أم عمر ... أمي، تمظهرات يوم الأم، وأم في مزبلة
عادل سمارة
ليس دافع المرء الكتابة عن الأيام التي صنعتها المركزانية الأوروبية أو الغربية المعولمة. فرفضها مثابة مقاومة ورفض تبعية اصبحت من المسلَّمات لدى كثرة بين البساطة والتقليد والتبعية بقصد ووعي.
شدَّني وجه وتماسًك أم الفدائي/الشهيد عمر أبو ليلى منذ اللحظة الأولى. لم أقرأ فيه سوى الصلابة والتماسُك ولم يتغير انطباعي.
في الهزيع الأخير من الليل قرأت ما كتبه الرفيق زياد العزة وبعض الأصدقاء عن ما قيل على قناة "العربية" على لسان امرأة موظفة هناك فلسطينية/اردنية، لا فرق: "أنا لا اضحي بإبني من اجل فلسطين".
بداية هناك قراءات لموقف ام الفدائي الشهيدعمر:
الأولى: هي تماسك العقل وسيطرته على الأعصاب حين يكون الإنسان على وعي بالحدث وإيمان به ويتوقعه. هنا كانت الأم قوة مثال أو تحولت إلى قوة مثال تشد أزر كل من يحيط بها. لذا، كان حديثها عادي جدا كأنها تتحدث عن عمر وهو أمامها بلحمه ودمه. وهذه قدرة ذهنية قلما يتمتع بها الإنسان.
هناك من يستغرب هذا من امرأة ولا يستغربه من رجل، وهذا طبعا نتاج خلفية تاريخية هائلة من تمجيد الذكورة ونسب الصلابة لها وغمط المرأة قدرتها على مواجهة الصدمات كي تغسل الألم بالدمع. فالدمع مريح، ومع ذلك لا تبكي. البكاء ليس سوى حالة إنسانية لا فرق فيها بين رجل وامرأة. قيل أن النبي الكريم محمد قال حينما توفي ابنه القاسم: "إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع". والسؤال المعلق، متى تبكي أم الفدائي/الشهيد؟
والثانية: "هذه النقطة لا تتعلق بقناة العربية وموظفتها فهؤلاء خارج سياق العروبة. بل موجهة إلى من استغربوا/ن عدم بكاء ولا انهيار أم عمر لم يحاولوا قراءة اللحظة او الموقف في سياق:
تجربة قرن للأم فلسطين، وتجربة ثلاثة عقود للأم العراق، وتجربة عقد للأم ليبيا وللأم سوريا وخمس سنوات للأم اليمن...الخ ألا يفهم هؤلاء أن هاتيك الأمهات/الأوطان لم يبكين الملايين؟ ألا يفهمون بأن هذا الفيض الهائل من الدم يُجمِّد الدمع! ألا يجوز للدم المعمم أن يجمد الدمع؟
والثالثة: طبيعي ان لا يكون هناك بكاء ولا اهتزاز حين تكون الأم على اطلاع بما يجهز ابنها نفسه له. ليس شرطا أن يكنَّ في الخلية او التنظيم، فهنَّ في الاشتباك بحكم أنهن من الشعب المشتبك هو نفسه. يراقبننا بصمت من بعيد ولا يتدخلن. ولا يقلن، دعك من هذا، وفي الغالب إن تحدثن يقلن: "دير بالك" بينما ألأب يتدخل وينصح ويلوم أحياناً، هكذا كان أبي ولم تكن أمي هكذا . إذن، وحدهن اللواتي يعلمن ما نعمل. الأمهات بالمجمل أكثر وطنية من الآباء ولهن الحق بدمنا لأننا قطعة منهن ولا يضيرهن ان يمنعهن أو تهزهن سيطرة الآباء علينا وتحويلهن إلى مجرد ماكينة إنجاب. وحين يبكين يفترض الذكور انها صنعتهن، وهي في الحقيقة حرقة من انتجننا بيولوجياً لأنهن الأصل. وحين لا يبكين يصبحن محط إدانة من البعض.
والرابعة: قوة الصدمة بالاستشهاد حتى لو كان متوقعاً. ومهما جهز المرء نفسه لحدث جلل، ليس شرطاً أن لا يُصدم. وأعتقد أن أم هذا الفدائي كانت بين الصلابة وصدمة الحدث والاطلاع معاً.
لا تستحق المذيعة كل هذا الاهتمام، فالمشكلة في المزبلة التي تعمل بها، بل في جحيم العمل المأجور الذي يرغم المرء على ما يكره. وما اقل الشريفات والشرفاء الذين يتحملون شظف العيش ويرفضون لقمة مغموسة بجوع الغير فما بالك بدم الشهيد. في العمل المأجور يتم تحطيم إنسانية المرء سواء تدريجيا أو دفعة واحدة فيصح دمية بعضها رخيص كمشهد تلك المرأة، وبعضها يتآكل من داخله حتى يرحل.
مات ابي يوم 25 ايار 1965 على الرصيف في رام الله بعد أن أخبره ضابط الارتباط مع العدو أنني قُتلت على اسلاك تفصل قرية بيت صفافا المحتلة عن التي لم تكن قد أُحتلت بعد. وأُخرجت بكفالة لأحضر الجنازة. لم تبك أمي أبداً. بل لم نراها يوماً تبكي، ومنذ 1958 وحتى سنوات قليلة بعد أن أخذ مني العمر ما يريد.
بعد هزيمة حزيران 1967 كان بيتنا مستراحا لدوريات القادمين عبر النهر من رفاق الجبهة الشعبية، وكانت أختاي يخبزن في الطابون يوميا ل 24 مقاتلا، وكانت أمي تمسك ميزانية البيت نتاج ارضنا وتنفق على كل شيء. ولا اذكر انها اشتكت او تبرمت او لامت أو حتى ناقشت ونصحت ابداً وكأنها ليست هنا او كأنها جارة لا تعرف ماذا نفعل.
سُجن معظمنا وهدمت بيوتنا ولم تبك. وسُجنت كي تسلم سلاحي ولم تبك، وكانت تعلم ماذا نفعل. بل اصرت على أن يقدموا لها السجائر في سجن رام الله.
كان أهل القرية يسمونها "ليفي أشكول" رئيس وزراء العدو أثناء حرب 1967، لأنها كانت قوية وتركض ورائنا من سجن لسجن منذ 1958. وكانوا يتهامسون أننا نقبض أموالا هائلة من المقاومة!!! أما لبراليو جامعة بير زيت فكانوا يقولون إن عادل سمارة إقطاعي وزوجته مليونيرة، لذا ينتقد ولا يكترث فهو ليس بحاجة للعمل في جامعة.
مرة واحدة فقط فتحت باب غرفتها وهي وحيدة فإذا بها تبكي لوحدها.
ملاحظة: أشعر بالخزي حين أقرأ للبعض أقوالاً بأن أهل الخليج بدو، وأننا الشوام أو السوريين بلا رابط معهم، أو أن قناة المزبلة تمثل عرب الخليج...الخ بصراحة هذه شوفينية مريضة عمياء، وخطورتها الأكبر أنها جاهزة للاختراق المركزاني الغربي لأنها تشعر بأن الغرب اعلى منها وسيدها. لعل اوضح تعبير عن ما اقول، أولئك الذي يقيمون حفل عشاء للعدو الأمريكي بمبيو في بيروت والذين يقيمون في فنادق انقرة باسم "المعارضات" السورية، والذين يطبعون مع العدو.
عادل سمارة
ليس دافع المرء الكتابة عن الأيام التي صنعتها المركزانية الأوروبية أو الغربية المعولمة. فرفضها مثابة مقاومة ورفض تبعية اصبحت من المسلَّمات لدى كثرة بين البساطة والتقليد والتبعية بقصد ووعي.
شدَّني وجه وتماسًك أم الفدائي/الشهيد عمر أبو ليلى منذ اللحظة الأولى. لم أقرأ فيه سوى الصلابة والتماسُك ولم يتغير انطباعي.
في الهزيع الأخير من الليل قرأت ما كتبه الرفيق زياد العزة وبعض الأصدقاء عن ما قيل على قناة "العربية" على لسان امرأة موظفة هناك فلسطينية/اردنية، لا فرق: "أنا لا اضحي بإبني من اجل فلسطين".
بداية هناك قراءات لموقف ام الفدائي الشهيدعمر:
الأولى: هي تماسك العقل وسيطرته على الأعصاب حين يكون الإنسان على وعي بالحدث وإيمان به ويتوقعه. هنا كانت الأم قوة مثال أو تحولت إلى قوة مثال تشد أزر كل من يحيط بها. لذا، كان حديثها عادي جدا كأنها تتحدث عن عمر وهو أمامها بلحمه ودمه. وهذه قدرة ذهنية قلما يتمتع بها الإنسان.
هناك من يستغرب هذا من امرأة ولا يستغربه من رجل، وهذا طبعا نتاج خلفية تاريخية هائلة من تمجيد الذكورة ونسب الصلابة لها وغمط المرأة قدرتها على مواجهة الصدمات كي تغسل الألم بالدمع. فالدمع مريح، ومع ذلك لا تبكي. البكاء ليس سوى حالة إنسانية لا فرق فيها بين رجل وامرأة. قيل أن النبي الكريم محمد قال حينما توفي ابنه القاسم: "إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع". والسؤال المعلق، متى تبكي أم الفدائي/الشهيد؟
والثانية: "هذه النقطة لا تتعلق بقناة العربية وموظفتها فهؤلاء خارج سياق العروبة. بل موجهة إلى من استغربوا/ن عدم بكاء ولا انهيار أم عمر لم يحاولوا قراءة اللحظة او الموقف في سياق:
تجربة قرن للأم فلسطين، وتجربة ثلاثة عقود للأم العراق، وتجربة عقد للأم ليبيا وللأم سوريا وخمس سنوات للأم اليمن...الخ ألا يفهم هؤلاء أن هاتيك الأمهات/الأوطان لم يبكين الملايين؟ ألا يفهمون بأن هذا الفيض الهائل من الدم يُجمِّد الدمع! ألا يجوز للدم المعمم أن يجمد الدمع؟
والثالثة: طبيعي ان لا يكون هناك بكاء ولا اهتزاز حين تكون الأم على اطلاع بما يجهز ابنها نفسه له. ليس شرطا أن يكنَّ في الخلية او التنظيم، فهنَّ في الاشتباك بحكم أنهن من الشعب المشتبك هو نفسه. يراقبننا بصمت من بعيد ولا يتدخلن. ولا يقلن، دعك من هذا، وفي الغالب إن تحدثن يقلن: "دير بالك" بينما ألأب يتدخل وينصح ويلوم أحياناً، هكذا كان أبي ولم تكن أمي هكذا . إذن، وحدهن اللواتي يعلمن ما نعمل. الأمهات بالمجمل أكثر وطنية من الآباء ولهن الحق بدمنا لأننا قطعة منهن ولا يضيرهن ان يمنعهن أو تهزهن سيطرة الآباء علينا وتحويلهن إلى مجرد ماكينة إنجاب. وحين يبكين يفترض الذكور انها صنعتهن، وهي في الحقيقة حرقة من انتجننا بيولوجياً لأنهن الأصل. وحين لا يبكين يصبحن محط إدانة من البعض.
والرابعة: قوة الصدمة بالاستشهاد حتى لو كان متوقعاً. ومهما جهز المرء نفسه لحدث جلل، ليس شرطاً أن لا يُصدم. وأعتقد أن أم هذا الفدائي كانت بين الصلابة وصدمة الحدث والاطلاع معاً.
لا تستحق المذيعة كل هذا الاهتمام، فالمشكلة في المزبلة التي تعمل بها، بل في جحيم العمل المأجور الذي يرغم المرء على ما يكره. وما اقل الشريفات والشرفاء الذين يتحملون شظف العيش ويرفضون لقمة مغموسة بجوع الغير فما بالك بدم الشهيد. في العمل المأجور يتم تحطيم إنسانية المرء سواء تدريجيا أو دفعة واحدة فيصح دمية بعضها رخيص كمشهد تلك المرأة، وبعضها يتآكل من داخله حتى يرحل.
مات ابي يوم 25 ايار 1965 على الرصيف في رام الله بعد أن أخبره ضابط الارتباط مع العدو أنني قُتلت على اسلاك تفصل قرية بيت صفافا المحتلة عن التي لم تكن قد أُحتلت بعد. وأُخرجت بكفالة لأحضر الجنازة. لم تبك أمي أبداً. بل لم نراها يوماً تبكي، ومنذ 1958 وحتى سنوات قليلة بعد أن أخذ مني العمر ما يريد.
بعد هزيمة حزيران 1967 كان بيتنا مستراحا لدوريات القادمين عبر النهر من رفاق الجبهة الشعبية، وكانت أختاي يخبزن في الطابون يوميا ل 24 مقاتلا، وكانت أمي تمسك ميزانية البيت نتاج ارضنا وتنفق على كل شيء. ولا اذكر انها اشتكت او تبرمت او لامت أو حتى ناقشت ونصحت ابداً وكأنها ليست هنا او كأنها جارة لا تعرف ماذا نفعل.
سُجن معظمنا وهدمت بيوتنا ولم تبك. وسُجنت كي تسلم سلاحي ولم تبك، وكانت تعلم ماذا نفعل. بل اصرت على أن يقدموا لها السجائر في سجن رام الله.
كان أهل القرية يسمونها "ليفي أشكول" رئيس وزراء العدو أثناء حرب 1967، لأنها كانت قوية وتركض ورائنا من سجن لسجن منذ 1958. وكانوا يتهامسون أننا نقبض أموالا هائلة من المقاومة!!! أما لبراليو جامعة بير زيت فكانوا يقولون إن عادل سمارة إقطاعي وزوجته مليونيرة، لذا ينتقد ولا يكترث فهو ليس بحاجة للعمل في جامعة.
مرة واحدة فقط فتحت باب غرفتها وهي وحيدة فإذا بها تبكي لوحدها.
ملاحظة: أشعر بالخزي حين أقرأ للبعض أقوالاً بأن أهل الخليج بدو، وأننا الشوام أو السوريين بلا رابط معهم، أو أن قناة المزبلة تمثل عرب الخليج...الخ بصراحة هذه شوفينية مريضة عمياء، وخطورتها الأكبر أنها جاهزة للاختراق المركزاني الغربي لأنها تشعر بأن الغرب اعلى منها وسيدها. لعل اوضح تعبير عن ما اقول، أولئك الذي يقيمون حفل عشاء للعدو الأمريكي بمبيو في بيروت والذين يقيمون في فنادق انقرة باسم "المعارضات" السورية، والذين يطبعون مع العدو.