وهذا أمر مباشر باتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ..فأي ما أنزل إلينا من ربنا هو الحسن وأيه هو الأحسن ؟!
وفي سياق آخر من القرآن الكريم يقول تعالى ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) الزمر - 18
وفي سياق ثالث في تعليم لبني إسرائيل (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) الأعراف 145
واضطرب المفسرون في تفسير الأمر بالأخذ "بالأحسن" ؛ كيف والقرآن الكريم كله حسن . وكلمات الله كلها حسنى . ولا يختلف على ذلك مسلم .
ويمكن إجمال أقوالهم بثلاثة أقوال :
الأول : قول بعضهم أن الالتزام ببعض الأوامر أحسن من بعض وأكثروا في ذكر بعض التفاصيل .. من نحو قولهم :
إن عبادة السر أحسن من عبادة العلانية .
أو إن فعل المأمورات أولى من ترك المنهيات .
أو قول بعضهم الأحسن الأخذ بالعزائم وترك الرخص .
وقال فريق آخر : شرع القصاص وأمر بالعفو فالقصاص حسن والعفو أحسن . إلى غير ذلك من التفصيلات .
القول الثاني :
قول من قال إن المأمور به العمل بكل القرآن وأن لفظ أحسن في سياقه " صلة "!! وقولهم صلة تعبير ملطف مؤدب لما تعودنا أن نطلق عليه في كلام البشر " زائد " كما في علم النحو والمعاني !!
ويستشهدون بقول عبيد :
أزعمت أنك قد قتلت سراتنا كذبا ومينا
يقولون المين هو الكذب . وإيراده هنا زائد . ولا تستعمل مثل هذه المصطلحات مع كتاب الله . واصطلحوا على تسميته " الصلة " سواء كان حرفا أو اسما .
والمأمور به في الآية كما قال هؤلاء : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم . والمطلوب اتباع كل ما أنزل إلينا من ربنا . والقول بأن وصف أحسن " صلة " ، مع تردده في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، فيه نظر كبير .
والقول الثالث :
" أحسن " هنا لا تقتضي تفضيلا . بل هي بمعنى اتبعوا التنزيل الأحسن الذي أنزل إليكم من ربكم . وهذا منتشر في كلام العرب واستشهدوا بقول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا .. بيتا دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه الأعز والأطول ..
وإنما أطلت التطواف على أقوال المفسرين لأبين حجم التفاوت في الرؤية على آية بينة لها أخوات في القرآن الكريم ، من غير لفظها ،ومنها قوله تعالى عن قوم فرعون ( وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ) والآيات التي جاء بها سيدنا موسى كلها واضحة بينة مبهرة كبيرة.
قال زهير :
ثم أقول وكل آيات الله حسن . وكل أوامر الله حسن . وكل شرائع الله حسن . حتى إذا جاء الظرف المقتضي للأمر كان هذا الأمر وهذه الآية التي جاءت به هي الأحسن في حينها ، أو الأحسن بالنسبة إلى صاحبها .
فإذا دخل وقت صلاة كان أداؤها هو الأحسن . وإذا حال حول على مال كان أداء حق الله فيه هو الأحسن . وإذا دخل رمضان كان الالتزام بما كتب علينا من الصوم فيه هو الأحسن . وإذا كان موسم الحج فأداؤه للمستطيع القادر هو الأحسن .
وإذا دعا داعي الجهاد للدفاع عن الأرض والعرض فإجابة الداعي هو الأحسن . وهذه الإجابة بالنسبة للرجل القوي القادر على الجهاد هي الأحسن . وإذا انتدب الناس لبذل المال لسد الخلة الجماعية أو الفردية فالبذل والعطاء هو الأحسن ، والاستجابة بالنسبة للأثرياء والموسرين هي أحسن الأحسن .
وهكذا يكون التفضيل بين الحسن والأحسن مشتقا من واقع المسلمين في الأمر الجماعي ، ومن واقع المسلم في الأمر الفردي . ومن هنا فالمسلمون والمسلم مأمورون بالأخذ بالأحسن حسب ترتيب أولوياتهم من أمر ربهم . ويكون ما يلبي هذه الأولويات هو الأخذ بالأحسن من أمر الله تعالى .
وحين يقف المسلمون أمام منظومة الأوامر الربانية وهي كلها حسن يكون الأحسن منها لكل فرد منهم أو جماعة ما يناسبه طبيعة أو اقتضاء حال . وكل إنسان ميسر لما خلق له . وحين يتعين الأمر تتوحد الخيارات .
فالأحسن من الأحكام الشرعية تقدمه وتؤخره منظومة الأولويات حسب القواعد الأولية للفقه الإسلامي ، وحسب الوقائع الظرفية الحاكمة التي لا يملك المسلم في كل آن تغييرها على المدى القصير ، ولاسيما ما يتعلق منها بواقع المجتمعات .
هذا الكلام يفتح أمام أعيننا الأفق للجمع بين الكثير من الأحاديث النبوية في تعظيم أمر بعض الشعائر إذا حل توقيت حسنها ؛ فإذا دخل رمضان كان تعظيم أمره هو الأحسن . وإذا كانت ليلة القدر كان الحض على قيامها على أنه أو أنها الأحسن . وإذا حل موسم الحج كان الحج المبرور هو الأحسن . وإذا كان المصاف ودعا داعي الجهاد .. وإذا احتاج المسلمون ..
ثم يحاول بعض الناس أن يتساءل في فراغ القيل والقال أيها أفضل هذا .. أو هذا ... أو هذا ..
ومن قوله تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم )
نقول : هذا أحسن في وقته وفي ظرفه . وهذا أحسن في وقته وفي ظرفه . وهذا أحسن في وقته وفي ظرفه .
ونقول :
ومن الخطأ المفاضلة بين الأحكام والشرائع والشعائر في الفراغ المطلق . ونضيف والظرف أوسع من الوقت . فالوقت بعد زمني ، والظرف معطيات متشابكة من واقع الناس في أبعادها المختلفة .
الظرف الذي يجعل العمل بالآية هو "الأحسن" أن يتواءم مدلولها مع الظرف العام لحياة المسلمين . وإذا كانت الدعوة الإسلامية قد تدرجت بها أحوال في حياة الرسول الكريم صلى الله وسلم عليه ، وانتقلت من طور إلى طور ، وإذا كان الحياة الدعوية قد قامت على تشريعات متدرجة فسيكون الأحسن في حياة الأمة اعتماد الأحسن من أحكام الشريعة مما يوافق واقعها من قلة وكثرة ، وقوة وضعف ، وغنى وفقر ، وإقبال وإدبار؛ وكل ذلك بحسب قدراتها وطاقتها .
يبقى أمر مهم
هو إن المسلمين الذين فاتهم في هذا العصر أن تكون لهم مرجعية سياسية علمية تفصل بين الأحسن والحسن من أمر شريعتهم وأمرهم ، لا ينبغي أن تفوتهم مرجعية علمية راشدة تقول الحق وتهدي السبيل . الفراغ يترك الفرصة للمتقولين . وكل البناء العلمي لعلوم الإسلام العظيم لم تنشأ برعاية السلاطين . بل كانت تخط لنفسها طرقا موازية فتؤسس وتبني وتعلي ..
والله سبحانه وتعالى أعلم .
لندن : غرة ذي الحجة / 1440
2/ 8/ 2019
____________
*مدير مركز الشرق العربي