هناك شيء رائع يحدث عندما تكتب...
عندما تأخذ قلمك الأسود و ورقة بيضاء لتخطّ بعض الكلمات..لتخطّ أحياناً تفاصيل حياتك لكنّك مهما ادّعيت الصّدق في قول الحقيقة لابدّ في بعض الأحيان أن تكذب.
أحياناً تكتب للآخرين..و أحياناً أخرى تكتب لنفسك..ما أجمله من شعور حينما تغلق باب الغرفة و تجلس إلى طاولتك و تكتب عن نفسك لنفسك..تقرأ لها و هي تستمع إليك..تحدّثها و هي تصغي إليك.
قالت صديقتي ذات يوم،أنّني مجنونة ،قالت كلّ الموجودات تخلد إلى سكينة اللّيل إلاّ أنا.. قالت إنّها الواحدة ليلا و أنت تكتبين!!
قلت لها:"صدّقيني أختاه، الكلمات تسري في عروقي لا الدّم الأحمر القاتم..أتنفّس الحروف لا الأكسجين.. صحيح، السّاعة متأخّرة جدّا، الطّقس بارد...لكن قلمي الأسود ناداني..منضدتي تنتظرني.
ضحكت و قالت:" أيّ كائن عجيب أنت، حتّى برد الشتاء الذي يلسعك من خدّك و أطراف أصابعك تقاومينه من أجل أن تكتبي ما يجول في ذهنك هاته السّاعة..ألم أخبرك أنّك مجنونة؟؟!
نظرت إليها و البسمة مرسومة على شفتيّ، صحيح أنّني مجنونة..و عالمك عالم الغرف الضّيّقة يخنقني.. صحيح أقبع حذوك الآن في هذه الزّنزانة لكن جسدا ضعيفا فقط أنهكه التّعب ،رحلات الميترو المزدحم و ضوضاء الحافلة المكتظّة، إنّما الرّوح سافرت إلى عالمها الجميل هوس الكتابة..تخيّلي قلم أسود و ورقة بيضاء ..تخيّلي أن يلتقي النّقيض بنقيضه و يتّحدا لتكتمل اللّوحة الجميلة قبح السّواد و جمال البياض.
أختاه، دعيني أخبرك..فكثيرا ما تتساءلين لماذ أكتب؟
أنت تسألينني لماذا آكل؟ لماذا أشرب؟ لماذا ألبس؟ لماذا أتنفّس؟ لماذا أفرح؟ لماذا أحزن؟ باختصار لأحيا، تماما حينما تتساءلين لماذا أكتب؟.. باختصار لأحيا.. نعم بالكتابة أحيا.
أذكر جيّدا تفاصيل ذاك المشهد و أنا في الحافلة، كانت الحافلة مزدحمة بالرّكاب.. مازالت ملامح ذاك الرّجل مرسومة في ذاكرتي،كان قصير القامة، هزيل الجسم، تقريبا في السّبعين من عمره،يحمل سطلا به معدّات البناء في يده اليمنى و يمسك بيده اليسرى قضبان حديد الحافلة لأنّ الحافلة وقتذاك كانت تتمايل كالسّنابل في الحقل التي تحرّكها نسمات الرّيح،كان جاحظ العينين و لكن بريقهما خافت فتفهم أنّ الحياة قست عليه كثيرا،عروق يديه بارزة يكاد الدّم يتدفّق منهما..كان يسند رأسه الذي اشتعل شيبا إلى مقعد أحد الشّبان..أنا أيضا لم أحصل على مقعد مثله لكنت وهبته إيّاه و الحال أنّ من حجز كرسي في الحافلة كأنّه نال كنزا ثمينا..آلمني المشهد كثيرا..فتحت حقيبتي و أخرجت منها هاتفي و دوّنت أحداث ذلك اليوم، كم وددت لو أخذت القلم و شرعت في الكتابة في تلك السّاعة لكن الحافلة كانت مزدحمة.
سمعت قهقهات كنت ألفتها..إنّها قهقهات صديقتي، سألتها ما خطبك؟
قالت:"و اللّه أنت مجنونة!!..هيّا،لنذهب إلى مستشفى المجانين "الرّازي" إنّه قريب .
ضحكت و قلت لها:" ألم يقل ميشيل فوكو "المجنون هو الذي فقد كلّ شيء إلاّ عقله" دعيني في جنوني أغرق..فكلّما همس حرف تحت سقف جمجمتي توجّب عليّ تدوين كلّ ما يحدث..منذ العاشرة بدأت بالكتابة.. كنت حينها أدوّن كلّ شيء.. أحداث اليوم في المدرسة الابتدائية التي مازالت كلّ تفاصيلها محفورة في الذّاكرة إلى الآن..حتى الرّسوم المتحرّكة التي كنت أشاهدها لم أكتف بمشاهدتها بل كنت أجعل من الكلمات تلمس كذلك..أمر غريب أن أفكّر بتلك الطريقة منذ الطّفولة..الأمر لا يتوقّف عند الطّفولة و لم يقتصر على أحداث اليوم و تلك المغامرات البريئة التي نعيشها كلّ يوم..
أتذكرين صديقتي ساحة المدرسة حينما كنّا نلعب لعبة "الغمّيضة"...و فجأة يظهر المدير مكشّرا عن أنيابه يحمل بيده عصا من الزّيتون كتب عليها اسم "سرهودة" ،أتذكرين حينما كان يسألنا عن جدول الضرب، لا أنسى ذاك العدد(7 ضارب كانت إجابتي صحيحة و رغم ذلك المدير ضربني..بكيت حينها و لم أهمس بحرف حتى حينما عدت إلى البيت لم أخبر والدي لأنّه هو الآخر سيضربني دون معرفة السّبب..حقا كانت أيّاما رائعة..أحنّ إليها كثيرا..كلّ شيء دوّنته في كرّاسي لأنّ الذاكرة خؤون فحتما ستخونني و تنسى بعض التّفاصيل كلّما تقدّم بي العمر..لم يقتصر الأمر على أحداث تلك الأيّام بل يتّسع و يطول و يتعقّد بالكثير من فوضى المشاعر ،قلق و خوف و أمل و حزن و فرح و شوق و عشق..إنّها فترة المراهقة حتّى في تلك الفترة كنت أتّبع نفس المنهاج في تدوين الأيّام..ملامح أساتذتي..أقوالهم..علاقتي بأصدقائي..و ذاك الفتى الذي فتك بقلبي فجأة دون أن يستشرني و أنا في الرّابعة عشرة من عمري..كنت أدوّن كلّ ما يحدث..لكن الطّابع الغالب في تلك الفترة،فترة المراهقة، هو تركيزي على ما أشعر به و ليس على أحداث اليوم كفترة الطّفولة.
صديقتي كلّما أحسست أنّ عقلي امتلأ بالأفكار و الاحتمالات التي أخشى أحياناً أن يتورّم منها رأسي أهرول لأكتب.
#لماذا تكتبين؟..لأنّني بالكتابة أحيا#
مروى زيتوني
عندما تأخذ قلمك الأسود و ورقة بيضاء لتخطّ بعض الكلمات..لتخطّ أحياناً تفاصيل حياتك لكنّك مهما ادّعيت الصّدق في قول الحقيقة لابدّ في بعض الأحيان أن تكذب.
أحياناً تكتب للآخرين..و أحياناً أخرى تكتب لنفسك..ما أجمله من شعور حينما تغلق باب الغرفة و تجلس إلى طاولتك و تكتب عن نفسك لنفسك..تقرأ لها و هي تستمع إليك..تحدّثها و هي تصغي إليك.
قالت صديقتي ذات يوم،أنّني مجنونة ،قالت كلّ الموجودات تخلد إلى سكينة اللّيل إلاّ أنا.. قالت إنّها الواحدة ليلا و أنت تكتبين!!
قلت لها:"صدّقيني أختاه، الكلمات تسري في عروقي لا الدّم الأحمر القاتم..أتنفّس الحروف لا الأكسجين.. صحيح، السّاعة متأخّرة جدّا، الطّقس بارد...لكن قلمي الأسود ناداني..منضدتي تنتظرني.
ضحكت و قالت:" أيّ كائن عجيب أنت، حتّى برد الشتاء الذي يلسعك من خدّك و أطراف أصابعك تقاومينه من أجل أن تكتبي ما يجول في ذهنك هاته السّاعة..ألم أخبرك أنّك مجنونة؟؟!
نظرت إليها و البسمة مرسومة على شفتيّ، صحيح أنّني مجنونة..و عالمك عالم الغرف الضّيّقة يخنقني.. صحيح أقبع حذوك الآن في هذه الزّنزانة لكن جسدا ضعيفا فقط أنهكه التّعب ،رحلات الميترو المزدحم و ضوضاء الحافلة المكتظّة، إنّما الرّوح سافرت إلى عالمها الجميل هوس الكتابة..تخيّلي قلم أسود و ورقة بيضاء ..تخيّلي أن يلتقي النّقيض بنقيضه و يتّحدا لتكتمل اللّوحة الجميلة قبح السّواد و جمال البياض.
أختاه، دعيني أخبرك..فكثيرا ما تتساءلين لماذ أكتب؟
أنت تسألينني لماذا آكل؟ لماذا أشرب؟ لماذا ألبس؟ لماذا أتنفّس؟ لماذا أفرح؟ لماذا أحزن؟ باختصار لأحيا، تماما حينما تتساءلين لماذا أكتب؟.. باختصار لأحيا.. نعم بالكتابة أحيا.
أذكر جيّدا تفاصيل ذاك المشهد و أنا في الحافلة، كانت الحافلة مزدحمة بالرّكاب.. مازالت ملامح ذاك الرّجل مرسومة في ذاكرتي،كان قصير القامة، هزيل الجسم، تقريبا في السّبعين من عمره،يحمل سطلا به معدّات البناء في يده اليمنى و يمسك بيده اليسرى قضبان حديد الحافلة لأنّ الحافلة وقتذاك كانت تتمايل كالسّنابل في الحقل التي تحرّكها نسمات الرّيح،كان جاحظ العينين و لكن بريقهما خافت فتفهم أنّ الحياة قست عليه كثيرا،عروق يديه بارزة يكاد الدّم يتدفّق منهما..كان يسند رأسه الذي اشتعل شيبا إلى مقعد أحد الشّبان..أنا أيضا لم أحصل على مقعد مثله لكنت وهبته إيّاه و الحال أنّ من حجز كرسي في الحافلة كأنّه نال كنزا ثمينا..آلمني المشهد كثيرا..فتحت حقيبتي و أخرجت منها هاتفي و دوّنت أحداث ذلك اليوم، كم وددت لو أخذت القلم و شرعت في الكتابة في تلك السّاعة لكن الحافلة كانت مزدحمة.
سمعت قهقهات كنت ألفتها..إنّها قهقهات صديقتي، سألتها ما خطبك؟
قالت:"و اللّه أنت مجنونة!!..هيّا،لنذهب إلى مستشفى المجانين "الرّازي" إنّه قريب .
ضحكت و قلت لها:" ألم يقل ميشيل فوكو "المجنون هو الذي فقد كلّ شيء إلاّ عقله" دعيني في جنوني أغرق..فكلّما همس حرف تحت سقف جمجمتي توجّب عليّ تدوين كلّ ما يحدث..منذ العاشرة بدأت بالكتابة.. كنت حينها أدوّن كلّ شيء.. أحداث اليوم في المدرسة الابتدائية التي مازالت كلّ تفاصيلها محفورة في الذّاكرة إلى الآن..حتى الرّسوم المتحرّكة التي كنت أشاهدها لم أكتف بمشاهدتها بل كنت أجعل من الكلمات تلمس كذلك..أمر غريب أن أفكّر بتلك الطريقة منذ الطّفولة..الأمر لا يتوقّف عند الطّفولة و لم يقتصر على أحداث اليوم و تلك المغامرات البريئة التي نعيشها كلّ يوم..
أتذكرين صديقتي ساحة المدرسة حينما كنّا نلعب لعبة "الغمّيضة"...و فجأة يظهر المدير مكشّرا عن أنيابه يحمل بيده عصا من الزّيتون كتب عليها اسم "سرهودة" ،أتذكرين حينما كان يسألنا عن جدول الضرب، لا أنسى ذاك العدد(7 ضارب كانت إجابتي صحيحة و رغم ذلك المدير ضربني..بكيت حينها و لم أهمس بحرف حتى حينما عدت إلى البيت لم أخبر والدي لأنّه هو الآخر سيضربني دون معرفة السّبب..حقا كانت أيّاما رائعة..أحنّ إليها كثيرا..كلّ شيء دوّنته في كرّاسي لأنّ الذاكرة خؤون فحتما ستخونني و تنسى بعض التّفاصيل كلّما تقدّم بي العمر..لم يقتصر الأمر على أحداث تلك الأيّام بل يتّسع و يطول و يتعقّد بالكثير من فوضى المشاعر ،قلق و خوف و أمل و حزن و فرح و شوق و عشق..إنّها فترة المراهقة حتّى في تلك الفترة كنت أتّبع نفس المنهاج في تدوين الأيّام..ملامح أساتذتي..أقوالهم..علاقتي بأصدقائي..و ذاك الفتى الذي فتك بقلبي فجأة دون أن يستشرني و أنا في الرّابعة عشرة من عمري..كنت أدوّن كلّ ما يحدث..لكن الطّابع الغالب في تلك الفترة،فترة المراهقة، هو تركيزي على ما أشعر به و ليس على أحداث اليوم كفترة الطّفولة.
صديقتي كلّما أحسست أنّ عقلي امتلأ بالأفكار و الاحتمالات التي أخشى أحياناً أن يتورّم منها رأسي أهرول لأكتب.
#لماذا تكتبين؟..لأنّني بالكتابة أحيا#
مروى زيتوني