وقفة مع نص حديث وفقه معانيه:-
َقَالَ الْعِرْبَاضُ بن سارية رضي الله عنه صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ :أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ).
هذا الحديث رواه الترمذي ، وأبو داود وابن ماجه وأحمد والدارمي والبغوي ونقل الألباني تصحيحه عن الضياء المقدسي في مختاراته، قال ابن تيمية -رحمه الله-: إن الضياء المقدسي له كتاب سماه "المختارة" تصحيحه فيها أحسن من تصحيح الحاكم.
ابرز ما قاله العلماء في هذا الحديث
قال ابن حزم في الإحكام قال : هذا الحديث فيه ثلاثة احتمالات لا رابع لها :
1-إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه باعتبار أنه من سنتهم , و هذا محال ,إذ فيه الشيء و ضدة.
2-أو نتخير , و هذا مناف لاتباع سنتهم .
3- فلم يبق إلا أخذ ما أجمعوا عليه , و ليس لهم إجماع منفصل عن إجماع الصحابة ..
و الله أعلم .
وقال ايضا- ابن حزم - رحمه الله تعالى:" فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد أباح أن يحرموا شيئاً كان حلالاً على عهده صلى الله عليه وسلم إلى أن مات, أو أن يحلوا شيئاً حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أن يوجبوا فريضة لم يوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أن يُسقطوا فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسقطها إلى أن مات, وكل هذه الوجوه من جوّز منها شيئاً فهو كافر مشرك بإجماع الأمة كلها بلا خلاف. وأما أن يكون أمر باتباعهم في اقتدائهم بسنته صلى الله عليه وسلم فهكذا نقول, ليس يحتمل هذا الحديث وجهاً غير هذا أصلاً"
(الإحكام في أصول الأحكام 6/76-78).
وقال الامام الشطبي في نعريفه للسنة في الموافقات:-( وتطلق ـ السنة ـ أيضاً على ما عمل عليه الصحابة وجد ذلك في الكتاب ، أو لم يوجد ، لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا ،
أو اجتهاداً مجمعاً عليه منهم أو من خلفائهم ) . الموافقات للشاطبي 4/290 .
و قال ابن القيم في الإعلام(4/140) :-
فقرن سنة خلفائه بسنته وأمر بإتباعها كما أمر بإتباع سنته وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للامة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شئ وإلا كان ذلك سنته ويتناول ما أفتى به جميعهم أوأكثرهم أوبعضهم لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين
وقال في تهذيب السنن(2/176): ((ولو لم يكن في الباب إلا سنة الخلفاء الراشدين لكفى بها دليلا وحجة)).
قال الامام احمد بن تيمية رحمه الله في في الفتاوى(25/9):-
فما رواه أو قاله الخلفاء حجة على من خالفهم لا سيما الصديق لقوله عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وقوله إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا.
وقال في (31/37) معلقا على الحديث اعلاه:-
ففى هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين وبين أن المحدثات التى هى البدع التى نهى عنها ما خالف ذلك فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه وأفعاله عليها لكان أدنى أمرها أن تكون من سنة الخلفاء الراشدين فلا تكون من البدع الشرعية التى سماها النبى بدعة ونهى عنها
وقال في (32/347):
إن الخلفاء الراشدون إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثاة الأمور فإن كل بدعة ضلالة.
وقال رحمه الله في [ جزء 20 - صفحة 573 ]
((الذي لا ريب فيه انه حجة ما كان من سنة الخلفاء الراشدين الذي سنوه للمسلمين ولم ينقل ان احدا من الصحابة خالفهم فيه فهذا لا ريب انه حجة بل اجماع وقد دل عليه قول النبى عليكم بستنى وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة مثال ذلك حبس عمر وعثمان رضى الله عنهما للأرضين المفتوحة وترك قسمتها عالى الغانمين فمن قال ان هذا لا يجوز قال لأن النبى قسم خيبر وقال ان الامام اذا حبسها نقض حكمه لأجل مخالفة السنة فهذا القول خطا وجراة على الخلفاء الراشدين فان فعل النبى فى خيبر انما يدل على جواز ما فعله لا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل يدل على عدم وجوب ذلك لكان فعل الخلفاء الراشدين دليلا على عدم الوجوب)).
وذكر الاحوذي في تحفته:-- ( فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي ) أَيْ فَلْيَلْزَمْ سُنَّتِي ( وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ) فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا قَالَهُ الْقَارِي . وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ : إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَأَخَذُوا فِي تَأْوِيلِهِ بِوُجُوهٍ أَكْثَرُهَا مُتَعَسِّفَةٌ , وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ , فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَلْزَمُوا طَرِيقَتِي وَطَرِيقَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ , وَقَدْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ هِيَ نَفْسُ طَرِيقَتِهِ , فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَيْهَا وَعَمَلًا بِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ مُخَالَفَتَهُ فِي أَصْغَرِ الْأُمُورِ فَضْلًا عَنْ أَكْبَرِهَا . وَكَانُوا إِذَا أَعْوَزَهُمْ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلُوا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ الرَّأْيِ بَعْدَ الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدَبُّرِ , وَهَذَا الرَّأْيُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ هُوَ أَيْضًا مِنْ سُنَّتِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِمَا تَقْضِي ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ وَقَدْ أَوْضَحْت هَذَا فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ . فَإِنْ قُلْت : إِذَا كَانَ مَا عَمِلُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثَمَرَةٌ , قُلْت : ثَمَرَتُهُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْرَكَ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ وَزَمَنَ الْخُلَفَاءِ وَلَكِنَّهُ حَدَثَ أَمْرٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي زَمَنِهِ فَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ فَأَشَارَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إِلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يَتَرَدَّدُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ مِنْ الشَّكِّ وَيَخْتَلِجُ فِيهَا مِنْ الظُّنُونِ . فَأَقَلُّ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثِيرًا مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْسَبُ الْفِعْلُ أَوْ التَّرْكُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقُدْرَةِ وَمَكَانُ الْأُسْوَةِ فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَقِفْ عِنْدَ تَحْرِيرِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ . اِنْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ .)).
وقال الصنعاني رحمه الله:" فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها, فإن الحديث عام لكل خليفة راشد لا يخص الشيخين. ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يُشَرِّع طريقة غير ما كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم...". (سبل السلام 1/493).
من الامور المهمة و اللافتة للنظر في هذا الحديث الشرسف والوصية والعهد النبوي الكريم لامته من بعده صلى الله عليه واله وسلم، حثه للامة على التمسك بسنته وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، وشدد على هذا التمسك بقوله عضوا عليها بالنواجذ وحذرهم من البدع وانها طريق الزيغ والضلال.
وسنة النبي معلومة ومروية محفوظة شملت اقواله وافعاله وتقريراته وحتى صفاته الخلقية والخُلقية صلى الله عليه واله وسلم، واما سنة الخلفاء الراشدين فبين لنا العلماء ما المقصود منها وقد اتضح لنا هذا الامر جليا فيما اسلفنا، وملخص القول فيه هو نهجهم وسيرهم في مسيرة الحكم وحل قضايا و مشاكل الامة وما يطرأ للناس ويستجد في حياتهم. ومعلوم ان الخلفاء الراشدين كانوا رضوان الله عليهم لا يبتون في امر او يقطعون في راي استجد عليهم حتى يجمعوا له الصحابة واهل الراي والمشورة فيفتشون عن سنة نبيهم في الامر او ما يوافق هديه في المسالة، ومن هنا جاءت حجية اجماع الصحابة رضوان الله عليهم كون اجماعهم كاشف عن دليل كما ولا يتصور امكانية حصول الاجماع الا في عهدهم.
.ومن الملفت للنظر انه صلى الله عليه واله وسلم سماهم ووصفهم بالمهديين والمهديين جمع مهدي والمهدي اسم مفعول من هدى يهدي فهو مهتد ومهدي، والهدى ضد الضلال وهو الرشاد وهداه الى الطريق دله عليه وهداه في المسالة اي وضحها له وفي الامر بينه له . ومن أَسماء الله تعالى سبحانه : الهادي ؛ قال ابن الأَثير : هو الذي بَصَّرَ عِبادَه وعرَّفَهم طَريقَ معرفته حتى أَقرُّوا برُبُوبيَّته ، وهَدى كل مخلوق إِلى ما لا بُدَّ له منه في بَقائه ودَوام وجُوده . والمهدي هو كل من وفقه الله لصراطه المستقيم باتباع الكتاب والسنة وهداه الله الى الحق. والخلفاء الراشدين المهديين في الحديث الشريف هم ابوبكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم ، وهو وصف عام في كل من سار سيرتهم و اتبع مسيرتهم. وعليه يكون امر فكرة المهدوية اي صفة المهدي صفة مكتسبة اختيارية وليست امرا قدريا غيبيا جبريا ، فيستطيع كسبها وتحقيقها ونيلها كل من طلب الهداية والتوفيق من الله والتزم منهجه وهداه ، وتستطيع الامة ان تلده في كل زمن وىنتجه في كل حين فكما تكونوا تولون عليكم , نسال الله تعالى العزة للاسلام واهله وان يتولى امرنا الصالحون المصلحون المهديون الراشدون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
َقَالَ الْعِرْبَاضُ بن سارية رضي الله عنه صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ :أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ).
هذا الحديث رواه الترمذي ، وأبو داود وابن ماجه وأحمد والدارمي والبغوي ونقل الألباني تصحيحه عن الضياء المقدسي في مختاراته، قال ابن تيمية -رحمه الله-: إن الضياء المقدسي له كتاب سماه "المختارة" تصحيحه فيها أحسن من تصحيح الحاكم.
ابرز ما قاله العلماء في هذا الحديث
قال ابن حزم في الإحكام قال : هذا الحديث فيه ثلاثة احتمالات لا رابع لها :
1-إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه باعتبار أنه من سنتهم , و هذا محال ,إذ فيه الشيء و ضدة.
2-أو نتخير , و هذا مناف لاتباع سنتهم .
3- فلم يبق إلا أخذ ما أجمعوا عليه , و ليس لهم إجماع منفصل عن إجماع الصحابة ..
و الله أعلم .
وقال ايضا- ابن حزم - رحمه الله تعالى:" فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد أباح أن يحرموا شيئاً كان حلالاً على عهده صلى الله عليه وسلم إلى أن مات, أو أن يحلوا شيئاً حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أن يوجبوا فريضة لم يوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أن يُسقطوا فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسقطها إلى أن مات, وكل هذه الوجوه من جوّز منها شيئاً فهو كافر مشرك بإجماع الأمة كلها بلا خلاف. وأما أن يكون أمر باتباعهم في اقتدائهم بسنته صلى الله عليه وسلم فهكذا نقول, ليس يحتمل هذا الحديث وجهاً غير هذا أصلاً"
(الإحكام في أصول الأحكام 6/76-78).
وقال الامام الشطبي في نعريفه للسنة في الموافقات:-( وتطلق ـ السنة ـ أيضاً على ما عمل عليه الصحابة وجد ذلك في الكتاب ، أو لم يوجد ، لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا ،
أو اجتهاداً مجمعاً عليه منهم أو من خلفائهم ) . الموافقات للشاطبي 4/290 .
و قال ابن القيم في الإعلام(4/140) :-
فقرن سنة خلفائه بسنته وأمر بإتباعها كما أمر بإتباع سنته وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للامة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شئ وإلا كان ذلك سنته ويتناول ما أفتى به جميعهم أوأكثرهم أوبعضهم لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين
وقال في تهذيب السنن(2/176): ((ولو لم يكن في الباب إلا سنة الخلفاء الراشدين لكفى بها دليلا وحجة)).
قال الامام احمد بن تيمية رحمه الله في في الفتاوى(25/9):-
فما رواه أو قاله الخلفاء حجة على من خالفهم لا سيما الصديق لقوله عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وقوله إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا.
وقال في (31/37) معلقا على الحديث اعلاه:-
ففى هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين وبين أن المحدثات التى هى البدع التى نهى عنها ما خالف ذلك فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه وأفعاله عليها لكان أدنى أمرها أن تكون من سنة الخلفاء الراشدين فلا تكون من البدع الشرعية التى سماها النبى بدعة ونهى عنها
وقال في (32/347):
إن الخلفاء الراشدون إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثاة الأمور فإن كل بدعة ضلالة.
وقال رحمه الله في [ جزء 20 - صفحة 573 ]
((الذي لا ريب فيه انه حجة ما كان من سنة الخلفاء الراشدين الذي سنوه للمسلمين ولم ينقل ان احدا من الصحابة خالفهم فيه فهذا لا ريب انه حجة بل اجماع وقد دل عليه قول النبى عليكم بستنى وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة مثال ذلك حبس عمر وعثمان رضى الله عنهما للأرضين المفتوحة وترك قسمتها عالى الغانمين فمن قال ان هذا لا يجوز قال لأن النبى قسم خيبر وقال ان الامام اذا حبسها نقض حكمه لأجل مخالفة السنة فهذا القول خطا وجراة على الخلفاء الراشدين فان فعل النبى فى خيبر انما يدل على جواز ما فعله لا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل يدل على عدم وجوب ذلك لكان فعل الخلفاء الراشدين دليلا على عدم الوجوب)).
وذكر الاحوذي في تحفته:-- ( فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي ) أَيْ فَلْيَلْزَمْ سُنَّتِي ( وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ) فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا قَالَهُ الْقَارِي . وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ : إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَأَخَذُوا فِي تَأْوِيلِهِ بِوُجُوهٍ أَكْثَرُهَا مُتَعَسِّفَةٌ , وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ , فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَلْزَمُوا طَرِيقَتِي وَطَرِيقَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ , وَقَدْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ هِيَ نَفْسُ طَرِيقَتِهِ , فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَيْهَا وَعَمَلًا بِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ مُخَالَفَتَهُ فِي أَصْغَرِ الْأُمُورِ فَضْلًا عَنْ أَكْبَرِهَا . وَكَانُوا إِذَا أَعْوَزَهُمْ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلُوا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ الرَّأْيِ بَعْدَ الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدَبُّرِ , وَهَذَا الرَّأْيُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ هُوَ أَيْضًا مِنْ سُنَّتِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِمَا تَقْضِي ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ وَقَدْ أَوْضَحْت هَذَا فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ . فَإِنْ قُلْت : إِذَا كَانَ مَا عَمِلُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثَمَرَةٌ , قُلْت : ثَمَرَتُهُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْرَكَ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ وَزَمَنَ الْخُلَفَاءِ وَلَكِنَّهُ حَدَثَ أَمْرٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي زَمَنِهِ فَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ فَأَشَارَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إِلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يَتَرَدَّدُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ مِنْ الشَّكِّ وَيَخْتَلِجُ فِيهَا مِنْ الظُّنُونِ . فَأَقَلُّ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثِيرًا مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْسَبُ الْفِعْلُ أَوْ التَّرْكُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقُدْرَةِ وَمَكَانُ الْأُسْوَةِ فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَقِفْ عِنْدَ تَحْرِيرِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ . اِنْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ .)).
وقال الصنعاني رحمه الله:" فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها, فإن الحديث عام لكل خليفة راشد لا يخص الشيخين. ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يُشَرِّع طريقة غير ما كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم...". (سبل السلام 1/493).
من الامور المهمة و اللافتة للنظر في هذا الحديث الشرسف والوصية والعهد النبوي الكريم لامته من بعده صلى الله عليه واله وسلم، حثه للامة على التمسك بسنته وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، وشدد على هذا التمسك بقوله عضوا عليها بالنواجذ وحذرهم من البدع وانها طريق الزيغ والضلال.
وسنة النبي معلومة ومروية محفوظة شملت اقواله وافعاله وتقريراته وحتى صفاته الخلقية والخُلقية صلى الله عليه واله وسلم، واما سنة الخلفاء الراشدين فبين لنا العلماء ما المقصود منها وقد اتضح لنا هذا الامر جليا فيما اسلفنا، وملخص القول فيه هو نهجهم وسيرهم في مسيرة الحكم وحل قضايا و مشاكل الامة وما يطرأ للناس ويستجد في حياتهم. ومعلوم ان الخلفاء الراشدين كانوا رضوان الله عليهم لا يبتون في امر او يقطعون في راي استجد عليهم حتى يجمعوا له الصحابة واهل الراي والمشورة فيفتشون عن سنة نبيهم في الامر او ما يوافق هديه في المسالة، ومن هنا جاءت حجية اجماع الصحابة رضوان الله عليهم كون اجماعهم كاشف عن دليل كما ولا يتصور امكانية حصول الاجماع الا في عهدهم.
.ومن الملفت للنظر انه صلى الله عليه واله وسلم سماهم ووصفهم بالمهديين والمهديين جمع مهدي والمهدي اسم مفعول من هدى يهدي فهو مهتد ومهدي، والهدى ضد الضلال وهو الرشاد وهداه الى الطريق دله عليه وهداه في المسالة اي وضحها له وفي الامر بينه له . ومن أَسماء الله تعالى سبحانه : الهادي ؛ قال ابن الأَثير : هو الذي بَصَّرَ عِبادَه وعرَّفَهم طَريقَ معرفته حتى أَقرُّوا برُبُوبيَّته ، وهَدى كل مخلوق إِلى ما لا بُدَّ له منه في بَقائه ودَوام وجُوده . والمهدي هو كل من وفقه الله لصراطه المستقيم باتباع الكتاب والسنة وهداه الله الى الحق. والخلفاء الراشدين المهديين في الحديث الشريف هم ابوبكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم ، وهو وصف عام في كل من سار سيرتهم و اتبع مسيرتهم. وعليه يكون امر فكرة المهدوية اي صفة المهدي صفة مكتسبة اختيارية وليست امرا قدريا غيبيا جبريا ، فيستطيع كسبها وتحقيقها ونيلها كل من طلب الهداية والتوفيق من الله والتزم منهجه وهداه ، وتستطيع الامة ان تلده في كل زمن وىنتجه في كل حين فكما تكونوا تولون عليكم , نسال الله تعالى العزة للاسلام واهله وان يتولى امرنا الصالحون المصلحون المهديون الراشدون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.