الأصول التاريخية للعلمانية
3/5/2017
رواء جمال علي
العلمانية: تقرأ وتكتب بفتح العين (العَلمانية) وهي مشتقة من كلمة العالَم بمعنى الدنيا. وليس كما هو شائع بكسر العين من العلم، وهي الترجمة العربية لكلمة Secularism التي تعرفها دائرة المعارف البريطانية بأنها حركة تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا... وقد تطورت لتصبح حركة مضادة للدين والمسيحية خاصة.
لم تنشأ العلمانية بهدف العلم بل ردة فعل على الفكر المسيحي الذي عاشته أوربا طوال العصور الوسطى منذ سقوط روما عام 476م وحتى بداية عصر النهضة، ونشأتها مرتبطة أساسًا بالدين المسيحي والتاريخ الأوربي الوسيط والحديث.
ظهرت المسيحية كحركة إصلاحية داخل الدين اليهودي ولم تكن في بدايتها دينًا مستقلًا، ولكن ردة الفعل العنيفة التي لاقها أتباعها من قبل اليهود والرومان أدت الى تميز أتباع المسيح عمَّا سواهم من اليهود وأصبح ما جاء به عيسى من إصلاح بمثابة دين مستقل (المسيحية).
دخلت أوربا في صدام مسلح بين الملوك البروتستانت والكاثوليك في سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، إنكلترا... منذ عام 1517م.
آمن بالمسيح عدد من الأتباع تسميهم الأناجيل (التلاميذ) (الحواريين) تولوا بعد عيسى نشر ما جاء به، كان أشهرهم سمعان بن يونا والذي بحسب الأناجيل أن المسيح سمَّاه (بترا) ومعناها بالآرامية (الصخرة) وشاع اسمه باللفظ اليوناني (بطرس) ذلك أن المسيح قال له: أنت الصخرة التي يقيم الرب عليها كنيسته وما تعقده في الأرض معقود في السماء وما تحله في الأرض محلول في السماء. رحل بطرس بعد موت المسيح إلى روما فبشر بالمسيح وصار له أتباع وبنى أول كنيسة في أوربا. وبعد موته تعاقب على خلافته عدد من المسيحيين كأحبار للكنيسة في روما...
ترافق انتشار المسيحية في أوربا بتحركات القبائل الجرمانية انطلاقًا من ألمانيا (جرمانيا) بعد أن كان الرومان سابقًا قد استطاعوا حجزهم في مناطقهم ومنعهم من الانسياح في أوربا لكن الضعف الذي دخلت فيه الإمبراطورية أواخر أيامها سمح لهم بالتوغل في أوربا بالتزامن مع هجرات قبائل الهون (الهان) المغولية من الشرق. وتحت ضربات قبائل الهون بقيادة أتيلا الشهير وضربات القوط الغربيين بقيادة ألاريك الأول تم الإجهاز على الدولة الرومانية في الغرب واجتاح القوط روما وقتلوا آخر إمبراطور (رومانوس) عام 476م وسقطت أوربا الغربية كلها تحت سيطرة الجرمان ونتج عن ذلك فراغ سياسي وعسكري وفوضى عارمة خلفتها القبائل الجرمانية.
وهنا برز دور الكنيسة المسيحية كقوة لملأ الفراغ الذي خلفه سقوط روما، فادعى باباوات روما أنهم خلفاء المسيح في الأرض بناء على ما خوله المسيح لبطرس من حق الحل والعقد باسم الله، وادعوا تقدم كنيسة روما على ما سواها من الكنائس... ولم يجد ملوك الجرمان بدًا من استرضاء البابا ليضفوا على مَلكياتهم الشرعية، وبهذا امتلك الباباوات -إلى جانب السلطة الدينية على رعاياهم المسيحيين- السلطة الزمنية (الدنيوية) واصبحوا قادرين على خلع أي ملك عن (طريق الحرمان المقدس) بناء على ما ورثوه من القديس بطرس من حق الهي ورثه عن المسيح، وكثير ما اصطدم البابوات بملوك الجرمان وانتصروا عليهم مثل صراعهم الطويل مع الملوك الألمان فريدريك الأول والثاني...
إن الانهيار السياسي الذي عاشته أوربا بعد سقوط روما لم يلبث أن ظهر أثره في انهيار اقتصادي واجتماعي وفكري، ففكريًا تركت الكنيسة بمعتقداتها بصمات واضحة على سائر النواحي العلمية، فاعتبرت أن ميراث الرومان من العلم والفلسفة هو ميراث وثني تجب محاربته، فشاعت ثقافة وفكر ومعتقد واحد مرجعيته في الكتاب المقدس الذي لا يملك أصلًا أي نظام معرفي يملأ الفجوة التي نشأت عن حظر الفكر الروماني.
لكن سلطة البابا المستمدة من السماء بدون أي مرجعية قانونية مكتوبة في الكتاب المقدس كانت كفيلة بأن تجعل الحق والباطل تبعًا لما تراه الكنيسة، وأي محاولة كانت تظهر مخالفة لتوجه الكنيسة كانت تقمع تحت ستار الحرمان الكنسي بتهمة الهرطقة والإلحاد، ودفع الكثيرون حياتهم قتلًا أو حرقًا بسبب مخالفة الكنيسة من أمثال جون هس وجون ويكلف... وهكذا وبسبب الكنيسة ورجالها والنظرة المسيحية للعلم والفكر دخلت أوربا في جهل مطبق طوال ألف عام كانت الثقافة الوحيدة المقبولة و المتداولة هي اللاهوت المقدس.
العلمانيون العرب الذين يسقطون العلمانية على الواقع العربي متجاهلين اختلاف الظروف الموضوعية بين هنا وهناك، هو كمن يقدم وصفة طبية لنفسه وصفها الطبيب لجاره.
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فإن انسياح الجرمان في أوروبا أوجد أسيادًا جددًا في المقاطعات الرومانية، ثم جاء الفتح الإسلامي وأخذ كل حوض المتوسط فانكفأت أوربا على نفسها وأصبح النشاط الاقتصادي الوحيد هو الزراعة. وتحت مسمى الفتح امتلك الملوك الجرمان الأرض ومن عليها من بشر وحيوان، ثم وزعوها على فرسانهم فظهرت نتيجة ذلك حالة غريبة ليس لها مثيل في التاريخ إلا في أوروبا حيث تحول سكان أوروبا الغربية بكاملهم الى عبيد، وصار هناك طبقتين وحيدتين في المجتمع:
طبقة السادة (البترون) وهم الفرسان والأمراء والقواد ورجال الدين. وطبقة أقنان الأرض (الكولون) وهم عموم الناس. وهنا أيضًا كان للكنيسة دورًا في هذا الوضع عن طريق إضفاء المشروعية على هكذا نظام فقام الملوك وأتباعهم بالاستعباد وقامت الكنيسة ورجالها بإقناع المستعبدين بالتسليم وأن هذه إرادة الرب، سيما أن الكنيسة نفسها ورجالها كانت لهم ملكيات تتبع لهم وتعمل بنظام العبودية. فروجت الكنيسة بين أتباعها قول المسيح: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ومن عارض السلطة القائمة على الأرض فقد عارض الله. وعلى الإنسان أن ينأى بنفسه عن الدنيا لأن الدنيا مملكة الشيطان، والآخرة مملكة الرب وطالب مملكة الرب لا حاجة له بالدنيا مملكة الشيطان...
عاشت أوربا على هذا التردي لعشرة قرون حتى بداية الحروب الصليبية على المشرق والأندلس حيث بدأت تحتك وتقتبس معارف الشرق وحضارته فنتج عن ذلك مطلع القرن الثالث عشر ما عرف بعصر النهضة وكان نتيجته انقلابًا في الأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، فظهرت الدول القومية على الصعيد السياسي وبدأ معها عصر الكشوف الجغرافية كمقدمة لحركة الاستعمار الحديث والنهب وتكديس الثروات الذي شكل القاعدة الاقتصادية لتمويل العلم والعمران مع ظهور طبقة من الملوك المثقفين شجعت العلم والعلماء، وأخذ نظام العبودية يتلاشى مع تغير نمط الاقتصاد.
تحت مسمى الفتح امتلك الملوك الجرمان الأرض ومن عليها من بشر وحيوان، ثم وزعوها على فرسانهم فظهرت نتيجة ذلك حالة غريبة ليس لها مثيل في التاريخ إلا في أوروبا.
ودينيًا ظهر الإصلاح الديني من خلال حركات المتمردين (البروتستانت) ضد الكنيسة والبابا والفكر المسيحي الكاثوليكي مما نتج عنه انقسام أوربا دينيًا ودخل الملوك على خط المواجهة فأعلنوا العصيان على البابا، وبعضهم كإنكلترا انفصلت تماما عن روما... ودخلت أوربا في صدام مسلح بين الملوك البروتستانت والكاثوليك في سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، إنكلترا... منذ عام 1517م وانتهت مرحلة الحروب الدينية بصلح ويستفاليا 1648م الذي أقر من جملة قراراته إيقاف الحرب الدينية، وترك للملوك حرية اختيار اعتقاد رعاياهم دون أن يكون للبابا شأن في ذلك، وكان الخاسر الأكبر في النهاية هو البابا فقد أنهى صلح ويستفاليا سيطرة اللاهوت على أوروبا، وكان العام 1648م بداية ظهور العلمانية (اللادينية) كواقع حقيقي.
إن العلمانية الأوربية ظهرت نتيجة تفاعلات دينية وتاريخية عبر قرون طويلة حددت سماتها وما وصلت اليه، فهي بنت الظروف التي ظهرت فيها وتفاعلت معها وليست وصفة جاهزة، وما حاوله العلمانيون العرب ولا زالوا من نقل نتائج العلمانية الأوربية وإسقاطها على الواقع العربي متجاهلين اختلاف الظروف الموضوعية بين هنا وهناك، هو كمن يقدم وصفة طبية لنفسه وصفها الطبيب لجاره.
3/5/2017
رواء جمال علي
العلمانية: تقرأ وتكتب بفتح العين (العَلمانية) وهي مشتقة من كلمة العالَم بمعنى الدنيا. وليس كما هو شائع بكسر العين من العلم، وهي الترجمة العربية لكلمة Secularism التي تعرفها دائرة المعارف البريطانية بأنها حركة تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا... وقد تطورت لتصبح حركة مضادة للدين والمسيحية خاصة.
لم تنشأ العلمانية بهدف العلم بل ردة فعل على الفكر المسيحي الذي عاشته أوربا طوال العصور الوسطى منذ سقوط روما عام 476م وحتى بداية عصر النهضة، ونشأتها مرتبطة أساسًا بالدين المسيحي والتاريخ الأوربي الوسيط والحديث.
ظهرت المسيحية كحركة إصلاحية داخل الدين اليهودي ولم تكن في بدايتها دينًا مستقلًا، ولكن ردة الفعل العنيفة التي لاقها أتباعها من قبل اليهود والرومان أدت الى تميز أتباع المسيح عمَّا سواهم من اليهود وأصبح ما جاء به عيسى من إصلاح بمثابة دين مستقل (المسيحية).
دخلت أوربا في صدام مسلح بين الملوك البروتستانت والكاثوليك في سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، إنكلترا... منذ عام 1517م.
آمن بالمسيح عدد من الأتباع تسميهم الأناجيل (التلاميذ) (الحواريين) تولوا بعد عيسى نشر ما جاء به، كان أشهرهم سمعان بن يونا والذي بحسب الأناجيل أن المسيح سمَّاه (بترا) ومعناها بالآرامية (الصخرة) وشاع اسمه باللفظ اليوناني (بطرس) ذلك أن المسيح قال له: أنت الصخرة التي يقيم الرب عليها كنيسته وما تعقده في الأرض معقود في السماء وما تحله في الأرض محلول في السماء. رحل بطرس بعد موت المسيح إلى روما فبشر بالمسيح وصار له أتباع وبنى أول كنيسة في أوربا. وبعد موته تعاقب على خلافته عدد من المسيحيين كأحبار للكنيسة في روما...
ترافق انتشار المسيحية في أوربا بتحركات القبائل الجرمانية انطلاقًا من ألمانيا (جرمانيا) بعد أن كان الرومان سابقًا قد استطاعوا حجزهم في مناطقهم ومنعهم من الانسياح في أوربا لكن الضعف الذي دخلت فيه الإمبراطورية أواخر أيامها سمح لهم بالتوغل في أوربا بالتزامن مع هجرات قبائل الهون (الهان) المغولية من الشرق. وتحت ضربات قبائل الهون بقيادة أتيلا الشهير وضربات القوط الغربيين بقيادة ألاريك الأول تم الإجهاز على الدولة الرومانية في الغرب واجتاح القوط روما وقتلوا آخر إمبراطور (رومانوس) عام 476م وسقطت أوربا الغربية كلها تحت سيطرة الجرمان ونتج عن ذلك فراغ سياسي وعسكري وفوضى عارمة خلفتها القبائل الجرمانية.
وهنا برز دور الكنيسة المسيحية كقوة لملأ الفراغ الذي خلفه سقوط روما، فادعى باباوات روما أنهم خلفاء المسيح في الأرض بناء على ما خوله المسيح لبطرس من حق الحل والعقد باسم الله، وادعوا تقدم كنيسة روما على ما سواها من الكنائس... ولم يجد ملوك الجرمان بدًا من استرضاء البابا ليضفوا على مَلكياتهم الشرعية، وبهذا امتلك الباباوات -إلى جانب السلطة الدينية على رعاياهم المسيحيين- السلطة الزمنية (الدنيوية) واصبحوا قادرين على خلع أي ملك عن (طريق الحرمان المقدس) بناء على ما ورثوه من القديس بطرس من حق الهي ورثه عن المسيح، وكثير ما اصطدم البابوات بملوك الجرمان وانتصروا عليهم مثل صراعهم الطويل مع الملوك الألمان فريدريك الأول والثاني...
إن الانهيار السياسي الذي عاشته أوربا بعد سقوط روما لم يلبث أن ظهر أثره في انهيار اقتصادي واجتماعي وفكري، ففكريًا تركت الكنيسة بمعتقداتها بصمات واضحة على سائر النواحي العلمية، فاعتبرت أن ميراث الرومان من العلم والفلسفة هو ميراث وثني تجب محاربته، فشاعت ثقافة وفكر ومعتقد واحد مرجعيته في الكتاب المقدس الذي لا يملك أصلًا أي نظام معرفي يملأ الفجوة التي نشأت عن حظر الفكر الروماني.
لكن سلطة البابا المستمدة من السماء بدون أي مرجعية قانونية مكتوبة في الكتاب المقدس كانت كفيلة بأن تجعل الحق والباطل تبعًا لما تراه الكنيسة، وأي محاولة كانت تظهر مخالفة لتوجه الكنيسة كانت تقمع تحت ستار الحرمان الكنسي بتهمة الهرطقة والإلحاد، ودفع الكثيرون حياتهم قتلًا أو حرقًا بسبب مخالفة الكنيسة من أمثال جون هس وجون ويكلف... وهكذا وبسبب الكنيسة ورجالها والنظرة المسيحية للعلم والفكر دخلت أوربا في جهل مطبق طوال ألف عام كانت الثقافة الوحيدة المقبولة و المتداولة هي اللاهوت المقدس.
العلمانيون العرب الذين يسقطون العلمانية على الواقع العربي متجاهلين اختلاف الظروف الموضوعية بين هنا وهناك، هو كمن يقدم وصفة طبية لنفسه وصفها الطبيب لجاره.
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فإن انسياح الجرمان في أوروبا أوجد أسيادًا جددًا في المقاطعات الرومانية، ثم جاء الفتح الإسلامي وأخذ كل حوض المتوسط فانكفأت أوربا على نفسها وأصبح النشاط الاقتصادي الوحيد هو الزراعة. وتحت مسمى الفتح امتلك الملوك الجرمان الأرض ومن عليها من بشر وحيوان، ثم وزعوها على فرسانهم فظهرت نتيجة ذلك حالة غريبة ليس لها مثيل في التاريخ إلا في أوروبا حيث تحول سكان أوروبا الغربية بكاملهم الى عبيد، وصار هناك طبقتين وحيدتين في المجتمع:
طبقة السادة (البترون) وهم الفرسان والأمراء والقواد ورجال الدين. وطبقة أقنان الأرض (الكولون) وهم عموم الناس. وهنا أيضًا كان للكنيسة دورًا في هذا الوضع عن طريق إضفاء المشروعية على هكذا نظام فقام الملوك وأتباعهم بالاستعباد وقامت الكنيسة ورجالها بإقناع المستعبدين بالتسليم وأن هذه إرادة الرب، سيما أن الكنيسة نفسها ورجالها كانت لهم ملكيات تتبع لهم وتعمل بنظام العبودية. فروجت الكنيسة بين أتباعها قول المسيح: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ومن عارض السلطة القائمة على الأرض فقد عارض الله. وعلى الإنسان أن ينأى بنفسه عن الدنيا لأن الدنيا مملكة الشيطان، والآخرة مملكة الرب وطالب مملكة الرب لا حاجة له بالدنيا مملكة الشيطان...
عاشت أوربا على هذا التردي لعشرة قرون حتى بداية الحروب الصليبية على المشرق والأندلس حيث بدأت تحتك وتقتبس معارف الشرق وحضارته فنتج عن ذلك مطلع القرن الثالث عشر ما عرف بعصر النهضة وكان نتيجته انقلابًا في الأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، فظهرت الدول القومية على الصعيد السياسي وبدأ معها عصر الكشوف الجغرافية كمقدمة لحركة الاستعمار الحديث والنهب وتكديس الثروات الذي شكل القاعدة الاقتصادية لتمويل العلم والعمران مع ظهور طبقة من الملوك المثقفين شجعت العلم والعلماء، وأخذ نظام العبودية يتلاشى مع تغير نمط الاقتصاد.
تحت مسمى الفتح امتلك الملوك الجرمان الأرض ومن عليها من بشر وحيوان، ثم وزعوها على فرسانهم فظهرت نتيجة ذلك حالة غريبة ليس لها مثيل في التاريخ إلا في أوروبا.
ودينيًا ظهر الإصلاح الديني من خلال حركات المتمردين (البروتستانت) ضد الكنيسة والبابا والفكر المسيحي الكاثوليكي مما نتج عنه انقسام أوربا دينيًا ودخل الملوك على خط المواجهة فأعلنوا العصيان على البابا، وبعضهم كإنكلترا انفصلت تماما عن روما... ودخلت أوربا في صدام مسلح بين الملوك البروتستانت والكاثوليك في سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، إنكلترا... منذ عام 1517م وانتهت مرحلة الحروب الدينية بصلح ويستفاليا 1648م الذي أقر من جملة قراراته إيقاف الحرب الدينية، وترك للملوك حرية اختيار اعتقاد رعاياهم دون أن يكون للبابا شأن في ذلك، وكان الخاسر الأكبر في النهاية هو البابا فقد أنهى صلح ويستفاليا سيطرة اللاهوت على أوروبا، وكان العام 1648م بداية ظهور العلمانية (اللادينية) كواقع حقيقي.
إن العلمانية الأوربية ظهرت نتيجة تفاعلات دينية وتاريخية عبر قرون طويلة حددت سماتها وما وصلت اليه، فهي بنت الظروف التي ظهرت فيها وتفاعلت معها وليست وصفة جاهزة، وما حاوله العلمانيون العرب ولا زالوا من نقل نتائج العلمانية الأوربية وإسقاطها على الواقع العربي متجاهلين اختلاف الظروف الموضوعية بين هنا وهناك، هو كمن يقدم وصفة طبية لنفسه وصفها الطبيب لجاره.