واشنطن تستعيد اوهام سابقة
ل"تغيير الأنظمة" بالقوة
من أبرز ميزات الرئيس ترامب وما يمثله من امتدادات اقتصادية ومصالح كبريات الشركات تيسيره مهمة التنبؤ بحقيقة السياسة الأميركية التي كانت تغلفها الإدارات السابقة بطبقة سميكة من التمويه والتضليل الإعلامي، بالدفاع عن حرية الإنسان في البعد الخارجي، ومحاربة الفقر والعوز في الساحة الداخلية.
دخول واشنطن في نفق المفاوضات المضنية مع إيران فرضته جملة عوامل داخلية عديدة، وخارجية تتعلق بمكانة وهيبة الولايات المتحدة لا سيما تراجعها عالميا عقب هزيمتي العراق وافغانستان، واللتين تنتظران إعلانا رسمياً بذلك لن يتحقق في المدى المنظور.
ما نحن بصدده هو رصد الإرهاصات الداخلية والمتغيرات السلوكية على مجمل السياسة الأميركية، ليس تجاه إيران فحسب، بل في المنطقة العربية برمتها والتي تستنتد أساساً إلى السعي لتحقيق طغيان النفوذ الأميركي وإزالة كل من يقف بطريقه بالقوة.
في معرض تبرير الرئيس ترامب لقراره الانسحاب من الإتفاق النووي أشار فريقه الإعلامي إلى أنه "غير ملزم" قانونيا للولايات المتحدة كونه جاء ثمرة "قرار رئاسي" ولم يعرض على الكونغرس للمصادقة عليه كمعاهدة ملزمة. وجاء الإلغاء بالأسلوب عينه – قرار رئاسي مضاد.
شكليا، رغم صحة الحجة، قد ينطلي بُعدها القانوني على البعض، بيد أن تعقيدات الهيمنة الأميركية على مقدرات العالم تجد ممارسات مثيلة متعددة؛ بدءاً بلجوء الرؤساء الأميركيين إلى ذات "الحيلة" لتمرير سياسات واتفاقات دولية هي في تباين مع توجهات وموازين القوى المتحكمة في بنية الكونغرس.
فمنذ عهد الرئيس نيكسون، على سبيل المثال، رصد خبراء الفقه القانوني ابرام الرئاسة الأميركية نحو 4000 إتفاق دولي، بين 1977 – 1996، تم عرض 300 منها على الكونغرس للمصادقة عليها؛ والباقي خضع لقوة القرار الرئاسي؛ وهو ما نفذه الرئيس اوباما.
علاوة على ذلك، يشير اولئك الخبراء إلى معاهدتين صادق عليهما الكونغرس والغيتا بقرار رئاسي: الأولى كانت معاهدة الدفاع المشترك مع تايوان أبرمت عام 1954 في عهد الرئيس آيزنهاور وألغيت بقرار من الرئيس جيمس كارتر عام 1978؛ والثانية كانت اتفاقية "حظر استخدام الصواريخ الباليستية" الموقعة مع الاتحاد السوفياتي عام 1972، وألغيت من قبل الرئيس جورج بوش الإبن عام 2001.
الحكومات الأميركية المتعاقبة "أبرمت" ما لا يقل عن 500 اتفاقية مع قبائل السكان الأصليين – الهنود الحمر، بين 1778-1871، ونقضتها جميعها ضمت 371 اتفاقية صادق عليها الكونغرس، عند استشعارها استتاب الأوضاع لصالح مشروعها التوسعي بالسيطرة على اراضيهم كافة. كما سعت "لتعديل" بنود بعض الاتفاقيات التي أبرمتها سابقاً لدوافع السيطرة والهيمنة واقتلاع السكان الأصليين.
فيما يخص إيران لم يشذ عهد الرئيس ترامب عن أسلافه وتوقهم لاخضاع البلاد للهيمنة الأميركية – جهاراً نهاراً. سلفه الرئيس "الواقعي" اوباما جهد لتعديل "سلوك النظام،" بالاغراء تارو والتهديد والضغوط تارة أخرى. وكان الإتفاق النووي ثمرة سلسلة طويلة من فشل المراهنات وسياسات التدخل الأخرى، وتحفيز "التطلع نحو الغرب."
إدارة ترامب، بصلافة ووضوح، ترمي لتغيير النظام وسقوطه من الداخل، خاصة بعدما نضجت مساعي تحكم التيارات المتشددة في صنع القرار الأميركي، وأسقطت سياسة "الترغيب والتحفيز" السابقة، جسدتها بإعلان وزير الخارجية الأخير مايك بومبي عن "الاستراتيجية الأميركية الجديدة" نحو إيران، بالكشف عن لائحة شروط من اثني عشر بنداً هي بمثابة مطالب لإيران التخلي عن قراراتها السيادية. أما الآلية المعتمدة فليست لاعتماد الحرب المباشرة بالضرورة في المرحلة الراهنة، كما تروج دول الخليج العربي والكيان الصهيوني، بل بتشديد العقوبات واجراءات الحصار وتشجيع الاحتجاجات الشعبية جراء مفاقمة الأوضاع الاقتصادية.
جدير بالذكر أن مستشار الأمن القومي جون بولتون تحدث أمام مؤتمر "للمعارضة الإيرانية" في واشنطن، عام 2017، متوعداً بعقد اللقاء المقبل "لمنظمة مجاهدي خلق،" عام 2019 ، في طهران. سياسة تغيير النظام كانت تتصدر الاجندات السياسية لكافة الرؤساء الأميركيين منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، تصاعدت حدتها دون قيود منذ قدوم الرئيس ترامب بايعازه لمندوبته في الأمم المتحدة عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لمناقشة المظاهرات التي اندلعت في ايران، نهاية العام الماضي، ضارباً عرض الحائط بميثاق الأمم المتحدة عينها الذي لا يجيز التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
حظوظ سياسات التغيير بالقوة
نظرة سريعة على "الانقلابات" العسكرية التي جرت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين تشير إلى جملة من التعقيدات التقنية واللوجستية في انجاز انقلاب ناجح وسريع ومضمون النتائج. وأمامنا مثالي تركيا، 2016، وفنزويلا قبل بضعة أيام. فالمحاولتين مدعومتان من قبل الأجهزة الأميركية دون مواربة. ربما فشل المحاولة في تركيا كان له أبعاد إقليمية أخرى ساهمت في اجهاضها بفعل الحضور الروسي؛ بينما محاولة واشنطن للضغط على القيادات العسكرية في الجمهورية البوليفارية محاصرة القصر الرئاسي باءت بالفشل لتيقن القوى الوطنية بالدرجة الأولى. بيد أن ذلك لن يقف عائقاً أمام تكرار المحاولات الأميركية في أي بلد بما فيها إيران "عندما تسنح الظروف."
النجاح النسبي لمحاولات واشنطن الانقضاض على النظم المناهضة لهيمنتها، كما في حالة البرازيل، لا تشكل وصفة يمكنها الاقتداء بها. وعليه يمكن للمرء الاسترشاد بمغزى رد طهران، على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، على تصريحات واشنطن بالقول ".. على الإدارة الأميركية دراسة التاريخ قبل العودة إلى نظام تغيير السياسة غير القانوني والوهمي ضد إيران."
أيضاً، تسعى واشنطن لتشكيل "نظام أمن إقليمي" بمشاركة دول الخليج وربما الأردن لمواجهة "الخطر الخارجي،" أي إيران؛ والذي لا يعدو كونه يأتي في سياق ابتزاز أميركي للمنطقة بمجملها.
سياسة اسقاط الأنظمة، كاستراتيجية معتمدة أميركيا، هي أحدى تعبيرات الفشل الاستراتيجي الرامي لاخضاع النظم والشعوب ومواردها البشرية والمادية للسيطرة الأميركية. القاء نظرة سريعة على "تجربة" واشنطن في افغانستان، كعنوان للاحتلال والهيمنة، يشكو الأفغان من شح الاستثمارات لتحسين الأوضاع الاجتماعية: عدم بناء مدارس أو مستشفيات، بل لم تشهد البلاد شق طرق حديثة إلا بما يخدم انتشار وحركة القوات الأميركية ذاتها.
أما احتلال وتدمير العراق فحدث ولا حرج: تدمير منهجي للبنى التحتية القائمة التي كان يشهد لها في درجة تطورها وكفاءة أطقمها الفنية، وانشاء قواعد عسكرية وما يرافقها من منشآت خدماتية.
فهل ستقدم واشنطن "للجماهير الايرانية الغاضبة" نتائج ملموسة أفضل مما تراه في حدائقها الخلفية في كل من أفغانستان والعراق تمكنها من الرهان على الانخراط في مساعي مستدامة لاسقاط النظام من الداخل. رد وزير الخارجية الايراني، سالف الذكر، يقدم أجابة شافية لم تدحضها مساعي "منظمات المعارضة" المدعومة أميركيا.
:::::
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية - المرصد الفكري / البحثي
الموقع: www.thinktankmonitor.org
العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com
ل"تغيير الأنظمة" بالقوة
من أبرز ميزات الرئيس ترامب وما يمثله من امتدادات اقتصادية ومصالح كبريات الشركات تيسيره مهمة التنبؤ بحقيقة السياسة الأميركية التي كانت تغلفها الإدارات السابقة بطبقة سميكة من التمويه والتضليل الإعلامي، بالدفاع عن حرية الإنسان في البعد الخارجي، ومحاربة الفقر والعوز في الساحة الداخلية.
دخول واشنطن في نفق المفاوضات المضنية مع إيران فرضته جملة عوامل داخلية عديدة، وخارجية تتعلق بمكانة وهيبة الولايات المتحدة لا سيما تراجعها عالميا عقب هزيمتي العراق وافغانستان، واللتين تنتظران إعلانا رسمياً بذلك لن يتحقق في المدى المنظور.
ما نحن بصدده هو رصد الإرهاصات الداخلية والمتغيرات السلوكية على مجمل السياسة الأميركية، ليس تجاه إيران فحسب، بل في المنطقة العربية برمتها والتي تستنتد أساساً إلى السعي لتحقيق طغيان النفوذ الأميركي وإزالة كل من يقف بطريقه بالقوة.
في معرض تبرير الرئيس ترامب لقراره الانسحاب من الإتفاق النووي أشار فريقه الإعلامي إلى أنه "غير ملزم" قانونيا للولايات المتحدة كونه جاء ثمرة "قرار رئاسي" ولم يعرض على الكونغرس للمصادقة عليه كمعاهدة ملزمة. وجاء الإلغاء بالأسلوب عينه – قرار رئاسي مضاد.
شكليا، رغم صحة الحجة، قد ينطلي بُعدها القانوني على البعض، بيد أن تعقيدات الهيمنة الأميركية على مقدرات العالم تجد ممارسات مثيلة متعددة؛ بدءاً بلجوء الرؤساء الأميركيين إلى ذات "الحيلة" لتمرير سياسات واتفاقات دولية هي في تباين مع توجهات وموازين القوى المتحكمة في بنية الكونغرس.
فمنذ عهد الرئيس نيكسون، على سبيل المثال، رصد خبراء الفقه القانوني ابرام الرئاسة الأميركية نحو 4000 إتفاق دولي، بين 1977 – 1996، تم عرض 300 منها على الكونغرس للمصادقة عليها؛ والباقي خضع لقوة القرار الرئاسي؛ وهو ما نفذه الرئيس اوباما.
علاوة على ذلك، يشير اولئك الخبراء إلى معاهدتين صادق عليهما الكونغرس والغيتا بقرار رئاسي: الأولى كانت معاهدة الدفاع المشترك مع تايوان أبرمت عام 1954 في عهد الرئيس آيزنهاور وألغيت بقرار من الرئيس جيمس كارتر عام 1978؛ والثانية كانت اتفاقية "حظر استخدام الصواريخ الباليستية" الموقعة مع الاتحاد السوفياتي عام 1972، وألغيت من قبل الرئيس جورج بوش الإبن عام 2001.
الحكومات الأميركية المتعاقبة "أبرمت" ما لا يقل عن 500 اتفاقية مع قبائل السكان الأصليين – الهنود الحمر، بين 1778-1871، ونقضتها جميعها ضمت 371 اتفاقية صادق عليها الكونغرس، عند استشعارها استتاب الأوضاع لصالح مشروعها التوسعي بالسيطرة على اراضيهم كافة. كما سعت "لتعديل" بنود بعض الاتفاقيات التي أبرمتها سابقاً لدوافع السيطرة والهيمنة واقتلاع السكان الأصليين.
فيما يخص إيران لم يشذ عهد الرئيس ترامب عن أسلافه وتوقهم لاخضاع البلاد للهيمنة الأميركية – جهاراً نهاراً. سلفه الرئيس "الواقعي" اوباما جهد لتعديل "سلوك النظام،" بالاغراء تارو والتهديد والضغوط تارة أخرى. وكان الإتفاق النووي ثمرة سلسلة طويلة من فشل المراهنات وسياسات التدخل الأخرى، وتحفيز "التطلع نحو الغرب."
إدارة ترامب، بصلافة ووضوح، ترمي لتغيير النظام وسقوطه من الداخل، خاصة بعدما نضجت مساعي تحكم التيارات المتشددة في صنع القرار الأميركي، وأسقطت سياسة "الترغيب والتحفيز" السابقة، جسدتها بإعلان وزير الخارجية الأخير مايك بومبي عن "الاستراتيجية الأميركية الجديدة" نحو إيران، بالكشف عن لائحة شروط من اثني عشر بنداً هي بمثابة مطالب لإيران التخلي عن قراراتها السيادية. أما الآلية المعتمدة فليست لاعتماد الحرب المباشرة بالضرورة في المرحلة الراهنة، كما تروج دول الخليج العربي والكيان الصهيوني، بل بتشديد العقوبات واجراءات الحصار وتشجيع الاحتجاجات الشعبية جراء مفاقمة الأوضاع الاقتصادية.
جدير بالذكر أن مستشار الأمن القومي جون بولتون تحدث أمام مؤتمر "للمعارضة الإيرانية" في واشنطن، عام 2017، متوعداً بعقد اللقاء المقبل "لمنظمة مجاهدي خلق،" عام 2019 ، في طهران. سياسة تغيير النظام كانت تتصدر الاجندات السياسية لكافة الرؤساء الأميركيين منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، تصاعدت حدتها دون قيود منذ قدوم الرئيس ترامب بايعازه لمندوبته في الأمم المتحدة عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لمناقشة المظاهرات التي اندلعت في ايران، نهاية العام الماضي، ضارباً عرض الحائط بميثاق الأمم المتحدة عينها الذي لا يجيز التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
حظوظ سياسات التغيير بالقوة
نظرة سريعة على "الانقلابات" العسكرية التي جرت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين تشير إلى جملة من التعقيدات التقنية واللوجستية في انجاز انقلاب ناجح وسريع ومضمون النتائج. وأمامنا مثالي تركيا، 2016، وفنزويلا قبل بضعة أيام. فالمحاولتين مدعومتان من قبل الأجهزة الأميركية دون مواربة. ربما فشل المحاولة في تركيا كان له أبعاد إقليمية أخرى ساهمت في اجهاضها بفعل الحضور الروسي؛ بينما محاولة واشنطن للضغط على القيادات العسكرية في الجمهورية البوليفارية محاصرة القصر الرئاسي باءت بالفشل لتيقن القوى الوطنية بالدرجة الأولى. بيد أن ذلك لن يقف عائقاً أمام تكرار المحاولات الأميركية في أي بلد بما فيها إيران "عندما تسنح الظروف."
النجاح النسبي لمحاولات واشنطن الانقضاض على النظم المناهضة لهيمنتها، كما في حالة البرازيل، لا تشكل وصفة يمكنها الاقتداء بها. وعليه يمكن للمرء الاسترشاد بمغزى رد طهران، على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، على تصريحات واشنطن بالقول ".. على الإدارة الأميركية دراسة التاريخ قبل العودة إلى نظام تغيير السياسة غير القانوني والوهمي ضد إيران."
أيضاً، تسعى واشنطن لتشكيل "نظام أمن إقليمي" بمشاركة دول الخليج وربما الأردن لمواجهة "الخطر الخارجي،" أي إيران؛ والذي لا يعدو كونه يأتي في سياق ابتزاز أميركي للمنطقة بمجملها.
سياسة اسقاط الأنظمة، كاستراتيجية معتمدة أميركيا، هي أحدى تعبيرات الفشل الاستراتيجي الرامي لاخضاع النظم والشعوب ومواردها البشرية والمادية للسيطرة الأميركية. القاء نظرة سريعة على "تجربة" واشنطن في افغانستان، كعنوان للاحتلال والهيمنة، يشكو الأفغان من شح الاستثمارات لتحسين الأوضاع الاجتماعية: عدم بناء مدارس أو مستشفيات، بل لم تشهد البلاد شق طرق حديثة إلا بما يخدم انتشار وحركة القوات الأميركية ذاتها.
أما احتلال وتدمير العراق فحدث ولا حرج: تدمير منهجي للبنى التحتية القائمة التي كان يشهد لها في درجة تطورها وكفاءة أطقمها الفنية، وانشاء قواعد عسكرية وما يرافقها من منشآت خدماتية.
فهل ستقدم واشنطن "للجماهير الايرانية الغاضبة" نتائج ملموسة أفضل مما تراه في حدائقها الخلفية في كل من أفغانستان والعراق تمكنها من الرهان على الانخراط في مساعي مستدامة لاسقاط النظام من الداخل. رد وزير الخارجية الايراني، سالف الذكر، يقدم أجابة شافية لم تدحضها مساعي "منظمات المعارضة" المدعومة أميركيا.
:::::
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية - المرصد الفكري / البحثي
الموقع: www.thinktankmonitor.org
العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com