في صالون نون الأدبي فدوى طوقان في مواجهة وعد بلفور
عند الثالثة والنصف من بعد عصر يوم الأحد الموافق 17 ديسمبر كان اللقاء في صالون نون الأدبي
لم يحتفي أي من المحافل الثقافية بفدوى كما يحتفي بها صالون نون الأدبي، في محاولة منه لإيفائها شيء مما تستحق
لقد اعتاد صالون نون الأدبي أن يحتفي بخنساء فلسطين وشاعرتها الرائعة فدوى طوقان في كل عام، إلا أن الاحتفاء هذه المرة يأتي في ذكرى مرور مائة عام على مولدها
فكان اللقاء وقد افتتحته الأستاذة فتحية مرحبة بالثلة المثقفة والنوعية التي آثرت ألا تتغيب عن هذا التكريم والاحتفاء، وفاء للشاعرة ودعما للثقافة.
ثم أعلنت عما أعدت والأديب غريب لهذا اليوم، فكانت الكلمة الأولى شهادة حيّة من الأديب غريب عسقلاني لفدوى التي التقاها وعرفها
افتتح الأديب غريب عسقلاني شهادته بقوله: لعبت فدوى دوراً هاما في الثقافة الفلسطينية والعربية، فهي من أوائل النساء المبدعات، وتجلى دورها في مجال الأدب والفكر، وسجلت إسهامات فاعلة على مستوى العالم العربي
كانت فدوى وسلمى الخضراء الجيوسي وتلميذتها سلافة حجاوي من الأوائل، وقد سبقتها شاعرة البادية ملك حفني ناصف وملك عبد العزيز، ثم في المرحلة التالية الأديبة مي زيادة ونازك الملائكة
وسيكون حديثنا اليوم بمثابة تعريف أولي بها لفتح بوابة الاهتمام بالبحث والتنقيب العلمي الجاد في إنتاجها وتقييم دورها، وإنصاف مكانتها على المستوى العربي والعالمي، وكذلك ربط الأجيال الصاعدة من الكتاب والأدباء بالأجيال السابقة، والاتكاء ما أمكن على الإرهاصات الأولى لإثراء الطرح الأدبي والفكري الحالي في عقد متناسق متكامل.
ولدت الشاعرة فدوي طوقان في العام 1917م لأسرة طوقان النابلسية العريقة المحافظة، التي أنجبت أعلاما في مجال الفكر والصحافة والسياسة والأدب, حرمت من مواصلة دراستها بعد المرحلة الابتدائية حسب تقاليد صارمة لا تلقي بالا لتعليم البنات، فأكملت تعليمها في البيت برعاية وتشجيع أخوها الشاعر المعروف إبراهيم طوقان، الذي اكتشف فيها روح الشاعرة، فعمل على رعايتها، وساعدها على نشر قصائدها في الصحف والدوريات الأدبية التي كانت تصدر في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، واختار لها اسم أم تمام، أما هي فنشرت باسم دنانير تذكيرا بعهود الرقيق والمحظيات والجواري في قصور الحكام والأمراء وعلية القوم.
كما نشرت باسم المطوقة وكأنها تشير إلى حصارها الاجتماعي والأسري مع ما يحمله الاسم من غصة العتاب والتمرد المضمر على قيود البيئات المحافظة التي تقيد النساء وتطلق يد الرجال لتحقيق طموحاتهم، مع إشارة لاذعة مستترة لعائلة أنجبت نخب علمية وأدبية وسياسية تحاصر آفاق النساء داخل الخدور خلف أسوار البيوت.
فجعت فدوى بموت أبيها، وموت شقيقها الشاعر إبراهيم الذي آمن بموهبتها، وقد أشارت لذلك في كتابها الأول أخي إبراهيم، لاذت بحزنها وكتبت أجمل وأصدق تجاربها ونشرتها في المنابر الثقافية ثم جمعتها في دواوينها:
وحدي مع الأيام القاهرة 1952 - وجدتها 1957م - أمام الباب المغلق - الليل والفرسان، بيروت 1969- على قمة الدنيا وحيداً - تموز والشيء الآخر واللحن الأخير، عمان، 2000م. بالإضافة الى كتبها النثرية, أخي إبراهيم، يافا، 1946م, رحلة جبلية رحلة صعبة (سيرة ذاتية) 1985م, والرحلة الأصعب (سيرة ذاتية) (1993) ترجم إلى الفرنسية.
مع بداية الستينات أتيح لفدوى الإقامة في لندن, لمدة سنتين، فاطلعت على الآفاق المعرفية والإنسانية واختبرت منجزات الحضارة الأوربية بعقل منفتح على الفكر والحياة..
بعد نكسة حزيران 1967، شاركت في الحياة الثقافية، وشاركت في الندوات المؤتمرات الثقافية والسياسية, وتعرفت عن قرب على كتاب الضفة الغربية أمثال محمد البطراوي وإبراهيم الدقاق وصبحي شحروري، وعادل سمارة وعبد اللطيف عقل وبنيا يوت زيدان, وسميرة الخطيب وللي كرنيك وليلى علوش.
وكتاب وشعراء غزة, أمثال سعيد فلفل, وعبد الحميد طقش ومحمد أيوب وزكي العيلة وغريب عسقلاني، كما تواصلت مع كتاب الأرض المحتلة في الجليل والمثلث أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وإميل حبيبي وغيرهم.
فدوى كاتبة عربية وعالمية
نشرت قصائد فدوي فيفي المنابر الثقافية العربية, ولاقت اهتماما وحفاوة من النقاد أمثال أنور المعداوي والدكتور محمد مندور, وتبادلت الرسائل مع الأديبات العربيات أمثال نازك الملائكة ولميعة عباس في العراق وملك عبد العزيز في مصر
ولعل كتابها النثري رحلة جبلية رحلة صعبة يعتبر الوثيقة الأصدق عن واقع المرأة المبدعة في فلسطين في فترة ما قبل النكبة وما تلاها
فدوى طوقان الشاعرة والرائدة كانت في حضورها الشعري إنسانة مهمومة بقضاياها الذاتية في مجتمع محافظ في بلد يمور بالتفاعلات والأحداث السياسية، لذلك يعتبر منجزها الشعري وثيقة هامة في مجال الأدب النسوي والأدب المقاوم في ذات الوقت.
لذلك فإن منجزها الشعري والنثري ورسائلها من الأدباء العرب يحتاج الى بحوث توثقها وخاصة حول الشاعرة المرأة، وحول قضايا القمع المجتمعي ووسائل التمرد عليه.
فدوى أخلصت لذاتها وشعرها، وقدمت على امتداد رحلتها ما يستحق الخلود، وقد كرمت كمبدعة عربيا ودوليا وحازت على العديد من الأوسمة من مؤسسات عربية وعالمية منها:
* جائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر الأبيض المتوسط، باليرمو، إيطاليا 1978م.
* جائزة سلطان العويس، الإمارات العربية المتحدة، 1989م.
* وسام القدس، منظمة التحرير الفلسطينية، 1990.
* جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، ساليرنو، إيطاليا.
* جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، إيطاليا 1992.
* وسام الاستحقاق الثقافي، تونس، 1996م.
* وسام أفضل شاعرة للعالم العربي، الخليل .
ودعت فدوى الحياة عام 2003 عن عمر يناهز السادسة والثمانين عامًا قضتها مناضلة بكلماتها وأشعارها في سبيل حرية فلسطين، وكُتب على قبرها قصيدتها المشهورة:
كفاني أموت عليها وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبًا على أرضها
وأبعث زهرة إليها
تعبث بها كف طفل نمته بلادي
كفاني أظل بحضن بلادي
ترابًا، وعشبًا، وزهرة. ...
بعد أن أنهى الأديب غريب عسقلاني شهادته، قدمت الأستاذة فتحية ورقتها بعنوان (فدوى طوقان في مواجهة وعد بلفور)
إنها فدوى عبد الفتاح طوقان ترجع أصولها لتل طوقان في سوريا، جاءت على غير ترحيب من الأهل وخاصة الأم التي حاولت إجهاض حملها السابع فباءت محاولتها بالفشل لتأتي فدوى لهذه الحياة
لم تحتفظ ذاكرة والديها أو أي من أخوتها بتاريخ ذلك اليوم، فلم تعرف تاريخا محددا لمولدها، وعندما أرادت استصدار جواز سفر وطلب منها شهادة ميلاد، لم تكن تعرف من تاريخ هذا الميلاد يوما ولا شهرا ولا سنة
حاولت عصر ذاكرة والدتها واستنطقت ما بها لتعود لذاك اليوم الذي داهمتها به آلام المخاض، ففي ذلك اليوم كانت تطهو نبات العكوب، وبما أن العكوب ينبت في شهري مارس وأبريل، اختارت لنفسها شهر مارس، فمواليد هذا الشهر يحملون صفات قريبة لطبيعتها وصفاتها
حلّت مشكلة الشهر، وتبقى عليها معرفة العام
عادت لاستحلاب ذاكرة الأم التي قالت لها: كنت حاملا بك في الشهر السابع عندما استشهد ابن عمي كامل عسقلاني، اصطحبتها لقبر ابن عمها، ومن شاهد القبر عرفت أنها من مواليد العام 1917م وهذه إحدى المفارقات في حياة فدوى، تنتزع تاريخ ميلادها من شاهد شهيد مضى قبل أربعة وأربعين عاما
إذا هي ووعد بلفور خرجا للحيز الوجود في ذات العام، أحدهما منحها الحياة، والآخر سلب الوطن حياته وحقوقه
حرمت فدوى من تلقي التعليم ولمّا تجتاز الصف الخامس الابتدائي، وكثيرا ما يكون الفقد سبيلا لتحقيق النجاح، ففدوى التي حرمت من مواصلة تعليمها، تحدت هذه المنظومة وثقفت نفسها، بل ارتقت بها حين انفتحت على مسرح شكسبير والأدب الغربي
فكانت النسخة العربية لفرجينيا وولف
وعودا على ارتباط مولدها بوعد الضلال نجدها كما لو أنها تكفر عن هذا الارتباط فكتبت في الوعد وما ترتب عليه
سأتتبع في هذا اللقاء تأثير وعد بلفور على فدوى، وما أفرزه هذا التأثير من شعر، فوثقت لقضية، وأثبتت ظلما وقع على هذا الشعب
إذا: في العام الذي خرجت فيه فدوى للحياة اصطدمت دون وعي منها بأمرين:
أولهما: أنها غير مرحب بها، ولا يتسع لها قلب أمها مع أخوتها،
الآخر: أن كأن مولدها في ذات السنة التي أهدي بها من لا يملك (بلفور) وطننا الحبيب، لمن لا يستحق للعدو الخبيث بوعد باطل لازال يحمل اسمه
لتظل فدوى على تماس مع هذه القضية من مولدها وحتى اليوم الأخير من وعيها
وبعد أن نضجت وانخرطت في العمل الوطني أصبحت الذات لديها تتماهى مع الوطن خاصة في قصائد ما بعد العام 1967م
اختصت الوطن بحبها؛ أحبت شبابه وأطفاله، شيوخه ونساءه، جباله ووهاده، فأخذت موقعها على خارطة النضال فأصبحت صوت الشعب ونبضه، أرخت لفلسطين من وعد بلفور المشئوم الذي وضع النقاط الأولى على حروف اغتصاب الوطن وتشريد أهله
لو تتبعنا انعكاسات ما أفرزه هذا الوعد المشئوم في شعرها نجدها وهي تسير في شوارع لندن تسافر بذاكرتها بعيدا إلى ما قبل خمسين عاما فتتذكر أن هذه الأرض موئل الظلم، ففيها بيعت الأرض وطرد الشعب، لتصبح هي كما كل فلسطيني جزء من الصفقة بين بائع لا يملك ومشترٍ لا يستحق.
فتقول:
هنا كان سوق النخاسة، باعوا هنا
والديَّ وأهلي
فقد جاء وقتٌ سمعنا الذي منع
الرقَّ والبيع نادى على الحر: مَنْ
يشتري!
وهذي أنا اليوم جزء من الصفقة / الرابحة
أمارس حمل الخطيئة؛ معصيتي أنني
غرسة أطلعتها جبال فلسطين.. مَنْ
مات أمس استراح؛( )
لم يكن وعد بلفور حدثا عابرا، فكل ما تعرض له وطننا من نكبات ونكسات وحروب متواليات هي بفعل هذا الوعد المشئوم:
هذا الوعد ترتبت عليه نتائج مؤلمة، فنجدها ترسم صورة لنكبة 1948
فتقول:
يا وطني، مالك يخنى على روحك معنى الموت، معنى العدم
أمضك الجرح الذي خانه أســاته في المـأزق المحتدم
جرحك؛ ما أعمق أغواره كم يتنـزى تحـت نـاب الألم
هذه النكبة أورثتنا الألم، وأضحت حياتنا بفعلها تشبه العدم، لقد خلفت هذه النكبة علينا الكثير من المآسٍي والأحزان، ولأن الأرض إحدى أهم الأسس التي تقوم عليها الدولة، ولأن للأرض لدى الشعب الفلسطيني خصوصية تميزه عن غيره، فهو الشعب الوحيد الذي طُرد من أرضه على مدار ستة عقود، ولا زال يُضحي بكل ما أوتي من قدرات وخيرات في سبيل تحريرها من المحتل وإعادتها لأصحابها الشرعيين، لذا وجدنا الأرض الرمز عند فدوى تعني الوطن، والوطن الكل يعني الأرض.
**
وتتحدث عن الهزيمة واحتلال الأرض فتقول من ديوان الليل والفرسان قصيدة بعنوان مدينتي الحزينة - " يوم الاحتلال الصهيوني "
-1-
يوم رأينا الموت والخيانة/ تراجع المدُّ/ وأُغلقت نوافذ السماء
وأمسكت أنفاسها المدينة/ يوم اندحار الموج، يوم أسلمت
بشاعة القيعان للضياء وجهها/ ترمّد الرجاء/ واختنقت بغصَّة البلاء
مدينتي الحزينة
اختفت الأطفال والأغاني/ لا ظلّ، لا صدى/ والحزن في مدينتي يدبُّ عارياً
مخضّب الخُطى
والصمتُ في مدينتي،/ الصمت كالجبال رابضٌ،/ كالليل غامضٌ، الصمت فاجعٌ –
محمّلٌ/ بوطأة الموت وبالهزيمة/ أواه يا مدينتي الصامتة الحزينة
أهكذا في موسم القطاف/ تحترق الغلال والثّمار؟/ أوّاه يا نهاية المطاف!
##
وتصف المحتل بالطوفان والطاعون والبوم ففي قصيدة " الطوفان والشجرة " تقول:
يوم الإعصار الشيطاني طغى وامتدّ/ يوم الطوفان الأسود/ لفظته سواحل همجية
للأرض الطيبة الخضراء/ هتفوا، ومضت عبر الأجواء الغربية
تتصادى بالبشرى الأنباء:/ هوت الشجرة!/ والجذع الطّود تحطم، لم تبقِ الأنواء
باقية تحياها الشجرة!/ هوت الشجرة؟
عفو جداولنا الحمراءْ/ عفو جذورٍ مرتوية/ بنبيذٍ سفحته الأشلاءْ/ عفو جذورٍّ عربية
توغل كصخور الأعماق/ وتمدّ بعيداً في الأعماق
**
ستقوم الشجرة/ ستقوم الشجرة والأغصان –/ ستنمو في الشمس وتخضرّ
وستورق ضحكات الشجرة/ في وجه الشّمس/ وسيأتي الطير
لا بد سيأتي الطير/ سيأتي الطير/ سيأتي الطير
**
وتدعو لثورة لتغير حال المدينة المحتلة فتقول في قصيدة الطاعون
يوم فشا الطاعون في مدينتي / خرجتُ للعراء/ مفتوحة الصدر إلى السماء
أهتف من قرارة الأحزان بالرياح:/ هبي وسوقي نحونا السحاب يا رياح/ وأنزلي الأمطار
تطهّر الهواء في مدينتي/ وتغسل البيوت والجبال والأشجار/ هبِّي وسوقي نحونا السحاب يا رياح/ ولتنزل الأمطار!/ ولتنزل الأمطار!/ ولتنزل الأمطار!
##
وتحذر من استباحة الحمى في قصيدة الروض المستباح
أين الغناء العذب يا طائري تسبق فيه كلّ شادٍ طروب
وأين أفراح الصّبا الزاخر باللهو، أم أين المراح الدؤوب
ما لك تلقي نظرة الحائر يريد يستجلي خفايا الغيوب؟
وما الذي في قلبك الشاعر قل لي، فإن البثّ يشفي القلوب
**
وتقول:
وهذه الوردة ذات الرّواء كم تشتهي لحنك في حبها
بلبلها اليوم إليها أفاء وأرسل العطر إلى قلبها
وفي لها، والنفس تلقى الوفاء أجمل ما تهداه من صحبها
غنّ ومتّعها بهذا الصفاء أو، لا، فلن تنجوَ من عتبها
**
واعجبي! صمتك هذا رهيب يا طائري، ضُمّن معنى الحذر
ترمي بلحظ الصقر نحو الدروب كأنما أنذرت منها بشر
ما تأتلي ترقب كالمستريب أشعر من حوليه وشْك الخطر
أقعى، على أهبته للوثوب، في كبرياء تتحدّى القدر!
**
ماذا أرى؟ هذاك (بومٌ) غريب منطلق، جهم المحيا، وقاح
يحوم في الروضة حوماً مريب غدوّه متهم.. والرواح
يطلُّ من عينيه قلب جديب لكنه أرعن، فيه جماح
اقتحم الباب اقتحام الغضوب وجاس في الروض طليق الجناح!
**
وتقول
ما شأن ذيّاك الدعيّ الدخيل في الروض، والروض حماك الحبيب
وكيف يغدو مستباحاً ذليل أو غرضاً يُرمى بسهم غريب
أغضيت عن روضك دهراً طويل يا طائري، مغرىً بحلم كذوب
واليوم تصحو عن خيالٍ جميل مضى مع السّحرة، غبّ الهبوب!
**
أنفض جناحيك من الرقدة يا طائري، أخشى عليك المصير
لا تمكن ( البوم ) من الروضة أرى لذاك ( البوم ) شأناً خطيرا
أضب للوكر على شّرة فيما أراه، وأذى مستطير
عليك بالحذر، فكم غفلة يؤخذ منها المرء أخذاً نكير
**
ويلك، لا تأمن غريب الديار فخلفه من مثله معشر
يا طائري، إن وراء البحار مثل عديد الذرّ لو تنظر
ترّبصوا في لهفة وانتظار ودّبروا للأمر ما دبّروا..
تحفزهم تلك الأماني الكبار وأنت أنت المطمع الأكبر
##
وتندب حال القدس بالأمس واليوم وغد، وكأنها ترد على وعد ترامب الجديد فتقول:
إلى السيد المسيح في عيده
يا سيد، يا مجد الأكوان/ في عيدك تُصْلَبُ هذا العام/ أفراح القدسْ
صمتت في عيدك يا سيَدُ كلُّ/ الأجراس
من ألفيْ عامٍ لم تَصمتْ/ في عيدك إلاّ هذا العامْ
فقباب الأجراس حدادٌ/ وسوادٌ ملتفٌّ بسواد
القدس على درب الآلامْ/ تُجلد تحت صليب المحنة ـ
تُنزفُ تحت يد الجلاَّد/ والعالم قلبٌ منغلقٌ/ دون المأساة
هذا اللامكترث الجامد يا سيدْ/ انطفأت فيه عين الشمس فضلَّ وتاه
لم يرفع في المحنة شمعة/ لم يذرف حتى دمعة تغسل في القدس الأحزان
**
وتقول:
يا سيد يا مجد القدس/ من بئر الأحزان، من الهوَّةِ، من ـ/ قاع الليلْ
من قلب الويلْ/ يرتفع إليك أنين القدس/ رحماك أجزْ يا سيد عنها هذي الكأس!
**
أيضا تصف حال القدس في ظل الاحتلال فتقول:
الأسى يهطل، ليل القدس صمتٌ / وقتام
حظروا التجوال، لاتطرق في / قلب المدينة
غير دقاتِ النّعال الدمويّة
تحتها تنكمش القدس كعذراء سبية
وفي نتيجة أخرى ترتبت على النكبة تصورها الشاعرة في شرح لحال اللاجئة في العيد بعد التشرد:
مع لاجئة في العيد
أختاه، هذا العيد رف سناه في روح الوجود/ وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد
وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالآ شقياً/ متهالكاً، يطوي وراء جموده ألما عتياً
يرنو إلى اللاشيء .. منسرحا مع الأفق البعيد
ثم تصف العيد عندما كانت آمنة في بلدها، فتقول مذكرة بالخير الذي كانت تنعم به قبل أن تتحول للعيش في الخيام:
أختاه، أي الذكريات طغت عليك بفيضها/ وتدفّعت صورا تثيرك في تلاحق نبضها
حتى طفا منها سحاب مظلم في مقلتيك
وتقول:
أترى ذكرت مباهج الأعياد في يافا الجميلة؟/ أهفت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة؟
إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهو غرير/ والعقدة الحمراء قد رفّت على الرأس الصغير
والشعر منسدل على الكتفين، محلول الجديلة؟/ إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيب
تتراكضين مع اللّدات بموكب فرح طروب/ طورا إلى أرجوحة نُصبت هناك على الرمال
طورا إلى ظل المغارس في كنوز البرتقال/ والعيد يملأ جوكن بروحه المرح اللعوب؟
واليوم ماذا اليوم غير الذكريات ونارها؟/ واليوم، ماذا غير قصة بؤسكنّ وعارها
لا الدار دار لا ولا كالأمس، هذا العيد عيد / هل يعرف الأعياد أو أفراحها روح طريد
عان، تقلّبه الحياة على جحيم قفارها؟
التباين بين حال الفتاة في يافا وحالها في مخيمات اللجوء تدمي القلب، وهنا تبدو عظمة فدوى، فإن كانت قوة الألفاظ وجزالتها تكسب النص قيمة فالأمر عند فدوى مختلف إذ إن بساطة اللغة لديها، وصدق الإحساس، ودقة التصوير، جعلت القصيدة لوحة ناطقة لا غموض فيها ولا غرابة، لأن شعرها يصدر عن شاعرية طبيعية وفطرية أدبية ولا يظهر عليها التعقيد، لذا يجد كل من يقرأ هذه اللوحة أنها تقول كل ما يريد قوله، وتعبر عما بداخله أصدق تعبير، وهذا سر شاعريتها
وتجسد الشاعرة المأساة من خلال قصيدة نداء الأرض، فالمشرد لم ينسَ وطنه:
وظلّ المشرد عن أرضــه
يتمتم: لابــد من عودتي
وقد أطرق الرأس في خيمته
وأقفل روحا على ظلمتــه
وأغلق صدراً على نقمتــه
وتأتي اللقطة الواقعية الوحيدة في النص، وهي لقطة إطلاق الرصاص على صدره واستشهاده من أجل فكرة العودة، فيمتزج دمه بترابها ويظل في عناق أبدي مع أمه الأرض ..
تمثل أرضاً نمته وغذتـه من صدرها الثر شيخاً وطفــــلا
وكم نبضت تحت كفيّه قلباً سخياً وفاضــت عطاء وبـــذلا
* *
وأهوى على أرضه في انفعال يشم ثراها
يعانق أشجارها ويضمّ لآلي حصاهـــا
ومرّغ كالطفل في صدرها الرحب خداً وفم
وألقى على حضنها كل ثقل سنين الألـم
وهزّته أنفاسها وهي ترعش رعشة حبّ
وأصغى إلى قلبها وهو يهمس همسة عتب : / رجعت إليّ؟!
**
عندما يتحقق للشاعرة جزء من أمانيها، فتعود إلى يافا، إلا أنها عودة منقوصة، فلا تزال يافا تقبع في الأسر، تدوسها النعال الهمجية، تقف على أبواب يافا وتبكي أطلالها قائلة: على أبواب يافا يا أحبائي / وفي فوضى حطام الدور.
بين الردمِ والشوكِ / وقفتُ وقُلتُ للعينين: يا عينين
قفا نبكِ/على أطلالِ مَنْ رحلوا وفاتوها/ تنادي مَنْ بناها الدار/وتنعي مَنْ بناها الدار
تقف الشاعرة على أبواب يافا الجميلة، وقد تحولّت دورها لحطام مما أحدث فوضى مكانية وآلام نفسية
وترسم المحتل بصوره القميئة، الصورة تلو الأخرى
ليت للبرَّاق عيناً .. / آه يا ذلَّ الإسار!
حنظلاً صرت، مذاقي قاتلٌ / حقدي رهيب، موغلٌّ حتى القرار
صخرةٌ قلبي، وكبريتٌ وفوَّارةُ نار / ألف " هند " تحت جلدي
جوع حقدي / فاغرٌ فاه، سوى أكبادهم لا / يُشبعُ الجوعَ الذي استوطن جلدي
آه يا حقدي الرهيبَ المستثار / قتلوا الحبّ بأعماقي، أحالوا
في عروقي الدّم غسليناً وقار!!
وصورة أخرى من صور الذل والقهر من المحتل تقول في قصيدة انتظار على الجسر
( 1 )
لياليّ واقفةٌ والزمان كسيح/ تراه يجيء؟ انتظارٌ أنا
تشارين تنثر أوراقها في رمال الصحاري
تشارين ترخي مناديلها على المقل الدامعة
**
لياليَّ واقفةٌ، ضفة النهر عطشى / ونحن على الجسر – عيني وقلبي وأذني –
على الجسر نحن عطاشٌ عطاش/ ولكنما الأردن اليوم يلجمه الليل، لا يتدفق –
لكنما الأردن اليوم ليس يغني/ منابعه لا تدندن، آه، وعدت تجيءْ
مجيئك دفق المياه وقوتها الدافعة
**
لياليَّ واقفة ... صَمْتُ داري انتظار الزمان البطيءْ/ تراه يجيءْ؟
غيابٌ غيابٌ غياب
**
وتقول:
ويدوّي صوت جنديٍّ هجين / لطمةً تهوي على وجه الزحام:
(عرب، فوضى، كلاب / ارجعوا، لا تقربوا الحاجز، عودوا يا كلاب)
ويد تصفق شباك التصاريح – / تسدّ الدرب في وجه الزحام
آه ، إنسانيتي تنزف، قلبي / يقطر المرّ، دمي سمٌ ونار
(عرب، فوضى، كلاب ..)! / آه، وامعتصماه! / آه يا ثار العشيرة.
**
أما في (حكاية أخرى أمام شباك التصاريح) فتظهر حال الفلسطيني وقد أصبح يتيماً بفعل الخنوع والذلّ العربي فتقول:
أمس يا حبة عيني/ فاض بي شوق إلى مراك، شوق لا يصور
فتجهزت بتصريح لكي يأذن ضباط وعسكر/ بعبوري نهرنا الغافي على حلم التحرر
ولدي الشباك في الجسر انتظرت الدور في صمت وفي صبر
حان دوري فتقدمت أحث الخطو جذلى/ ولتعسي
رد لي الجندي تصريحي وأقصاني بعيداً وتأمر:/ (ارجعي من حيث أقبلت)
: لماذا؟
-ارجعي من حيث أقبلت) وزمجر
قلت: ما ذنبي؟ أنا لم أعص أمراً لا ولا زعزعت أمنا/ لا ولا حرضت أو شاغبت في دولة (قيصر)…
خبروني/ أين ألقى ضابط الجسر عسى/ يشرح الضابط لي ما لم يفسر
فأنا من فرط حرصي/ وأنا من فرط حبي/ لبلادي ولأرضي
ولبيتي ولبستاني وجيراني وللأشجار والأطفال والأحجار –
(والدوار) والسوق وأصحاب الدكاكين ومن خوفي من الإبعاد
والنفي الذي يقطع فينا مثل خنجر/ لم أزل احتمل الإذلال والقهر وأصبر
صاح في حدته القصوى: (افهمي يا هذه ما قلت هيا
وارجعي من حيث أقبلت) وأقصاني وأقصاني بعيداً وتوتر/ فتراجعت بخطو يتعثر
أي وربي لم أعد أفهم شيئاً غير كوني/ في زمان اليتم والحكم اليهودي المقدر
ليس لي (المعتصم) يأتي فيثأر/ لا ولا (خالد) في اليرموك يظهر
**
عدت أدراجي وجرح القلب يدمي/ وبعيني دموع تتحدر
@@
اختتمت الأستاذة فتحية ورقتها بقولها: هذه النماذج من حياة البؤس والشقاء إنما هي ثمرة من ثمار ذلك الوعد وتلك النكبة.
بهذا استحقت فدوى أن تُعدّ شاعرة فلسطين الأولى، فهي أبدع من رسمت بالحروف صورة ناطقة لأحوال الشعب الفلسطيني بعد النكبة.
والأمثلة كثيرة لكن هذا ما سمح به الوقت المتاح في هذا اللقاء
بعدها فتحت الأستاذة فتحية الباب لمداخلات الحضور فكانت المداخلة الأولى للروائي خلوصي عويضة، سأل عن دلالات استخدام فدوى للكلمات العبرية في قصائدها.
رد الأديب غريب على سؤال الأستاذ خلوصي بقوله الإحساس كامل بين الإنسان ولغته، ومن الطبيعي أننا نجيد نطق اللغة العبرية، عكس اليهود والأجانب، فهم ينطقون افتح (افتخ) ولو قال أحدهم افتح لن يفهموا الكلمة
أما الشاعرة كفاح الغصين فبدأت مداخلتها بتقديم شكرها لصالون نون وللأديب غريب عسقلاني والأستاذة فتحية على ما قدما في حديثهما، وقالت: كانت فدوى مثلي الأعلى، تتلمذت على أدبها
وكنت أتخيل فدوى بأجنحة، وتشاء الظروف أن ألتقي بالشاعرة فدوى طوقان في جامعة النجاح، كنت حاصلة على جائزة الشعر، وقدري أن كانت فدوى هي من سيكرمني، عندها أصبت بحالة فظيعة من الجبن، وبدأت أرتجف رغم أنني جريئة
وقد صممت ألا تسلمني الشهادة إلا أن ألقي إحدى قصائدي، فألقيت قصيدة كنت أرد بها على نزار قباني
ثم التقيت بها بناء على دعوة وجهتها لي واستمر اللقاء ثلاثة ساعات وطلبت أن أعزف على العود وأحضروا لي عودا
ثم ألقت كفاح قصيدة كتبتها رثاء للشاعرة قالت فيها:
سلامٌ عليكِ
(في رثاء الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان رحمها الله)
توارى وجهُكِ العفويُ في ثوبٍ من الليلكْ فهل تدري حنايا الدار ..
كم تبكيكِ أثوابُ..؟
وهل يا غضة الأحلامِ يوصدُ خلفكِ البابُ..؟
وهل ينمو بحوش الدارِ بعدكِ غير صبـــارٍ..؟؟
وكم سيئنُ عنابُ..؟ ومن سيلملمُ الياقوتَ حين ينوحُ أحبابُ..؟
وهل جبليةُ الأقدارِ حين سقيتِنا شهداً سيصدحُ بعدك الحسونُ..؟
أم تبكيكِ أكواب..؟؟
رويداً علينا فطعمُ الرحيلِ يعربدُ مُراً بليلِ يبوسْ ثقيلاً يمرُ قطارُ المساء علىّ ووحـــــدي أئـــنُ ..
وقلبي يئوسْ فماذا بربكِ نفعلُ حين تغادرُ وهجَ الحياةِ...
النفوس وحين يزمجرُ ثلجُ الحنايا يعربدُ .. يصرعُ... سودَ الرؤوس
وماذا بربكِ نفعل حين يصيرَ الوقوفُ رديفَ الجلوس
سلامٌ عليك حبيبة عيني .. فما زلتِ في البالِ أشهى يراعٍ..
ومازلتِ في الدار ِأبهى عروس..
سلامٌ عليكِ .. لأنكِ كنتِ الجميلةَ فينا..
وكنتِ الخرافـــــة وكنت اخضرارَ الموارس ِ رغمَ خريفِ الصحافة..
وكنت حبيبة قلبي لقومك حين تئــــنُ الجـــــروحُ... المَضــــافة
وكنتِ التجّلي لما هو آتٍ..
وقبل انحداره فينا .. ومنا كعنق الزرافـــة.
وكنتِ .. وكنتِ ..فكيف ستنسى الحنايا مُحياً كمسكِ الرصافــة..؟؟
وكيف ستصبحُ " نابُلسُ" بعدكِ بعد غيابِ شموس الكنافـة؟؟
ســـلامٌ عليكِ .. سلامٌ عليكِ .. سلامٌ عليكِ
الشاب محمد تيم سأل مجموعة من الأسئلة في مجملها تدور حول مدى تأثر الأستاذة فتحية بفدوى، وما إذا كانت صريحة في بوحها
ردت الأستاذة فتحية قائلة: لقد بت أشعر أنني فدوى وقد حللت واستنطقت نصوصها فشعرت أنها تقول ما أريد قوله
ثم إن فدوى ببساطتها وعفويتها استطاعت أن تسمع صوت الفلسطيني في كل العالم، وشرحت معاناته باستفاضة، وقد اعترف بذلك موشيه ديان الذي قال لديكم شاعرة كل قصيدة منها تصنع ألف مقاتل
وأسموها الشاعرة آكلة الكبود في إشارة لقصيدتها آهات أمام شباك التصاريح حين قالت:
جوع حقدي / فاغرٌ فاه، سوى أكبادهم لا / يُشبعُ الجوعَ الذي استوطن جلدي
الأستاذة إيمان أبو شعبان قالت: أشكر صالون نون وقد عودنا دائما على الجلسات القيمة، ولاهتمامه بالأدباء والشعراء، والشكر للأديب غريب والأستاذة فتحية على ما قدماه، لكنني أقول إنني لا أتفق مع الأستاذة فتحية، فدوى طاقة؛ لكنني تصفحت شعرها فوجدت أنه مكبل، فلو كانت أكثر جرأة، فكيف سيكون شعرها عندئذ؟
ردت الأستاذة فتحية بقولها: قد يكون التحفظ لديها في القصائد الذاتية، رغم أنني أرى أنها كانت تصرخ وتهز الجدران معترضة على منظومة العادات والتقاليد كما جاء في قصيدة الصخرة وقصيدة بين الجدران
ثم إني في ورقتي هذه أتتبع شعرها الوطني ومواجهتها لوعد بلفور واستعراضها لما ترتب على هذا الوعد.
السيد نبيل عابد قال: كثير من الروعة في كلمات فدوى، ويستحضرني تساؤل محير، لماذا لا يكون شعرها مقررا في المناهج الفلسطينية؟
ثم إن هناك قاسما مشتركا بيني وفدوى وبلفور، فهي تشاركه في العام 1917م، وأنا أشاركه في اليوم الثاني من نوفمبر
ردت الأستاذة فتحية على سؤال المقررات وقالت قصيدة حريتي هي في منهاج اللغة العربية
السيد محمود الغفري قال: ليس لدي استفسار أو مداخلة، لكنني أستغل الفرصة لأطلب من الأديب ومن صالون نون الأدبي أن يخصصوا جلسة لجبرا إبراهيم جبرا، وأخرى لإبراهيم نصر الله.
السيد يوسف السحار شكر الصالون والمتحدثين وقال: ردا على موضوع الجرأة أقول إن الشاعر المتوكل طه نشر قصائد لم تنشرها فدوى بديوانها، وذلك بعد أن استأذن العائلة في ذلك؟
انتهى اللقاء على وعد بأن يظل صالون نون الأدبي وفيّا لفدوى وكل صاحب قلم حرّ.
[font=Verdana][/font]
عند الثالثة والنصف من بعد عصر يوم الأحد الموافق 17 ديسمبر كان اللقاء في صالون نون الأدبي
لم يحتفي أي من المحافل الثقافية بفدوى كما يحتفي بها صالون نون الأدبي، في محاولة منه لإيفائها شيء مما تستحق
لقد اعتاد صالون نون الأدبي أن يحتفي بخنساء فلسطين وشاعرتها الرائعة فدوى طوقان في كل عام، إلا أن الاحتفاء هذه المرة يأتي في ذكرى مرور مائة عام على مولدها
فكان اللقاء وقد افتتحته الأستاذة فتحية مرحبة بالثلة المثقفة والنوعية التي آثرت ألا تتغيب عن هذا التكريم والاحتفاء، وفاء للشاعرة ودعما للثقافة.
ثم أعلنت عما أعدت والأديب غريب لهذا اليوم، فكانت الكلمة الأولى شهادة حيّة من الأديب غريب عسقلاني لفدوى التي التقاها وعرفها
افتتح الأديب غريب عسقلاني شهادته بقوله: لعبت فدوى دوراً هاما في الثقافة الفلسطينية والعربية، فهي من أوائل النساء المبدعات، وتجلى دورها في مجال الأدب والفكر، وسجلت إسهامات فاعلة على مستوى العالم العربي
كانت فدوى وسلمى الخضراء الجيوسي وتلميذتها سلافة حجاوي من الأوائل، وقد سبقتها شاعرة البادية ملك حفني ناصف وملك عبد العزيز، ثم في المرحلة التالية الأديبة مي زيادة ونازك الملائكة
وسيكون حديثنا اليوم بمثابة تعريف أولي بها لفتح بوابة الاهتمام بالبحث والتنقيب العلمي الجاد في إنتاجها وتقييم دورها، وإنصاف مكانتها على المستوى العربي والعالمي، وكذلك ربط الأجيال الصاعدة من الكتاب والأدباء بالأجيال السابقة، والاتكاء ما أمكن على الإرهاصات الأولى لإثراء الطرح الأدبي والفكري الحالي في عقد متناسق متكامل.
ولدت الشاعرة فدوي طوقان في العام 1917م لأسرة طوقان النابلسية العريقة المحافظة، التي أنجبت أعلاما في مجال الفكر والصحافة والسياسة والأدب, حرمت من مواصلة دراستها بعد المرحلة الابتدائية حسب تقاليد صارمة لا تلقي بالا لتعليم البنات، فأكملت تعليمها في البيت برعاية وتشجيع أخوها الشاعر المعروف إبراهيم طوقان، الذي اكتشف فيها روح الشاعرة، فعمل على رعايتها، وساعدها على نشر قصائدها في الصحف والدوريات الأدبية التي كانت تصدر في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، واختار لها اسم أم تمام، أما هي فنشرت باسم دنانير تذكيرا بعهود الرقيق والمحظيات والجواري في قصور الحكام والأمراء وعلية القوم.
كما نشرت باسم المطوقة وكأنها تشير إلى حصارها الاجتماعي والأسري مع ما يحمله الاسم من غصة العتاب والتمرد المضمر على قيود البيئات المحافظة التي تقيد النساء وتطلق يد الرجال لتحقيق طموحاتهم، مع إشارة لاذعة مستترة لعائلة أنجبت نخب علمية وأدبية وسياسية تحاصر آفاق النساء داخل الخدور خلف أسوار البيوت.
فجعت فدوى بموت أبيها، وموت شقيقها الشاعر إبراهيم الذي آمن بموهبتها، وقد أشارت لذلك في كتابها الأول أخي إبراهيم، لاذت بحزنها وكتبت أجمل وأصدق تجاربها ونشرتها في المنابر الثقافية ثم جمعتها في دواوينها:
وحدي مع الأيام القاهرة 1952 - وجدتها 1957م - أمام الباب المغلق - الليل والفرسان، بيروت 1969- على قمة الدنيا وحيداً - تموز والشيء الآخر واللحن الأخير، عمان، 2000م. بالإضافة الى كتبها النثرية, أخي إبراهيم، يافا، 1946م, رحلة جبلية رحلة صعبة (سيرة ذاتية) 1985م, والرحلة الأصعب (سيرة ذاتية) (1993) ترجم إلى الفرنسية.
مع بداية الستينات أتيح لفدوى الإقامة في لندن, لمدة سنتين، فاطلعت على الآفاق المعرفية والإنسانية واختبرت منجزات الحضارة الأوربية بعقل منفتح على الفكر والحياة..
بعد نكسة حزيران 1967، شاركت في الحياة الثقافية، وشاركت في الندوات المؤتمرات الثقافية والسياسية, وتعرفت عن قرب على كتاب الضفة الغربية أمثال محمد البطراوي وإبراهيم الدقاق وصبحي شحروري، وعادل سمارة وعبد اللطيف عقل وبنيا يوت زيدان, وسميرة الخطيب وللي كرنيك وليلى علوش.
وكتاب وشعراء غزة, أمثال سعيد فلفل, وعبد الحميد طقش ومحمد أيوب وزكي العيلة وغريب عسقلاني، كما تواصلت مع كتاب الأرض المحتلة في الجليل والمثلث أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وإميل حبيبي وغيرهم.
فدوى كاتبة عربية وعالمية
نشرت قصائد فدوي فيفي المنابر الثقافية العربية, ولاقت اهتماما وحفاوة من النقاد أمثال أنور المعداوي والدكتور محمد مندور, وتبادلت الرسائل مع الأديبات العربيات أمثال نازك الملائكة ولميعة عباس في العراق وملك عبد العزيز في مصر
ولعل كتابها النثري رحلة جبلية رحلة صعبة يعتبر الوثيقة الأصدق عن واقع المرأة المبدعة في فلسطين في فترة ما قبل النكبة وما تلاها
فدوى طوقان الشاعرة والرائدة كانت في حضورها الشعري إنسانة مهمومة بقضاياها الذاتية في مجتمع محافظ في بلد يمور بالتفاعلات والأحداث السياسية، لذلك يعتبر منجزها الشعري وثيقة هامة في مجال الأدب النسوي والأدب المقاوم في ذات الوقت.
لذلك فإن منجزها الشعري والنثري ورسائلها من الأدباء العرب يحتاج الى بحوث توثقها وخاصة حول الشاعرة المرأة، وحول قضايا القمع المجتمعي ووسائل التمرد عليه.
فدوى أخلصت لذاتها وشعرها، وقدمت على امتداد رحلتها ما يستحق الخلود، وقد كرمت كمبدعة عربيا ودوليا وحازت على العديد من الأوسمة من مؤسسات عربية وعالمية منها:
* جائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر الأبيض المتوسط، باليرمو، إيطاليا 1978م.
* جائزة سلطان العويس، الإمارات العربية المتحدة، 1989م.
* وسام القدس، منظمة التحرير الفلسطينية، 1990.
* جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، ساليرنو، إيطاليا.
* جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، إيطاليا 1992.
* وسام الاستحقاق الثقافي، تونس، 1996م.
* وسام أفضل شاعرة للعالم العربي، الخليل .
ودعت فدوى الحياة عام 2003 عن عمر يناهز السادسة والثمانين عامًا قضتها مناضلة بكلماتها وأشعارها في سبيل حرية فلسطين، وكُتب على قبرها قصيدتها المشهورة:
كفاني أموت عليها وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبًا على أرضها
وأبعث زهرة إليها
تعبث بها كف طفل نمته بلادي
كفاني أظل بحضن بلادي
ترابًا، وعشبًا، وزهرة. ...
بعد أن أنهى الأديب غريب عسقلاني شهادته، قدمت الأستاذة فتحية ورقتها بعنوان (فدوى طوقان في مواجهة وعد بلفور)
إنها فدوى عبد الفتاح طوقان ترجع أصولها لتل طوقان في سوريا، جاءت على غير ترحيب من الأهل وخاصة الأم التي حاولت إجهاض حملها السابع فباءت محاولتها بالفشل لتأتي فدوى لهذه الحياة
لم تحتفظ ذاكرة والديها أو أي من أخوتها بتاريخ ذلك اليوم، فلم تعرف تاريخا محددا لمولدها، وعندما أرادت استصدار جواز سفر وطلب منها شهادة ميلاد، لم تكن تعرف من تاريخ هذا الميلاد يوما ولا شهرا ولا سنة
حاولت عصر ذاكرة والدتها واستنطقت ما بها لتعود لذاك اليوم الذي داهمتها به آلام المخاض، ففي ذلك اليوم كانت تطهو نبات العكوب، وبما أن العكوب ينبت في شهري مارس وأبريل، اختارت لنفسها شهر مارس، فمواليد هذا الشهر يحملون صفات قريبة لطبيعتها وصفاتها
حلّت مشكلة الشهر، وتبقى عليها معرفة العام
عادت لاستحلاب ذاكرة الأم التي قالت لها: كنت حاملا بك في الشهر السابع عندما استشهد ابن عمي كامل عسقلاني، اصطحبتها لقبر ابن عمها، ومن شاهد القبر عرفت أنها من مواليد العام 1917م وهذه إحدى المفارقات في حياة فدوى، تنتزع تاريخ ميلادها من شاهد شهيد مضى قبل أربعة وأربعين عاما
إذا هي ووعد بلفور خرجا للحيز الوجود في ذات العام، أحدهما منحها الحياة، والآخر سلب الوطن حياته وحقوقه
حرمت فدوى من تلقي التعليم ولمّا تجتاز الصف الخامس الابتدائي، وكثيرا ما يكون الفقد سبيلا لتحقيق النجاح، ففدوى التي حرمت من مواصلة تعليمها، تحدت هذه المنظومة وثقفت نفسها، بل ارتقت بها حين انفتحت على مسرح شكسبير والأدب الغربي
فكانت النسخة العربية لفرجينيا وولف
وعودا على ارتباط مولدها بوعد الضلال نجدها كما لو أنها تكفر عن هذا الارتباط فكتبت في الوعد وما ترتب عليه
سأتتبع في هذا اللقاء تأثير وعد بلفور على فدوى، وما أفرزه هذا التأثير من شعر، فوثقت لقضية، وأثبتت ظلما وقع على هذا الشعب
إذا: في العام الذي خرجت فيه فدوى للحياة اصطدمت دون وعي منها بأمرين:
أولهما: أنها غير مرحب بها، ولا يتسع لها قلب أمها مع أخوتها،
الآخر: أن كأن مولدها في ذات السنة التي أهدي بها من لا يملك (بلفور) وطننا الحبيب، لمن لا يستحق للعدو الخبيث بوعد باطل لازال يحمل اسمه
لتظل فدوى على تماس مع هذه القضية من مولدها وحتى اليوم الأخير من وعيها
وبعد أن نضجت وانخرطت في العمل الوطني أصبحت الذات لديها تتماهى مع الوطن خاصة في قصائد ما بعد العام 1967م
اختصت الوطن بحبها؛ أحبت شبابه وأطفاله، شيوخه ونساءه، جباله ووهاده، فأخذت موقعها على خارطة النضال فأصبحت صوت الشعب ونبضه، أرخت لفلسطين من وعد بلفور المشئوم الذي وضع النقاط الأولى على حروف اغتصاب الوطن وتشريد أهله
لو تتبعنا انعكاسات ما أفرزه هذا الوعد المشئوم في شعرها نجدها وهي تسير في شوارع لندن تسافر بذاكرتها بعيدا إلى ما قبل خمسين عاما فتتذكر أن هذه الأرض موئل الظلم، ففيها بيعت الأرض وطرد الشعب، لتصبح هي كما كل فلسطيني جزء من الصفقة بين بائع لا يملك ومشترٍ لا يستحق.
فتقول:
هنا كان سوق النخاسة، باعوا هنا
والديَّ وأهلي
فقد جاء وقتٌ سمعنا الذي منع
الرقَّ والبيع نادى على الحر: مَنْ
يشتري!
وهذي أنا اليوم جزء من الصفقة / الرابحة
أمارس حمل الخطيئة؛ معصيتي أنني
غرسة أطلعتها جبال فلسطين.. مَنْ
مات أمس استراح؛( )
لم يكن وعد بلفور حدثا عابرا، فكل ما تعرض له وطننا من نكبات ونكسات وحروب متواليات هي بفعل هذا الوعد المشئوم:
هذا الوعد ترتبت عليه نتائج مؤلمة، فنجدها ترسم صورة لنكبة 1948
فتقول:
يا وطني، مالك يخنى على روحك معنى الموت، معنى العدم
أمضك الجرح الذي خانه أســاته في المـأزق المحتدم
جرحك؛ ما أعمق أغواره كم يتنـزى تحـت نـاب الألم
هذه النكبة أورثتنا الألم، وأضحت حياتنا بفعلها تشبه العدم، لقد خلفت هذه النكبة علينا الكثير من المآسٍي والأحزان، ولأن الأرض إحدى أهم الأسس التي تقوم عليها الدولة، ولأن للأرض لدى الشعب الفلسطيني خصوصية تميزه عن غيره، فهو الشعب الوحيد الذي طُرد من أرضه على مدار ستة عقود، ولا زال يُضحي بكل ما أوتي من قدرات وخيرات في سبيل تحريرها من المحتل وإعادتها لأصحابها الشرعيين، لذا وجدنا الأرض الرمز عند فدوى تعني الوطن، والوطن الكل يعني الأرض.
**
وتتحدث عن الهزيمة واحتلال الأرض فتقول من ديوان الليل والفرسان قصيدة بعنوان مدينتي الحزينة - " يوم الاحتلال الصهيوني "
-1-
يوم رأينا الموت والخيانة/ تراجع المدُّ/ وأُغلقت نوافذ السماء
وأمسكت أنفاسها المدينة/ يوم اندحار الموج، يوم أسلمت
بشاعة القيعان للضياء وجهها/ ترمّد الرجاء/ واختنقت بغصَّة البلاء
مدينتي الحزينة
اختفت الأطفال والأغاني/ لا ظلّ، لا صدى/ والحزن في مدينتي يدبُّ عارياً
مخضّب الخُطى
والصمتُ في مدينتي،/ الصمت كالجبال رابضٌ،/ كالليل غامضٌ، الصمت فاجعٌ –
محمّلٌ/ بوطأة الموت وبالهزيمة/ أواه يا مدينتي الصامتة الحزينة
أهكذا في موسم القطاف/ تحترق الغلال والثّمار؟/ أوّاه يا نهاية المطاف!
##
وتصف المحتل بالطوفان والطاعون والبوم ففي قصيدة " الطوفان والشجرة " تقول:
يوم الإعصار الشيطاني طغى وامتدّ/ يوم الطوفان الأسود/ لفظته سواحل همجية
للأرض الطيبة الخضراء/ هتفوا، ومضت عبر الأجواء الغربية
تتصادى بالبشرى الأنباء:/ هوت الشجرة!/ والجذع الطّود تحطم، لم تبقِ الأنواء
باقية تحياها الشجرة!/ هوت الشجرة؟
عفو جداولنا الحمراءْ/ عفو جذورٍ مرتوية/ بنبيذٍ سفحته الأشلاءْ/ عفو جذورٍّ عربية
توغل كصخور الأعماق/ وتمدّ بعيداً في الأعماق
**
ستقوم الشجرة/ ستقوم الشجرة والأغصان –/ ستنمو في الشمس وتخضرّ
وستورق ضحكات الشجرة/ في وجه الشّمس/ وسيأتي الطير
لا بد سيأتي الطير/ سيأتي الطير/ سيأتي الطير
**
وتدعو لثورة لتغير حال المدينة المحتلة فتقول في قصيدة الطاعون
يوم فشا الطاعون في مدينتي / خرجتُ للعراء/ مفتوحة الصدر إلى السماء
أهتف من قرارة الأحزان بالرياح:/ هبي وسوقي نحونا السحاب يا رياح/ وأنزلي الأمطار
تطهّر الهواء في مدينتي/ وتغسل البيوت والجبال والأشجار/ هبِّي وسوقي نحونا السحاب يا رياح/ ولتنزل الأمطار!/ ولتنزل الأمطار!/ ولتنزل الأمطار!
##
وتحذر من استباحة الحمى في قصيدة الروض المستباح
أين الغناء العذب يا طائري تسبق فيه كلّ شادٍ طروب
وأين أفراح الصّبا الزاخر باللهو، أم أين المراح الدؤوب
ما لك تلقي نظرة الحائر يريد يستجلي خفايا الغيوب؟
وما الذي في قلبك الشاعر قل لي، فإن البثّ يشفي القلوب
**
وتقول:
وهذه الوردة ذات الرّواء كم تشتهي لحنك في حبها
بلبلها اليوم إليها أفاء وأرسل العطر إلى قلبها
وفي لها، والنفس تلقى الوفاء أجمل ما تهداه من صحبها
غنّ ومتّعها بهذا الصفاء أو، لا، فلن تنجوَ من عتبها
**
واعجبي! صمتك هذا رهيب يا طائري، ضُمّن معنى الحذر
ترمي بلحظ الصقر نحو الدروب كأنما أنذرت منها بشر
ما تأتلي ترقب كالمستريب أشعر من حوليه وشْك الخطر
أقعى، على أهبته للوثوب، في كبرياء تتحدّى القدر!
**
ماذا أرى؟ هذاك (بومٌ) غريب منطلق، جهم المحيا، وقاح
يحوم في الروضة حوماً مريب غدوّه متهم.. والرواح
يطلُّ من عينيه قلب جديب لكنه أرعن، فيه جماح
اقتحم الباب اقتحام الغضوب وجاس في الروض طليق الجناح!
**
وتقول
ما شأن ذيّاك الدعيّ الدخيل في الروض، والروض حماك الحبيب
وكيف يغدو مستباحاً ذليل أو غرضاً يُرمى بسهم غريب
أغضيت عن روضك دهراً طويل يا طائري، مغرىً بحلم كذوب
واليوم تصحو عن خيالٍ جميل مضى مع السّحرة، غبّ الهبوب!
**
أنفض جناحيك من الرقدة يا طائري، أخشى عليك المصير
لا تمكن ( البوم ) من الروضة أرى لذاك ( البوم ) شأناً خطيرا
أضب للوكر على شّرة فيما أراه، وأذى مستطير
عليك بالحذر، فكم غفلة يؤخذ منها المرء أخذاً نكير
**
ويلك، لا تأمن غريب الديار فخلفه من مثله معشر
يا طائري، إن وراء البحار مثل عديد الذرّ لو تنظر
ترّبصوا في لهفة وانتظار ودّبروا للأمر ما دبّروا..
تحفزهم تلك الأماني الكبار وأنت أنت المطمع الأكبر
##
وتندب حال القدس بالأمس واليوم وغد، وكأنها ترد على وعد ترامب الجديد فتقول:
إلى السيد المسيح في عيده
يا سيد، يا مجد الأكوان/ في عيدك تُصْلَبُ هذا العام/ أفراح القدسْ
صمتت في عيدك يا سيَدُ كلُّ/ الأجراس
من ألفيْ عامٍ لم تَصمتْ/ في عيدك إلاّ هذا العامْ
فقباب الأجراس حدادٌ/ وسوادٌ ملتفٌّ بسواد
القدس على درب الآلامْ/ تُجلد تحت صليب المحنة ـ
تُنزفُ تحت يد الجلاَّد/ والعالم قلبٌ منغلقٌ/ دون المأساة
هذا اللامكترث الجامد يا سيدْ/ انطفأت فيه عين الشمس فضلَّ وتاه
لم يرفع في المحنة شمعة/ لم يذرف حتى دمعة تغسل في القدس الأحزان
**
وتقول:
يا سيد يا مجد القدس/ من بئر الأحزان، من الهوَّةِ، من ـ/ قاع الليلْ
من قلب الويلْ/ يرتفع إليك أنين القدس/ رحماك أجزْ يا سيد عنها هذي الكأس!
**
أيضا تصف حال القدس في ظل الاحتلال فتقول:
الأسى يهطل، ليل القدس صمتٌ / وقتام
حظروا التجوال، لاتطرق في / قلب المدينة
غير دقاتِ النّعال الدمويّة
تحتها تنكمش القدس كعذراء سبية
وفي نتيجة أخرى ترتبت على النكبة تصورها الشاعرة في شرح لحال اللاجئة في العيد بعد التشرد:
مع لاجئة في العيد
أختاه، هذا العيد رف سناه في روح الوجود/ وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد
وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالآ شقياً/ متهالكاً، يطوي وراء جموده ألما عتياً
يرنو إلى اللاشيء .. منسرحا مع الأفق البعيد
ثم تصف العيد عندما كانت آمنة في بلدها، فتقول مذكرة بالخير الذي كانت تنعم به قبل أن تتحول للعيش في الخيام:
أختاه، أي الذكريات طغت عليك بفيضها/ وتدفّعت صورا تثيرك في تلاحق نبضها
حتى طفا منها سحاب مظلم في مقلتيك
وتقول:
أترى ذكرت مباهج الأعياد في يافا الجميلة؟/ أهفت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة؟
إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهو غرير/ والعقدة الحمراء قد رفّت على الرأس الصغير
والشعر منسدل على الكتفين، محلول الجديلة؟/ إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيب
تتراكضين مع اللّدات بموكب فرح طروب/ طورا إلى أرجوحة نُصبت هناك على الرمال
طورا إلى ظل المغارس في كنوز البرتقال/ والعيد يملأ جوكن بروحه المرح اللعوب؟
واليوم ماذا اليوم غير الذكريات ونارها؟/ واليوم، ماذا غير قصة بؤسكنّ وعارها
لا الدار دار لا ولا كالأمس، هذا العيد عيد / هل يعرف الأعياد أو أفراحها روح طريد
عان، تقلّبه الحياة على جحيم قفارها؟
التباين بين حال الفتاة في يافا وحالها في مخيمات اللجوء تدمي القلب، وهنا تبدو عظمة فدوى، فإن كانت قوة الألفاظ وجزالتها تكسب النص قيمة فالأمر عند فدوى مختلف إذ إن بساطة اللغة لديها، وصدق الإحساس، ودقة التصوير، جعلت القصيدة لوحة ناطقة لا غموض فيها ولا غرابة، لأن شعرها يصدر عن شاعرية طبيعية وفطرية أدبية ولا يظهر عليها التعقيد، لذا يجد كل من يقرأ هذه اللوحة أنها تقول كل ما يريد قوله، وتعبر عما بداخله أصدق تعبير، وهذا سر شاعريتها
وتجسد الشاعرة المأساة من خلال قصيدة نداء الأرض، فالمشرد لم ينسَ وطنه:
وظلّ المشرد عن أرضــه
يتمتم: لابــد من عودتي
وقد أطرق الرأس في خيمته
وأقفل روحا على ظلمتــه
وأغلق صدراً على نقمتــه
وتأتي اللقطة الواقعية الوحيدة في النص، وهي لقطة إطلاق الرصاص على صدره واستشهاده من أجل فكرة العودة، فيمتزج دمه بترابها ويظل في عناق أبدي مع أمه الأرض ..
تمثل أرضاً نمته وغذتـه من صدرها الثر شيخاً وطفــــلا
وكم نبضت تحت كفيّه قلباً سخياً وفاضــت عطاء وبـــذلا
* *
وأهوى على أرضه في انفعال يشم ثراها
يعانق أشجارها ويضمّ لآلي حصاهـــا
ومرّغ كالطفل في صدرها الرحب خداً وفم
وألقى على حضنها كل ثقل سنين الألـم
وهزّته أنفاسها وهي ترعش رعشة حبّ
وأصغى إلى قلبها وهو يهمس همسة عتب : / رجعت إليّ؟!
**
عندما يتحقق للشاعرة جزء من أمانيها، فتعود إلى يافا، إلا أنها عودة منقوصة، فلا تزال يافا تقبع في الأسر، تدوسها النعال الهمجية، تقف على أبواب يافا وتبكي أطلالها قائلة: على أبواب يافا يا أحبائي / وفي فوضى حطام الدور.
بين الردمِ والشوكِ / وقفتُ وقُلتُ للعينين: يا عينين
قفا نبكِ/على أطلالِ مَنْ رحلوا وفاتوها/ تنادي مَنْ بناها الدار/وتنعي مَنْ بناها الدار
تقف الشاعرة على أبواب يافا الجميلة، وقد تحولّت دورها لحطام مما أحدث فوضى مكانية وآلام نفسية
وترسم المحتل بصوره القميئة، الصورة تلو الأخرى
ليت للبرَّاق عيناً .. / آه يا ذلَّ الإسار!
حنظلاً صرت، مذاقي قاتلٌ / حقدي رهيب، موغلٌّ حتى القرار
صخرةٌ قلبي، وكبريتٌ وفوَّارةُ نار / ألف " هند " تحت جلدي
جوع حقدي / فاغرٌ فاه، سوى أكبادهم لا / يُشبعُ الجوعَ الذي استوطن جلدي
آه يا حقدي الرهيبَ المستثار / قتلوا الحبّ بأعماقي، أحالوا
في عروقي الدّم غسليناً وقار!!
وصورة أخرى من صور الذل والقهر من المحتل تقول في قصيدة انتظار على الجسر
( 1 )
لياليّ واقفةٌ والزمان كسيح/ تراه يجيء؟ انتظارٌ أنا
تشارين تنثر أوراقها في رمال الصحاري
تشارين ترخي مناديلها على المقل الدامعة
**
لياليَّ واقفةٌ، ضفة النهر عطشى / ونحن على الجسر – عيني وقلبي وأذني –
على الجسر نحن عطاشٌ عطاش/ ولكنما الأردن اليوم يلجمه الليل، لا يتدفق –
لكنما الأردن اليوم ليس يغني/ منابعه لا تدندن، آه، وعدت تجيءْ
مجيئك دفق المياه وقوتها الدافعة
**
لياليَّ واقفة ... صَمْتُ داري انتظار الزمان البطيءْ/ تراه يجيءْ؟
غيابٌ غيابٌ غياب
**
وتقول:
ويدوّي صوت جنديٍّ هجين / لطمةً تهوي على وجه الزحام:
(عرب، فوضى، كلاب / ارجعوا، لا تقربوا الحاجز، عودوا يا كلاب)
ويد تصفق شباك التصاريح – / تسدّ الدرب في وجه الزحام
آه ، إنسانيتي تنزف، قلبي / يقطر المرّ، دمي سمٌ ونار
(عرب، فوضى، كلاب ..)! / آه، وامعتصماه! / آه يا ثار العشيرة.
**
أما في (حكاية أخرى أمام شباك التصاريح) فتظهر حال الفلسطيني وقد أصبح يتيماً بفعل الخنوع والذلّ العربي فتقول:
أمس يا حبة عيني/ فاض بي شوق إلى مراك، شوق لا يصور
فتجهزت بتصريح لكي يأذن ضباط وعسكر/ بعبوري نهرنا الغافي على حلم التحرر
ولدي الشباك في الجسر انتظرت الدور في صمت وفي صبر
حان دوري فتقدمت أحث الخطو جذلى/ ولتعسي
رد لي الجندي تصريحي وأقصاني بعيداً وتأمر:/ (ارجعي من حيث أقبلت)
: لماذا؟
-ارجعي من حيث أقبلت) وزمجر
قلت: ما ذنبي؟ أنا لم أعص أمراً لا ولا زعزعت أمنا/ لا ولا حرضت أو شاغبت في دولة (قيصر)…
خبروني/ أين ألقى ضابط الجسر عسى/ يشرح الضابط لي ما لم يفسر
فأنا من فرط حرصي/ وأنا من فرط حبي/ لبلادي ولأرضي
ولبيتي ولبستاني وجيراني وللأشجار والأطفال والأحجار –
(والدوار) والسوق وأصحاب الدكاكين ومن خوفي من الإبعاد
والنفي الذي يقطع فينا مثل خنجر/ لم أزل احتمل الإذلال والقهر وأصبر
صاح في حدته القصوى: (افهمي يا هذه ما قلت هيا
وارجعي من حيث أقبلت) وأقصاني وأقصاني بعيداً وتوتر/ فتراجعت بخطو يتعثر
أي وربي لم أعد أفهم شيئاً غير كوني/ في زمان اليتم والحكم اليهودي المقدر
ليس لي (المعتصم) يأتي فيثأر/ لا ولا (خالد) في اليرموك يظهر
**
عدت أدراجي وجرح القلب يدمي/ وبعيني دموع تتحدر
@@
اختتمت الأستاذة فتحية ورقتها بقولها: هذه النماذج من حياة البؤس والشقاء إنما هي ثمرة من ثمار ذلك الوعد وتلك النكبة.
بهذا استحقت فدوى أن تُعدّ شاعرة فلسطين الأولى، فهي أبدع من رسمت بالحروف صورة ناطقة لأحوال الشعب الفلسطيني بعد النكبة.
والأمثلة كثيرة لكن هذا ما سمح به الوقت المتاح في هذا اللقاء
بعدها فتحت الأستاذة فتحية الباب لمداخلات الحضور فكانت المداخلة الأولى للروائي خلوصي عويضة، سأل عن دلالات استخدام فدوى للكلمات العبرية في قصائدها.
رد الأديب غريب على سؤال الأستاذ خلوصي بقوله الإحساس كامل بين الإنسان ولغته، ومن الطبيعي أننا نجيد نطق اللغة العبرية، عكس اليهود والأجانب، فهم ينطقون افتح (افتخ) ولو قال أحدهم افتح لن يفهموا الكلمة
أما الشاعرة كفاح الغصين فبدأت مداخلتها بتقديم شكرها لصالون نون وللأديب غريب عسقلاني والأستاذة فتحية على ما قدما في حديثهما، وقالت: كانت فدوى مثلي الأعلى، تتلمذت على أدبها
وكنت أتخيل فدوى بأجنحة، وتشاء الظروف أن ألتقي بالشاعرة فدوى طوقان في جامعة النجاح، كنت حاصلة على جائزة الشعر، وقدري أن كانت فدوى هي من سيكرمني، عندها أصبت بحالة فظيعة من الجبن، وبدأت أرتجف رغم أنني جريئة
وقد صممت ألا تسلمني الشهادة إلا أن ألقي إحدى قصائدي، فألقيت قصيدة كنت أرد بها على نزار قباني
ثم التقيت بها بناء على دعوة وجهتها لي واستمر اللقاء ثلاثة ساعات وطلبت أن أعزف على العود وأحضروا لي عودا
ثم ألقت كفاح قصيدة كتبتها رثاء للشاعرة قالت فيها:
سلامٌ عليكِ
(في رثاء الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان رحمها الله)
توارى وجهُكِ العفويُ في ثوبٍ من الليلكْ فهل تدري حنايا الدار ..
كم تبكيكِ أثوابُ..؟
وهل يا غضة الأحلامِ يوصدُ خلفكِ البابُ..؟
وهل ينمو بحوش الدارِ بعدكِ غير صبـــارٍ..؟؟
وكم سيئنُ عنابُ..؟ ومن سيلملمُ الياقوتَ حين ينوحُ أحبابُ..؟
وهل جبليةُ الأقدارِ حين سقيتِنا شهداً سيصدحُ بعدك الحسونُ..؟
أم تبكيكِ أكواب..؟؟
رويداً علينا فطعمُ الرحيلِ يعربدُ مُراً بليلِ يبوسْ ثقيلاً يمرُ قطارُ المساء علىّ ووحـــــدي أئـــنُ ..
وقلبي يئوسْ فماذا بربكِ نفعلُ حين تغادرُ وهجَ الحياةِ...
النفوس وحين يزمجرُ ثلجُ الحنايا يعربدُ .. يصرعُ... سودَ الرؤوس
وماذا بربكِ نفعل حين يصيرَ الوقوفُ رديفَ الجلوس
سلامٌ عليك حبيبة عيني .. فما زلتِ في البالِ أشهى يراعٍ..
ومازلتِ في الدار ِأبهى عروس..
سلامٌ عليكِ .. لأنكِ كنتِ الجميلةَ فينا..
وكنتِ الخرافـــــة وكنت اخضرارَ الموارس ِ رغمَ خريفِ الصحافة..
وكنت حبيبة قلبي لقومك حين تئــــنُ الجـــــروحُ... المَضــــافة
وكنتِ التجّلي لما هو آتٍ..
وقبل انحداره فينا .. ومنا كعنق الزرافـــة.
وكنتِ .. وكنتِ ..فكيف ستنسى الحنايا مُحياً كمسكِ الرصافــة..؟؟
وكيف ستصبحُ " نابُلسُ" بعدكِ بعد غيابِ شموس الكنافـة؟؟
ســـلامٌ عليكِ .. سلامٌ عليكِ .. سلامٌ عليكِ
الشاب محمد تيم سأل مجموعة من الأسئلة في مجملها تدور حول مدى تأثر الأستاذة فتحية بفدوى، وما إذا كانت صريحة في بوحها
ردت الأستاذة فتحية قائلة: لقد بت أشعر أنني فدوى وقد حللت واستنطقت نصوصها فشعرت أنها تقول ما أريد قوله
ثم إن فدوى ببساطتها وعفويتها استطاعت أن تسمع صوت الفلسطيني في كل العالم، وشرحت معاناته باستفاضة، وقد اعترف بذلك موشيه ديان الذي قال لديكم شاعرة كل قصيدة منها تصنع ألف مقاتل
وأسموها الشاعرة آكلة الكبود في إشارة لقصيدتها آهات أمام شباك التصاريح حين قالت:
جوع حقدي / فاغرٌ فاه، سوى أكبادهم لا / يُشبعُ الجوعَ الذي استوطن جلدي
الأستاذة إيمان أبو شعبان قالت: أشكر صالون نون وقد عودنا دائما على الجلسات القيمة، ولاهتمامه بالأدباء والشعراء، والشكر للأديب غريب والأستاذة فتحية على ما قدماه، لكنني أقول إنني لا أتفق مع الأستاذة فتحية، فدوى طاقة؛ لكنني تصفحت شعرها فوجدت أنه مكبل، فلو كانت أكثر جرأة، فكيف سيكون شعرها عندئذ؟
ردت الأستاذة فتحية بقولها: قد يكون التحفظ لديها في القصائد الذاتية، رغم أنني أرى أنها كانت تصرخ وتهز الجدران معترضة على منظومة العادات والتقاليد كما جاء في قصيدة الصخرة وقصيدة بين الجدران
ثم إني في ورقتي هذه أتتبع شعرها الوطني ومواجهتها لوعد بلفور واستعراضها لما ترتب على هذا الوعد.
السيد نبيل عابد قال: كثير من الروعة في كلمات فدوى، ويستحضرني تساؤل محير، لماذا لا يكون شعرها مقررا في المناهج الفلسطينية؟
ثم إن هناك قاسما مشتركا بيني وفدوى وبلفور، فهي تشاركه في العام 1917م، وأنا أشاركه في اليوم الثاني من نوفمبر
ردت الأستاذة فتحية على سؤال المقررات وقالت قصيدة حريتي هي في منهاج اللغة العربية
السيد محمود الغفري قال: ليس لدي استفسار أو مداخلة، لكنني أستغل الفرصة لأطلب من الأديب ومن صالون نون الأدبي أن يخصصوا جلسة لجبرا إبراهيم جبرا، وأخرى لإبراهيم نصر الله.
السيد يوسف السحار شكر الصالون والمتحدثين وقال: ردا على موضوع الجرأة أقول إن الشاعر المتوكل طه نشر قصائد لم تنشرها فدوى بديوانها، وذلك بعد أن استأذن العائلة في ذلك؟
انتهى اللقاء على وعد بأن يظل صالون نون الأدبي وفيّا لفدوى وكل صاحب قلم حرّ.
[font=Verdana][/font]