لأيّ دولة. أساس هذا التناقض تناقض السلطة مع المجتمع.
لنأخذ السيادة والدولة، فلا تقوم الدولة إلا بترابطها مع السيادة. السيادة هي قدرة الدولة على اتخاذ قرار وفق مصالحها، على حماية حدودها، على حماية ثرواتها، على تحقيق أمن مواطنها. حين تكون السلطة في تناقض مع الأمة إذن تكون في تناقض مع مفهوم السيادة.
خذ فكرة الأمن: السلطة المعبرة عن السيادة هاجسها الأمن الداخلي للمواطن، السلطة الراهنة الأمن بالنسبة إليها هو أمن السلطة، أمن يقع في تناقض مع المجتمع، فتحقيق أمن السلطة رهن بزوال أمن المجتمع، وهكذا تتحول بعض الأشكال الخارجية للدولة، الجيش والأمن والقضاء إلى عوامل نزع أمن الإنسان، لأن الخطر من وجهة نظر السلطة هو خطر داخلي.
أضيف أن السلطة في الوطن العربي ليست سلطة قطرية. سلطة ما دون ذلك بكثير. إنها سلطة جزء ممن يملكون القوة للسيطرة، وذات هاجس ذاتي فقط. لو كانت السلطات قُطرية معبرة عن إجماع القطر لسارت في طريق الوحدة القومية لأنها ستكون معبرة عن مصالح سكان القطر.
السلطة، سلطة أي دولة في تحقيق الأمن الاقتصادي للمواطن. والسلطة في بلاد العرب سلطة نهب، إذن هي سلطة خارجية.
النتيجة: السلطة في الوطن العربي التي انفجرت الثورات في وجهها هي سلطة احتلال خارجي في صورة احتلال داخلي. هذا هو جوهر المسألة العربية داخلياً.
لنتقدم خطوة أخرى في تحليل المسألة من زاوية أنها مسألة خارجية، مسألة آخر غربي ـ أميركي يحاول جاهداً ترتيب هذه المنطقة على هواه.
أوربا وأميركا تنظران إلى المسألة العربية من الزوايا التالية:
1 ـ الحيلولة دون قيام أي شكل من أشكال الدولة، سواء دولة قُطرية أو دولة الأمة في الوطن العربي تصل حد السيادة.
2 ـ الوقوف ضد أيّ نزعات راديكالية قومية.
3 ـ حماية إسرائيل، وتحقيق أمنها الدائم، واستقرارها وقوّتها ورفاهها.
إذن لكي يتحقق هذا كله لا بد من سلطات على هذا النحو المريح للخارج.
المسألة العربية إذن هي خارجية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن. العرب موضوع هيمنة، هذا هو جوهر المسألة العربية خارجياً. ولقد وقع الظن أن تعامل الغرب عموماً وأميركا على وجه الخصوص مع العرب لن يصل حد استخدام القوة.
بعد ستين عقداً من زوال الاحتلال المباشر. يعود الاحتلال المباشر وغير المباشر. بعد مرور خمسة عقود من الزمن على آخر استخدام للقوة ضد مصر ـ العدوان الثلاثي- شهدنا استخدام القوة العسكرية من قبل الولايات المتحدة باحتلال العراق في عام 2003.
يشهد الوطن العربي اليوم انتفاضات وثورات تؤسس، شئنا أم أبينا لعالم جديد، فما هو العالم الذي في تصور الغرب وأميركا للمنطقة، والذي يجب أن تحققه الأنظمة السياسية القائمة أو القادمة. سؤال يطرحه الغرب وأميركا، ولا يصدر الاهتمام بمصير المنطقة كما يتصوره أبناء المنطقة، بل عن مصالح أميركا والغرب.
والسؤال الآن هو، ما حاجة أميركا مما يجري؟ وليس ما حاجة أهل المنطقة، إذ يجب أن تظل حدود ما يجري أميركياً وأوروبياً هو استمرار التبعية والحيلولة دون تحقيق أيّ شكل من أشكال الدولة ذات السيادة الوطنية سواء كانت قُطرية أو قومية.
وبالتالي فإن حدود المطلوب أميركيا لا يتجاوز تحسين الوضع المعاشي وتحسين الوضع السياسي دون أيّ تغير كيفي للمنطقة. وبقاء العرب في مرحلة “القوم” بما هم فرد متعدد السلط الحاكمة. “القوم” الذي يحوّل التناقضات الزائفة إلى عوامل احتراب وتفتت.
والحق أن نموذج العراق الحالي الذي رسمت خطوطه الولايات المتحدة بعد الاحتلال هو النموذج المطلوب أميركيا.
لقد أسّس الاحتلال لعراق طائفي، واستجابت لهذا التأسيس الميليشيات الطائفية. وحين احتدم الصراع الطائفي صار الحديث يجري عن مظلومية سنية يجب على السلطة الطائفية أن تقلل منها. أي بقاء منطق النظرة إلى العراق عراقا غير موحد ولا يمتلك القدرة على إنجاز الدولة.
وقس على ذلك الموقف من الثورة السورية، حيث العمل جار على رسم سوريا عراقا آخر.
كان الخطاب الأميركي المبرّر لاحتلال العراق القضاء على دكتاتورية صدّام، وصدّام كان دكتاتوريا حقا، وأدت حماقته باحتلال الكويت إلى دماره، غير أن البديل الذي فرضه المحتل ليس بديلا ديمقراطيا منقذا للعراق، بل بديلا دكتاتوريا طائفيا تعصبيا يدين بالولاء المطلق للدولة الدينية الإيرانية من جهة وخاضع للتبعية لأميركا من جهة ثانية.
وهكذا وضع الأميركيون والميليشيات الحاكمة في العراق أسس التقسيم الجديد. وبحجة خطر داعش ومواجهته أعيد العسكر
الأميركي إلى المنطقة.
ولعمري إن التحكم بمصير العرب ناتج عن خوف من هذا القوم الذي إذا ما انتقل إلى أي شكل من أشكال الدولة-الأمة، أو إذا ما انتصر فيه مفهوم الدولة فإنه سيتحول إلى فاعل سيادي من الصعب التحكم بسلوكه.
هذا الأمر متطابق مع الطموح الإيراني في مد مجاله الحيوي إلى بلدان المشرق عبر السياسة الدينية التي يعززها بجماعات مسلحة تدين له بالولاء.
ولهذا فإن الوعي بمصالح العرب، فقط بالمصالح، من شأنه أن يخلق الحاجة لتجاوز المرحلة الأقوامية، وهذا ليس عودة إلى الخطاب الرومنسي القديم، بل تأسيس الوعي على الوعي بالخطر على الحياة.
فلو تركنا جانبا مفاهيم التاريخ المشترك، والحس القومي المشترك، واللغة المشتركة، وانطلقنا من مفهوم الحياة والحفاظ على الحياة وانتصار العيش المشترك بوصفه انتصارا للحياة، فيجب التفكير والعمل على إنجاز تقدم تاريخي لجماعة مهددة بخطر أميركي فارسي صهيوني دائم، خطر داخلي يكاد يودي بالعالم المعيش وخطر خارجي يدفع بالخطر الداخلي إلى حدوده القصوى.
واستعادة حبّ الحياة مستحيل بوجود أعداء الحياة الفاعلين في التدمير دون أيّ ذرة من الإحساس بالانتماء الوطني.
وعندي أن الانتقال من دولة السلطة الزائفة إلى سلطة الدولة هو الحل الأمثل لمسألة التحرر من المرحلة الأقوامية.
هل يمكن قيام الدولة القُطرية؟ الجواب نعم، وهذا لا يتناقض مع قولنا بالدولة الأمّة. إن المطلوب هو إنتاج دولة مجتمعية بوصفها عقدا حراً يمهد الطريق لدولة معبرة عن الجماعة وتتوافر على شروط الدولة.
أجل فلتقم الدولة القُطرية بكل ماهيتها الحقيقية كدولة وعندها سنجد أنفسنا في مرحلة التفكير في حال الدولة – الأمّة، الحال المتجاوز للجامعة العربية.