صدق النصح بين العالم والحاكم
روى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال بينما المنصور يطوف ليلا بالبيت سمع قائلا يقول اللهم إليك أشكو ظهور البغي و الفساد و ما يحول بين الحق و أهله من الطمع فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد و أرسل إلى الرجل يدعوه فصلى ركعتين و استلم الركن و أقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة فقال المنصور ما الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي و الفساد في الأرض و ما يحول بين الحق
و أهله من الطمع فو الله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني فقال يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها و إلا احتجزت منك و اقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل قال أنت آمن على نفسك فقل فقال إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه و بين إصلاح ما ظهر من البغي و الفساد لأنت قال ويحك و كيف يدخلني الطمع و الصفراء و البيضاء في قبضتي و الحلو و الحامض عندي قال و هل دخل أحد من الطمع ما دخلك إن الله عز و جل استرعاك المسلمين و أموالهم فأغفلت أمورهم و اهتممت بجمع أموالهم و جعلت بينك و بينهم حجبا من الجص و الآجر و أبوابا من الحديد و حجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم و بعثت عمالك في جباية الأموال و جمعها فقويتهم بالسلاح و الرجال و الكراع و أمرت بألا يدخل عليك إلا فلان و فلان نفر سميتهم و لم تأمر بإيصال المظلوم و الملهوف و لا الجائع و الفقير و لا الضعيف و العاري و لا أحد ممن له في هذا المال حق فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك و آثرتهم على رعيتك و أمرت ألا يحجبوا عنك يجبون الأموال و يجمعونها و يحجبونها و قالوا هذا رجل قد خان الله فما لنا لا نخونه و قد سخرنا فائتمروا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا و لا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا بغضوه عندك و بغوه الغوائل حتى تسقط منزلته و يصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك و عنهم أعظمهم الناس و هابوهم و كان أول من صانعهم عمالك بالهدايا و الأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة و الثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا و فسادا و صار هؤلاء القوم شركاءك في سلطنتك و أنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه و بين دخول
دارك و إن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك و قد نهيت عن ذلك و وقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء المتظلم إليه أرسلوا إلى صاحب المظالم ألا يرفع إليك قصته و لا يكشف لك حاله فيجيبهم خوفا منك فلا يزال المظلوم يختلف نحوه و يلوذ به و يستغيث إليه و هو يدفعه و يعتل عليه و إذا أجهد و أحرج و ظهرت أنت لبعض شأنك صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره و أنت تنظر و لا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا . و لقد كنت أيام شبيبتي أسافر إلى الصين فقدمتها مرة و قد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا فحداه جلساؤه على الصبر فقال أما إني لست أبكي للبلية النازلة و لكن أبكي للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته ثم قال أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه و أنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال و ما من مال يومئذ إلا و دونه يد شحيحة تحويه فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه و لست بالذي تعطي و لكن الله يعطي من يشاء ما يشاء و إن قلت إنما أجمع المال لتشييد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب و الفضة و أعدوا من الرجال و السلاح و الكراع حين أراد الله بهم ما أراد و إن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه انظر هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل قال لا قال فإن الملك الذي خولك ما خولك لا يعاقب من عصاه بالقتل بالخلود في العذاب الأليم و قد رأى ما قد عقدت عليه قلبك و عملته جوارحك و نظر إليه بصرك و اجترحته يداك و مشت إليه رجلاك و انظر هل يغني عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا انتزعه من يدك و دعاك إلى الحساب على ما منحك . فبكى المنصور و قال ليتني لم أخلق ويحك فكيف أحتال لنفسي قال إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم و يرضون بقولهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك و شاورهم في أمرك يسددوك قال قد بعثت إليهم فهربوا مني قال نعم خافوا أن تحملهم على طريقك و لكن افتح بابك و سهل حجابك و انظر المظلوم و اقمع الظالم و خذ الفيء و الصدقات مما حل و طاب و اقسمه بالحق و العدل على أهله و أنا الضامن عنهم أن يأتوك و يسعدوك على صلاح الأمة . و جاء المؤذنون فسلموا عليه و نادوا بالصلاة فقام و صلى و عاد إلى مجلسه فطلب الرجل فلم يوجد .
روى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال بينما المنصور يطوف ليلا بالبيت سمع قائلا يقول اللهم إليك أشكو ظهور البغي و الفساد و ما يحول بين الحق و أهله من الطمع فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد و أرسل إلى الرجل يدعوه فصلى ركعتين و استلم الركن و أقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة فقال المنصور ما الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي و الفساد في الأرض و ما يحول بين الحق
و أهله من الطمع فو الله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني فقال يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها و إلا احتجزت منك و اقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل قال أنت آمن على نفسك فقل فقال إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه و بين إصلاح ما ظهر من البغي و الفساد لأنت قال ويحك و كيف يدخلني الطمع و الصفراء و البيضاء في قبضتي و الحلو و الحامض عندي قال و هل دخل أحد من الطمع ما دخلك إن الله عز و جل استرعاك المسلمين و أموالهم فأغفلت أمورهم و اهتممت بجمع أموالهم و جعلت بينك و بينهم حجبا من الجص و الآجر و أبوابا من الحديد و حجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم و بعثت عمالك في جباية الأموال و جمعها فقويتهم بالسلاح و الرجال و الكراع و أمرت بألا يدخل عليك إلا فلان و فلان نفر سميتهم و لم تأمر بإيصال المظلوم و الملهوف و لا الجائع و الفقير و لا الضعيف و العاري و لا أحد ممن له في هذا المال حق فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك و آثرتهم على رعيتك و أمرت ألا يحجبوا عنك يجبون الأموال و يجمعونها و يحجبونها و قالوا هذا رجل قد خان الله فما لنا لا نخونه و قد سخرنا فائتمروا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا و لا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا بغضوه عندك و بغوه الغوائل حتى تسقط منزلته و يصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك و عنهم أعظمهم الناس و هابوهم و كان أول من صانعهم عمالك بالهدايا و الأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة و الثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا و فسادا و صار هؤلاء القوم شركاءك في سلطنتك و أنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه و بين دخول
دارك و إن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك و قد نهيت عن ذلك و وقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء المتظلم إليه أرسلوا إلى صاحب المظالم ألا يرفع إليك قصته و لا يكشف لك حاله فيجيبهم خوفا منك فلا يزال المظلوم يختلف نحوه و يلوذ به و يستغيث إليه و هو يدفعه و يعتل عليه و إذا أجهد و أحرج و ظهرت أنت لبعض شأنك صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره و أنت تنظر و لا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا . و لقد كنت أيام شبيبتي أسافر إلى الصين فقدمتها مرة و قد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا فحداه جلساؤه على الصبر فقال أما إني لست أبكي للبلية النازلة و لكن أبكي للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته ثم قال أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه و أنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال و ما من مال يومئذ إلا و دونه يد شحيحة تحويه فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه و لست بالذي تعطي و لكن الله يعطي من يشاء ما يشاء و إن قلت إنما أجمع المال لتشييد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب و الفضة و أعدوا من الرجال و السلاح و الكراع حين أراد الله بهم ما أراد و إن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه انظر هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل قال لا قال فإن الملك الذي خولك ما خولك لا يعاقب من عصاه بالقتل بالخلود في العذاب الأليم و قد رأى ما قد عقدت عليه قلبك و عملته جوارحك و نظر إليه بصرك و اجترحته يداك و مشت إليه رجلاك و انظر هل يغني عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا انتزعه من يدك و دعاك إلى الحساب على ما منحك . فبكى المنصور و قال ليتني لم أخلق ويحك فكيف أحتال لنفسي قال إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم و يرضون بقولهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك و شاورهم في أمرك يسددوك قال قد بعثت إليهم فهربوا مني قال نعم خافوا أن تحملهم على طريقك و لكن افتح بابك و سهل حجابك و انظر المظلوم و اقمع الظالم و خذ الفيء و الصدقات مما حل و طاب و اقسمه بالحق و العدل على أهله و أنا الضامن عنهم أن يأتوك و يسعدوك على صلاح الأمة . و جاء المؤذنون فسلموا عليه و نادوا بالصلاة فقام و صلى و عاد إلى مجلسه فطلب الرجل فلم يوجد .