كوسوفا جرح المسلمين النازف دليل عنصرية ووحشية العلمانية الغربية
26 جمادى الثانية 1428
صراع أمريكي/ روسي/ أوروبي.. وغياب إسلامي منذ أفول شمس الخلافة الإسلامية عن البلقان، وقضية كوسوفا من قضايا المسلمين المنسية، وهي جرح دائم ينزف دماً وصديدا وقد تصاعدت مأساتها في الآونة الأخيرة.
كوسوفا محاصرة من الشمال والشمال الشرقي "بصربيا" ويحدها من الجنوب مقدونيا وألبانيا، ومن الغرب الجبل الأسود، وتبلغ مساحتها 10.887 كيلومتراً مربعا, وعدد سكانها :ثلاثة ملايين نسمة - 90% "ألبـــان" و4% "صرب" و3% "أتراك" و2% "بشناق" و1% "قوميات أخرى" - وتبـلغ نسبة المسلمين : حوالي 95%.. كان اسمها (داردانيا) ومعناه بالعربية أرض الكمثري، ويسميها الصرب (كوسوفو) ويطلق عليها الألبان اسم (كوسوفا) إنها المنطقة البلقانية التي يتصادم فيها كل شيء بكل شيء، الدين بالقومية، والتاريخ بالجغرافيا، ورموز النظام الدولي القديم برموز النظام الدولي الجديد.
دخل الإسلام إلى كوسوفا في عام 1389م، إبَّان الخلافة العثمانية بعد المواجهة الحاسمة بين العثمانيين والصرب ، في المعركة التي اشتهرت باسم "قوصوه" أو "كوسوفا".
ومنذ ذلك اليوم عمل الصرب على إنهاء الوجود الإسلامي في البلقان، وقادوا تحالفا مع بلغاريا والجبل الأسود واليونان لطرد الدولة العثمانية من البلقان، للانتقام من المسلمين هناك.
واشتدت المؤامرات على الدولة العثمانية من الخارج ، وتمكنت صربيا من قيادة التمرد ضد الدولة في الداخل - في منطقة البلقان - واستطاعت أن تنسلخ عن الدولة العثمانية قبيل الحرب الاستعمارية الأولى.
وكانت الطامة التي أخلت بميزان القوى لصالح الصرب هي إعلام الألبان استقلالهم عن الخلافة الإسلامية أثناء الحرب البلقانية العثمانية سنة 1912م، فيما مثل الخروج الأخير من شعوب الخلافة على الدولة العثمانية, ومنذ ذلك الحين انطلقت الحرب على كل ما هو إسلامي في البلقان حرثا ونسلا.
وفي مؤتمر عقدته الدول الغربية المنتصرة في لندن عام 1912م، تم توزيع أجزاء من أراضي بلاد الألبان على المنتصرين. فتقلصت مساحة ألبانيا إلى أقل من الثلث فبعد أن كانت مساحتها حوالي 70 ألف كيلومتر مربع أصبحت حوالي 29 ألف كيلو متر مربع فقط.
وكانت كوسوفا أحد تلك الأراضي المستقطعة من ألبانيا والتي تضمنتها الغنائم المخصصة للمملكة الصربية آنذاك حيث كافأ المجتمع الدولي صربيا بإهدائها كوسوفا، وذلك عبر المؤتمرات الدولية الأربعة الشهيرة في (سان ستيفانو) و(برلين) و(لندن) و(باريس) ، وهذا على وجه التحديد هو تاريخ بداية المذابح الجماعية للمسلمين في البلقان عموماً، وفي البوسنة و كوسوفا خصوصاً, والتي صمت عنها الضمير الإنساني, بل وتواطأ فيها في معظم الأحيان, فالرقم الذي تذكره الإحصائيات عن عدد قتلى المسلمين في كوسوفا وحدها قريب من ربع مليون نسمة، عدا المهاجرين من ديارهم فراراً بدينهم وهم عشرات الألوف..والآن وبعد ستة قرون كاملة على دخول العثمانيين كوسوفا ها هو سلوبودان ميلوسوفيتش يخطب في الصرب قبل الجازر التي ارتكبوها على مرأى ومسمع من العالم "أن معركة كوسوفو لم تنته بعد".تركيا الأتاتوركية واستمرار المؤامرة
ومع صعود التيار الأتاتوركى إلى سدة الحكم في تركيا العلمانية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك بدأت مؤامرة جديدة بين الحكومة التركية وحكومة يوغسلافيا لإفراغ كوسوفا من المسلمين، من خلال تهجير أعداد كبيرة منهم.
وقد تم التوقيع على اتفاقية في عام 1938، تقضي بتهجير 400 ألف عائلة ألبانية مسلمة إلى تركيا. وخلال الحرب الاستعمارية الثانية ظل قادة ما يسمى بحركة التحرير الشعبية ليوغسلافيا (حركة قومية ماركسية) يخدعون الشعب الألباني المسلم في كوسوفا لإقناعهم بالتعاون معهم ضد المملكة الصربية، وأنهم في حال تسلمهم مقاليد الحكم في البلاد سيعيدون هذا الحق المغتصب للمسلمين في كوسوفا.
وبعد اعتلاء الماركسيون الحكم بعد الحرب الاستعمارية الثانية في البلاد أرسلوا وحدات من الجيش لاحتلال كوسوفا الأمر الذي فوجئ به الألبان، وظلوا يقاومون الجيش طيلة ثلاثة أشهر, وقد سقط في هذه المعارك قرابة 50 ألف شهيد من الشعب الألباني المسلم, في واحدة من أكبر حملات الإبادة للشعوب الإسلامية المنكوبة التي سيطروا عليها.
وبالطبع استمرت المؤامرة الغربية لضرب الوجود الإسلامي في أوروبا, ففي عام 1945 م قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي تقسيم الأراضي الألبانية المحتلة بين ثلاث جمهوريات هي (صربيا، ومقدونيا، والجبل الأسود) ومن ثم فقد الحق إقليم كوسوفا بصربيا للمرة الثانية!! وسلمت بعض الأراضي الألبانية ومن عليها من سكان "ألبان" إلى جمهوريتي مقدونيا والجبل الأسود.
وقد نص الدستور اليوغسلافي الذي صدر سنة 1946 م، على "تبعية كوسوفا لصربيا" كإقليم يتمتع بحكم ذاتي، وظل يتقلص تدريجيا إلى أن ألغي بالكامل في دستور سنة 1963 م.
وبصدور دستور سنة 1974م تم تثبيت الحكم الذاتي، وتوسيع نطاقه نتيجة للضعف الذى بدأ يعانى منه الاتحاد السوفييتي، إذ أصبحت كوسوفا بموجبه وحدة فيدرالية واحدة متساوية مع بقية الوحدات الفيدرالية الأخرى في البلاد، وهو ما انطبق على البوسنة أيضاً.
ولم يكن هذا ملبيا لآمال المسلمين الذين عانوا الكثير من الويلات, فقاموا سنة 1981م بثورة شعبية على مستوى كوسوفا كلها، يطالبون فيها باستقلال كوسوفا عن صربيا ومنحها حكما ذاتيا كجمهورية في إطار يوغسلافيا الفيدرالية, وشهد التاريخ للمرة الألف مذبحة لفها الصمت ارتكبها الجيش الصربي المدجج بأفتك أنواع الأسلحة الحديثة التي راحت تحصد المسلمين.
وقدر عدد قتلى المسلمين في اليوم الأول بحوالي 300 قتيل، هذا فضلا عن هدم البيوت، وتدمير المنشات الخدمية، وانتهاك حرمة المساجد والمدارس الدينية، وهتك أعراض الحرائر من أخواتنا المسلمات.
ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وبداية تحلل يوجوسلافيا بخروج سلوفينيا وكرواتيا اللتان رحب بهما الغرب المسيحي وسارع إلى اتخاذ الخطوات المتسارعة لضمهما إلى (الناتو) والاتحاد الأوروبي, بدت مرة أخرى عنصرية الغرب المسيحي ووحشيته عندما أعلنت البوسنة استقلالها, وأعلن الغرب بكل وضوح ووقاحة بأنه "لن يسمح بقيام دولة إسلامية في أوروبا" كما قال قادة أوروبا الموحدة .. مسقطين كل ما ادعوه من عناوين وشعارات عن حرية العقيدة وحق تقرير المصير ... إلى آخر الرطانة الغربية الكاذبة.. وكانت المذابح التي ارتكبت في البوسنة بعد هذا الإعلان مثالا واضحا ومتكررا لبربرية (الحضارة) الغربية مسيحية وعلمانية على حد سواء.
والحديث عن الجرائم التي ارتكبتها أيدي البرابرة الغربيين هناك يحتاج إلى مجلدات, وهو مسجل في أحقر صفحات التاريخ وأكثرها سوادا .. فلم يتركوا جريمة إلا وارتكبوها من القتل والتمثيل بالجثامين الطاهرة, إلى الاغتصاب وقتل الأطفال, إلى تدمير المساجد والمنازل, إلى حظر لغة الشعب الألباني ومنع تدريسها, إلى طرد المسلمين من أعمالهم ووظائفهم العمومية والجيش والأمن وقتل العاملين في تلك الجهات في تصفيات منظمة, ووصلت الخسة إلى حد وضع السم في خزانات مياه المدارس بمدن كوسوفا لقتل أطفال المسلمين, إلى استدعاء التراث التتري في التعامل مع الكتب والعلم بمصادرة الكتب من المكتبات واستخدام أوراقها فى إعادة تصنيع أوراق التغليف, إلى إبادة قرى بكاملها.. قرية راتشاك.
التدخل الدولي ولعبة الصراع والتوافق..
منذ مارس 1999 م تاريخ تدخل الناتو المباشر في الصراع الذي لم يكن غائبا عنه عبر الوسطاء, منذ ذلك التاريخ الذي وضع 16500 جندي من جنود الحلف على أراضى كوسوفا, والمراوحة بين استقلال الإقليم .. والحكم الذاتي الموسع .. والتقسيم.. تعبر عن التجاذب بين الروس والأمريكيين والأوروبيين حول النفوذ في البلقان ذو الموقع الاستراتيجي والغنى بالثروات الطبيعية.. ومن عجائب هذا الزمان أن طائرات الناتو التي تقتل بغاراتها المسلمين في أربعة أركان المعمورة هي نفسها التي قصفت الصرب المتحالفين مع الروس لوقف زحفهم على الألبان في كوسوفا والبوسنة, ولعل أصدق تعبير عن هذا التناقض في مواقف دول الاستكبار هو ما تتمخض عنه اجتماعات الدول الثمان في قضية كوسوفا.. فالروس يظاهرون الموقف الصربي كموضع قدم أخير لهم في البلقان بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, بينما يضغط الأمريكيون للحفاظ على الوضع غير المستقر في البلقان كضرورة لبقاء نفوذ أمريكي سياسي وعسكري مباشر في قلب القارة الأوروبية, وإمكانية دائمة لتوتير الأوضاع في أوربا في حالة تمردها على الإرادة الأمريكية في أي مكان في العالم, وهي ورقة للمقايضة مع الروس على ملف الشيشان, كما هي ورقة في يد الروس لإبعاد الأمريكيين عن الملف الشيشاني أيضا.. والأوروبيين ينظرون إلى تقسيم كوسوفا كحل أمثل لصناعة كنتونات صغيرة متحكم بها وتكفل استقرارا يرفع اليد الأمريكية والروسية من وسط أوروبا.. ويبقى أن الجميع يمارسون اللعب بأوراق هذا الملف مع اتفاق كامل على عدم السماح بقيام دولة إسلامية في أوروبا تمثل تهديدا للحضارة المادية الغربية, ومرتكزا لانطلاق دعوة إسلامية في قلب البلقان يدين بها ثلث سكان البلقان .. والنسبة مرشحة للزيادة في ظل العقائد السائدة بين الطرفين.
المسلمون حضور إغاثي وغياب سياسي واستراتيجي
وسط هذه الصورة المزدحمة بالأوراق والخطوط المتقاطعة والمتوازية يكاد الناظر لا يلمح ورقة تمثل رؤية إسلامية للصراع, سواء على المستوى المباشر, أو حتى على مستوى التعامل مع الدول والقوى الفاعلة في الصراع صاحبة المصالح الحيوية مع دول العالم الإسلامي, اللهم إلا بعض ما سمح به الأمريكيون من معونات إغاثية "محمودة" ولكنها ضمن إطار الرؤية الأمريكية لتسيير الأمور في الصراع.. ولا يبقى هناك من فعل إسلامي مؤثر في الصراع سوى ما يقوم به الألبان من مقاومة بطولية بتكلفة عالية وصبر واحتساب أعلى, فالظاهرة الإسلامية الوحيدة المتبقية في حسابات المعادلة البلقانية.. وخاصة في كسوفو.. هي مقاومة شعبها نفسه (جيش تحرير كوسوفا ـ و حركة الجهاد الإسلامي) لكل محاولات التقسيم والإلحاق التي حاولها الصرب.. ولعلها السبب في عدم وصول الأكلة المتداعين على قصعتنا حتى الآن إلى اتفاق على تقسيم الغنيمة.
إن عودة اللاجئين الألبانيين من مقدونيا وألبانيا والجبل الأسود ودول أوروبا قد صنعت وقائع على الأرض لا يمكن تجاوزها, ولكن مع غياب دور إسلامي على الصعيد الدولي, فإن دولة محاصرة منقوصة السيادة تحت احتلال (أممي), ومحاصرة بأعداء متربصين مدعومين من قوى عظمى ويتمتعون بعمق استراتيجي تفتقده كوسوفا, هي أقصى ما يمكن لكوسوفا أن تصله في الوقت الراهن.
إن كوسوفا تقدم للعالم الإسلامي إمكانية إيجاد قاعدة متقدمة في قلب العدو المتربص بكل ما هو إسلامي.. فهل نتعامل مع قضيتها على هذا المستوى؟! في الوقت الذي أصبح فيه الأعداء يعيثون فسادا في قلب العالم الإسلامي ؟!.. أظن لا