المسيرة والسفارة والصفقة
عبداللطيف مهنا
نصَّب ترامب نفسه مؤرخاً. في يوم احتفالية نقله سفارة بلاده إلى القدس المحتلة شارك المحتفلين من واشنطن زاعماً: إن "القدس هي العاصمة التي أسسها الشعب اليهودي لنفسه في الماضي السحيق". لا من داع لمناقشة ترداده لكذبة تستند لزعم خرافي، ترداد أقله كاشف لجهل مردده، إن لم يكن استهتاره المتعمَّد بالتاريخ. التاريخ حاسم باليبوسية العربية للمدينة تأسيساً، وشاهد على أن الفلسطينيين كانوا في فلسطينهم قبل وبعد سطو مسطِّري التوراة في بابل على اساطير المنطقة وتلفيقها وتحويلها تاريخا مزعوماً، وإنهم، الفلسطينيون، وهم أهلها، قد ظلوا فيها ولم يغادروها حتى يومنا...
لكن ترامب اردف بما له ما يترتب عليه، وهو أن "القدس عاصمة لإسرائيل واليوم نفَّذنا قرار نقل السفارة إلى المدينة"...ماذا يعني؟
أن نقل هذه السفارة، واعتبار المدينة عاصمةً لمحتليها، والاختيار المقصود وغير الاعتباطي لتوقيت نقلها، أي المصادف لذكرى النكبة وقيام كيانهم الغاصب على أنقاض الوطن الفلسطيني، يعني ببساطة وضع كل حكاية القوانين الدولية، وما تدعى قرارات الشرعية الدولية، في سلة المهملات، كما هي العادة إزاء المتعلق بالقضية الفلسطينية. هذا يعني أنه من الآن فصاعداً بالنسبة لواشنطن، ومعها ذيولها وملحقاتها اوروبياً ودولياً، ووفق مستجدات انهيارات الواقع العربي، عربيا، لم يعد من احتلال ولا محتلين في فلسطين، ولا في الأراضي العربية الأخرى، أي الجولان السوري المحتل ومزارع شبعا اللبنانية. لأن الاعتراف بضم القدس المحتلة، واعتبارها عاصمةً لمحتليها، يمكن سحبه ضمناً على كافة المستعمرات التي شيدت في كل المحتل بعد العام 1967...إنه تغيُّر أساس في الخطاب الأميركي المعلن، ولا نقول المُبطَّن، إذ أنه لم يختلف يوماً في جوهره عن هذا المعلن.
الوفد الأميركي القادم للمشاركة في احتفالية نقل السفارة برئاسة ايفانكا ابنة ترامب، والبالغ عديده ثلاثمئة، من بينهم وزير الخزانة، ونائب وزير الخارجية، وصهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، وعشرات أعضاء الكونغرس، كان كل متحدثيه في الاحتفالية يهوداً صهاينةً وغلب على حديثهم في الاحتفالية الطابع الديني. بل قيل إن الوفد بمجملة مشكَّل من يهود صهاينة وإن كان هناك فيه من لم يكن كذلك فمتصهين. من الفئة الأولى مثلاً، وزير الخزانة، ونائب وزير الخارجية، وايفانكا التي تهودت، وزوجها كوشنر، والسفير ديفيد فردمان. الأخير لخَّص كل ما باتت واشنطن لا تنفك راهناً تكرره بشكل أو بآخر من خلف تل ابيب، لدرجة يبدو فيها البيت الأبيض ناطقاً رسمياً باسم ما تعرف ب"الكابينت"، أو الحكومة المصغَّرة، في الكيان الغاصب...قال:
إن نقل السفارة "بُني على مصالح أميركية، وهو يخدم الولايات المتحدة"، ما يعني هنا التطابق الكامل بين الرؤيتين الأميركية والاحتلالية، وترجمته كانت في قوله الآخر، وهو إن نقلها يعد خطوةً "ستخلق فرصةً لدفع المسيرة السلمية على أساس الواقع وليس التهيؤات"! بمعنى أن "صفقة القرن" الموعودة لا تحمل معها سوى فرض فجّ لتصفية القضية، أي حل الأمر الواقع النتنياهوي لا "تهيؤات" الحلول التي قد تخامر الرؤوس التسووية الفلسطينية والعربية.
...وتكتمل صهينة الخطاب الرسمي الأميركي المعلن، أو تخليها عن قناعها التليد، بمفاخرة السفير الأميركي في تغريدة له على "تويتر" يقول فيها: "لقد اعتدنا نحن اليهود أن نقول العام القادم في القدس، والآن نقول هذا العام في القدس"...أما لجهة ما عناه الحدث للكيان الاحتلالي فعبَّر عنه نتنياهو حين اعتبر اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لكيانه لا يقل عن اعتراف ترومان بإعلان قيامه، ولا عن وعد بلفور للحركة الصهيونية...فماذا عن سلطة أوسلو بعد أن اجهزت سفارة ترامب على ما تبقَّى من اتفاقية اوسلو؟
أدانت، وشهرت مجدداً سيف محكمة الجنايات الدولية، ورفعت معه راية وساطة السلام الدولية متعددة الأطراف كبديل للأميركي الذي لم يعد وسيطاً، وعلى صوتها الشاجب لدرجة أن رئيسها قال لأول مرة بما يجمع ولا يختلف عليه الفلسطينيون، حينما وصف السفارة المنقولة إلى القدس ب"المستوطنة"...لكنما كل مواقفها ومجمل ردود افعالها ظلت تعبّر عن انعدام البديل لديها عن تليد مسارها الكارثي على مدار ربع قرن جاءت "مستوطنة" فردمان المقدسية نهاية منطقية لمشواره المدمّر الذي لم يكن ليفضي إلا إليها!!!
وكعادته، في المنعطفات الخطرة التي تداهم قضيته، جاد الشعب الفلسطيني بمستجد من ابتكاراته النضالية التي لا تنفد. مسيرة العودة تكفلت بتبهيت احتفالية ايفانكا المقدسية. تضحيات غزة كانت الباهظة لكنها أعاقت لأجل غير مسمى انعقاد بازار صفقة أبيها...كان عرب التصفية والتطبيع قد اقترحوا هدنة طويلة الأمد مستغلين حصارها وجوعها، لكنما الغزيين بأجسادهم تصدوا للهرولة، وعلى الأسلاك الشائكة اسقط الدم الفلسطيني حديث افك العدو البديل، وأعاد التأشير على العدو الأصيل، ابتنى سده المانع لمتوالية الانهيارات العربية، فخفت حديث الهرولة التطبيعة، واضطرت جامعة الأنظمة للإفاقة من سباتها، بعد مجزرة غزة بيومين، ولحقت بها القمة الإسلامية بعد ثلاثة، واعادوا علينا ذات البيانات التي لطالما عهدناها وحفظناها عن ظهر قلب...المطلوب، أن تتحوَّل مسيرات العودة إلى انتفاضة شاملة يردفها العصيان المدني... وأن تقف جماهير الأمة مع فلسطينها المنتفضة.
عبداللطيف مهنا
نصَّب ترامب نفسه مؤرخاً. في يوم احتفالية نقله سفارة بلاده إلى القدس المحتلة شارك المحتفلين من واشنطن زاعماً: إن "القدس هي العاصمة التي أسسها الشعب اليهودي لنفسه في الماضي السحيق". لا من داع لمناقشة ترداده لكذبة تستند لزعم خرافي، ترداد أقله كاشف لجهل مردده، إن لم يكن استهتاره المتعمَّد بالتاريخ. التاريخ حاسم باليبوسية العربية للمدينة تأسيساً، وشاهد على أن الفلسطينيين كانوا في فلسطينهم قبل وبعد سطو مسطِّري التوراة في بابل على اساطير المنطقة وتلفيقها وتحويلها تاريخا مزعوماً، وإنهم، الفلسطينيون، وهم أهلها، قد ظلوا فيها ولم يغادروها حتى يومنا...
لكن ترامب اردف بما له ما يترتب عليه، وهو أن "القدس عاصمة لإسرائيل واليوم نفَّذنا قرار نقل السفارة إلى المدينة"...ماذا يعني؟
أن نقل هذه السفارة، واعتبار المدينة عاصمةً لمحتليها، والاختيار المقصود وغير الاعتباطي لتوقيت نقلها، أي المصادف لذكرى النكبة وقيام كيانهم الغاصب على أنقاض الوطن الفلسطيني، يعني ببساطة وضع كل حكاية القوانين الدولية، وما تدعى قرارات الشرعية الدولية، في سلة المهملات، كما هي العادة إزاء المتعلق بالقضية الفلسطينية. هذا يعني أنه من الآن فصاعداً بالنسبة لواشنطن، ومعها ذيولها وملحقاتها اوروبياً ودولياً، ووفق مستجدات انهيارات الواقع العربي، عربيا، لم يعد من احتلال ولا محتلين في فلسطين، ولا في الأراضي العربية الأخرى، أي الجولان السوري المحتل ومزارع شبعا اللبنانية. لأن الاعتراف بضم القدس المحتلة، واعتبارها عاصمةً لمحتليها، يمكن سحبه ضمناً على كافة المستعمرات التي شيدت في كل المحتل بعد العام 1967...إنه تغيُّر أساس في الخطاب الأميركي المعلن، ولا نقول المُبطَّن، إذ أنه لم يختلف يوماً في جوهره عن هذا المعلن.
الوفد الأميركي القادم للمشاركة في احتفالية نقل السفارة برئاسة ايفانكا ابنة ترامب، والبالغ عديده ثلاثمئة، من بينهم وزير الخزانة، ونائب وزير الخارجية، وصهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، وعشرات أعضاء الكونغرس، كان كل متحدثيه في الاحتفالية يهوداً صهاينةً وغلب على حديثهم في الاحتفالية الطابع الديني. بل قيل إن الوفد بمجملة مشكَّل من يهود صهاينة وإن كان هناك فيه من لم يكن كذلك فمتصهين. من الفئة الأولى مثلاً، وزير الخزانة، ونائب وزير الخارجية، وايفانكا التي تهودت، وزوجها كوشنر، والسفير ديفيد فردمان. الأخير لخَّص كل ما باتت واشنطن لا تنفك راهناً تكرره بشكل أو بآخر من خلف تل ابيب، لدرجة يبدو فيها البيت الأبيض ناطقاً رسمياً باسم ما تعرف ب"الكابينت"، أو الحكومة المصغَّرة، في الكيان الغاصب...قال:
إن نقل السفارة "بُني على مصالح أميركية، وهو يخدم الولايات المتحدة"، ما يعني هنا التطابق الكامل بين الرؤيتين الأميركية والاحتلالية، وترجمته كانت في قوله الآخر، وهو إن نقلها يعد خطوةً "ستخلق فرصةً لدفع المسيرة السلمية على أساس الواقع وليس التهيؤات"! بمعنى أن "صفقة القرن" الموعودة لا تحمل معها سوى فرض فجّ لتصفية القضية، أي حل الأمر الواقع النتنياهوي لا "تهيؤات" الحلول التي قد تخامر الرؤوس التسووية الفلسطينية والعربية.
...وتكتمل صهينة الخطاب الرسمي الأميركي المعلن، أو تخليها عن قناعها التليد، بمفاخرة السفير الأميركي في تغريدة له على "تويتر" يقول فيها: "لقد اعتدنا نحن اليهود أن نقول العام القادم في القدس، والآن نقول هذا العام في القدس"...أما لجهة ما عناه الحدث للكيان الاحتلالي فعبَّر عنه نتنياهو حين اعتبر اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لكيانه لا يقل عن اعتراف ترومان بإعلان قيامه، ولا عن وعد بلفور للحركة الصهيونية...فماذا عن سلطة أوسلو بعد أن اجهزت سفارة ترامب على ما تبقَّى من اتفاقية اوسلو؟
أدانت، وشهرت مجدداً سيف محكمة الجنايات الدولية، ورفعت معه راية وساطة السلام الدولية متعددة الأطراف كبديل للأميركي الذي لم يعد وسيطاً، وعلى صوتها الشاجب لدرجة أن رئيسها قال لأول مرة بما يجمع ولا يختلف عليه الفلسطينيون، حينما وصف السفارة المنقولة إلى القدس ب"المستوطنة"...لكنما كل مواقفها ومجمل ردود افعالها ظلت تعبّر عن انعدام البديل لديها عن تليد مسارها الكارثي على مدار ربع قرن جاءت "مستوطنة" فردمان المقدسية نهاية منطقية لمشواره المدمّر الذي لم يكن ليفضي إلا إليها!!!
وكعادته، في المنعطفات الخطرة التي تداهم قضيته، جاد الشعب الفلسطيني بمستجد من ابتكاراته النضالية التي لا تنفد. مسيرة العودة تكفلت بتبهيت احتفالية ايفانكا المقدسية. تضحيات غزة كانت الباهظة لكنها أعاقت لأجل غير مسمى انعقاد بازار صفقة أبيها...كان عرب التصفية والتطبيع قد اقترحوا هدنة طويلة الأمد مستغلين حصارها وجوعها، لكنما الغزيين بأجسادهم تصدوا للهرولة، وعلى الأسلاك الشائكة اسقط الدم الفلسطيني حديث افك العدو البديل، وأعاد التأشير على العدو الأصيل، ابتنى سده المانع لمتوالية الانهيارات العربية، فخفت حديث الهرولة التطبيعة، واضطرت جامعة الأنظمة للإفاقة من سباتها، بعد مجزرة غزة بيومين، ولحقت بها القمة الإسلامية بعد ثلاثة، واعادوا علينا ذات البيانات التي لطالما عهدناها وحفظناها عن ظهر قلب...المطلوب، أن تتحوَّل مسيرات العودة إلى انتفاضة شاملة يردفها العصيان المدني... وأن تقف جماهير الأمة مع فلسطينها المنتفضة.