ترامب يتوعد بحرب أهلية لمواجهة عزله
مركز الدراسات الأميركية والعربية، واشنطن
رئيس التحرير: د. منذر سليمان
نائب رئيس التحرير: جعفر الجعفري
يواجه الرئيس ترامب "إمكانية" عزله من منصبه، وهي ليست المحاولة الأولى لخصومه في الحزب الديموقراطي وأجهزة الاستخبارات، على خلفية اتهامه بالتدخل في شؤون القضاء الاوكراني للنيل من منافسه المرشح الديموقراطي جو بايدن.
رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، أعلنت يوم 29 أيلول/سبتمبر الماضي رسميا البدء في إجراءات التحقيق تمهيداً للعزل داخل مجلس النواب، وفق مقتضيات آليات الدستور، مشددة على أن "تفويض الكونغرس لمحاسبة الرئيس هو أكثر أهمية من (مكاسب) السياسة .. ويستحق خسارة (الحزب الديموقراطي) للأغلبية في مجلس النواب" في انتخابات العام المقبل. (نشرة ذا هيل، 29 سبتمبر).
صاعق تفجير الاتهام والإجراءات المتتالية كانت مكالمة هاتفية أجراها الرئيس ترامب مع نظيره الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، يحثه على التحقيق في إقالة سلفه بوروشينكو للمدعي العام السابق، فيكتور شوكين، الذي كان يحقق في أنشطة شركة بوريسما التي كان من بين أعضاء مجلس إدارتها نجل نائب الرئيس السابق جو بايدن، بمكافأة مالية شهرية قيمتها 50 ألف دولار.
رد الرئيس ترامب، في تغريدة له، على قرار رئيسة مجلس النواب بالقول "تزداد قناعتي يوما بعد آخر بأن ما يحدث ليس إجراءات عزل، بل انقلاب يهدف إلى نزع السلطة .."
إلى هنا، تبدو المسألة ذاهبة حتماً لإقصاء الرئيس عبر القنوات الدستورية والقضائية، والتي ستترافق زمنياً مع حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة، وما ستخلفه من تداعيات ستطال الحزبين معاً، سلباً على الأرجح، نتيجة حالة الاستقطاب الحادة والانقسامات العمودية والأفقية داخل المجتمع.
لندع آليات التحقيق وإجراءات العزل جانباً، فنصوصها واضحة وسنعالجها في مكان آخر؛ ونركز على الأبعاد والنوايا الحقيقية والتشكلات الجديدة في موازين القوى داخل المشهد السياسي الأميركي، التي يعسر الوصول لفهم واقعي وما سيبنى عليه من استنتاجات وتوجهات في حال تم القفز عليها، والتمسك بالسردية الرسمية عوضا عنها التي تروجها معظم المؤسسات الإعلامية الأميركية.
ضابط استخبارات سابق في الوكالة المركزية أبلغ الصحف عن حيثيات ومحتويات المكالمة الهاتفية، بعد اطلاعه على سجلات السي آي ايه بالقول ".. ما صدر عن الرئيس ترامب خلال المكالمة الهاتفية لم يكن شائناً. المسألة بوضوح تكمن في اختلاف وجهات النظر حول القضايا السياسية العامة." ليس من العسير استنتاج ما قامت به وسائل الإعلام الرئيسة من طمس ذاك التصريح واحتفاظها بهوية الضابط المذكور.
استبق الرئيس ترامب مطالبة قادة الحزب الديموقراطي بإزالته التصنيف السري عن سجل المكالمة، والإفراج عن نسخة خطية لتفاصيلها بعكس توقعاتهم، مما أفقد خصومه زخم التعبئة والتحريض الإعلامي، بإصراره أنه ليس لديه ما يخفيه.
قراءة متأنية لما نُشر من قبل البيت الأبيض لا تؤيد مزاعم خصومه بانتهاكه القوانين السارية في التعامل مع أوكرانيا، بصرف النظر عن مدى تطابق أو تنافر التقييم الشخصي للرئيس وتصريحاته المتناقضة، لكن لا تتوفر أرضية تدعم تهمة "انتهاك القانون."
ترتبط أوكرانيا والولايات المتحدة بمعاهدة تبادل المعلومات فيما يخص القضايا الجنائية وصون القانون، وقعتها كييف يوم 22 حزيران/يونيو 1998، في عهد الرئيس كلينتون، وصادق عليها مجلس الشيوخ في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2000 ، بآلية تصويت نادرة الاستخدام: قيام الأعضاء وقوفاً من مقاعدهم تعبيراً عن موافقتهم، دون تدوين التصويت الفردي في السجلات الرسمية. وعليه، يتعسر معرفة حقيقة تصويت السيناتور آنذاك جو بايدن بالذات على المعاهدة.
تنص المعاهدة على تبادل المعلومات الأمنية بين الدولتين، وتحديدهما الجهة القانونية المخولة لتطبيقها: الولايات المتحدة، من جانبها، تعين المدعي العام (الفيدرالي) أو ما يرتئيه وزير العدل؛ أوكرانيا تتمثل بوازرة العدل ومكتب المدعي العام.
الثابت في السجلات الرسمية الأميركية تقديم اللجنة المركزية للحزب الديموقراطي طلباً للرئيس الأوكراني، بيترو بوروشينكو، عام 2016، لتقديم ما لدى بلاده من وثائق تدين المرشح دونالد ترامب وكذلك المتعلقة برئيس حملته الانتخابية بول مانافورت.
سفارة أوكرانيا بواشنطن أكدت الحادثة لوسائل الإعلام الأميركية، عبر رسالة خطية جوابية موقعة من السفير الأوكراني فاليري شالي. (نشرة ذا هيل، 2 أيار/مايو 2019).
كما أن قياديين اثنين عن الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ، باتريك ليهي وديك ديربان، ناشدا أوكرانيا في أيار/مايو 2016 تقديم أي معلومات تتعلق بالمرشح ترامب لناحية إحراجه وتسليط حملة إعلامية مكثفة عليه.
بالنظر إلى المعاهدة الأمنية المبرمة بين البلدين، يعتبر طلب الرئيس ترامب من نظيره الأوكراني، قبل نحو شهرين، متطابقاً مع نصوصها وليس تجاوزاً لما يتهم به من انتهاكه لصلاحياته بالتدخل لدى دولة أجنبية في مسألة داخلية صرفه.
بالعودة لتصريحات نائب الرئيس جو بايدن، فقد تباهى في محاضرة متلفزة ألقاها يوم 23 كانون الثاني/يناير 2018، في مجلس العلاقات الخارجية، موضحاً انه "ابتز الحكومة الأوكرانية للضغط عليها لإقالة المدعي العام فيكتور شوكين." ومضى متبجحاً أنه في إحدى زياراته لكييف "ربما رقم 12 أو 13 .. كنت مخولاً بالإعلان عن تقديم (واشنطن) ضمانات مصرفية قيمتها مليار دولار إضافي؛ وظفرت بالتزام (الرئيس) بوروشينكو (ورئيس الوزراء آرسيني) ياتسينيوك بأنهما سيتخذان إجراءات ضد المدعي العام. لكنهما لم يفعلا." الأمر الذي يعزز اتهام الرئيس ترامب له بالتدخل وتهديد دولة أجنبية وهو في قمة الهرم السياسي.
يشار إلى أن نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تسلم مسؤولية ملف أوكرانيا داخل إدارة الرئيس أوباما عقب الانقلاب المدعوم أميركياً في ساحة ميدان، 2014؛ وشرع في التحريض على المدعي العام الاوكراني فيكتور شوكين لمهنيته في التحقيق بشركة بورسيما.
أحد أبرز قادة الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ، كريس ميرفي، ترأس وفداً من أعضاء الحزبين مؤخراً لزيارة كييف واللقاء بالرئيس زيلينسكي، وجه فيها رسالة تهديد مبطنة للأخير موضحاً للصحافة الأميركية ".. تتمتع أوكرانيا بدعم من الحزبين وموافقتهما على تقديم المساعدات لها، لكن ذلك قد يتعرض للتقويض في حال إذعان الرئيس الجديد لمطالب محامي الرئيس ترامب، رودي جولياني، للتحقيق في مزاعم فساد سابقة تضم أميركيين، من بينهم عائلة نائب الرئيس السابق جو بايدن." (نشرة ذا هيل، 23 أيلول/سبتمبر 2019).
ما الذي يخشاه قادة الحزب الديموقراطي مما قد يكشفه تحقيق جديد في اوكرانيا، هو استفسار محوري تتغاضى عنه السردية الرسمية ومحطات التلفزة الرئيسة والوسائل المقروءة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار أن ملاحقتهم أو محاصرتهم للرئيس ترامب هي المحاولة الثانية، بعد اتهامه بالتواطؤ مع روسيا، لكنها تفتقد للزخم السياسي والعداء المتأصل في التركيبة السياسية الحاكمة للحزبين ضد موسكو.
من البديهي الافتراض أن الهدف الأسمى لمناوئي الرئيس ترامب يتجسد في حرمانه ومعاونيه أيضاً من إعادة فتح ملفات التحقيق بالاتهامات السابقة حول روسيا وتحديد هوية الشخصيات والهيئات المتورطة بذلك، بعد فشلهم في إدانته بالتورط معها، وعدم إتاحة الفرصة له بتحسين العلاقات مع موسكو في أي وقت قريب – حسبما أفاد ضابط الاستخبارات المركزية سالف الذكر.
وبدعم من أقرانه في عدد من أجهزة الاستخبارات الأميركية يفيد الضابط بأن الاتهام الأخير لترامب هو "على الأغلب من صنع وكالة الاستخبارات المركزية بالتعاون مع مؤسسات الحزب الديموقراطي .. باختلاق مسألة ثانوية مصطنعة يسخرها قادته لإرساء أرضية تبرر بدء إجراءات التحقيق تمهيداً للعزل."
وشاطرته الرأي يومية وول ستريت جورنال بمخاطبة قادة الحزب الديموقراطي "نتمنى لكم حظاً سعيداً في إقناع الشعب الأميركي بأن أرضية الاتهام تشكل جريمة عقابها العزل."
ما يعزز فرضية ضباط الاستخبارات هو إدراك قادة الحزب الديموقراطي وداعميهم بضعف تحقيق الاتهامات الموجهة وهدف العزل المرجو، طمعاً في إذكاء الصراع مع روسيا ومن ورائها الصين أيضاً، وعدم إتاحة الفرصة لأي توجه بانفراج في العلاقات خلال ما تبقى لولاية الرئيس ترامب.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى انعدام فرص عزل رئيس أميركي عن منصبه نتيجة إجراءات التحقيق. الرئيس الأسبق نيكسون قدم استقالته من منصبه عام 1974 قبل إتمام إجراءات مساءلته، بدعم من قادة حزبه الجمهوري الذين طالبوه بالتنحي لتفادي إرساء سابقة في العصر الحديث.
يومية وول ستريت جورنال نبهت الجمهور لحالة الانقسام استناداً لنتائج استطلاعات الرأي المتعددة لناحية دعم الأغلبية (49%) للبدء في التحقيق، مقابل 46% لا يؤيدون عزل الرئيس ترامب.
وعليه، لا يتوفر أي مؤشر حقيقي على "إمكانية" تخلي أعضاء الحزب الجمهوري عن الرئيس ترامب في المدى المنظور، لا سيما وأن الحزبين يقفان على أعتاب معركة انتخابية شرسة. بل قد يستفيد الحزب الجمهوري والرئيس ترامب من مضي الخصوم الديموقراطيين بتدابير تعزز الانقسام وإعانته على رغبة استعادته لأغلبية مقاعد مجلس النواب.
مشروعية العزل
ينص الدستور الأميركي (الفقرة الرابعة من المادة الثانية) على أن "لمجلس الشيوخ وحده سلطة أجراء محاكمة في جميع تهم المسؤولين؛" ويعقد جلسة خاصة بذلك بكامل أعضائه المئة، برئاسة رئيس المحكمة العليا، ويجري التصويت على المادة المقدمة والتي ينبغي فوزها بموافقة ثلثي الأعضاء، 67 نائباً.
بعد تخويل اللجنة القضائية في مجلس النواب البدء في إجراءات التحقيق، يحال ملف العزل إلى رئاسة المجلس للتصويت عليه بالأغلبية البسيطة (50 + 1)، من قبل كافة أعضاء المجلس البالغ عددهم 435. وبما أن الحزب الديموقراطي لديه الأغلبية البسيطة، 235 مقابل 199 للحزب الجمهوري، فمن المرجح أن يصادق على الخطوة الأولى ورفعه القضية برمتها لمجلس الشيوخ.
أقلية من أعضاء الحزب الديموقراطي في مجلس النواب أبدت تحفظها على قرار قادة الحزب، أبرزهم المرشحة للرئاسة تولسي غابارد، مطالبة بإحالة المسألة لمرحلة الانتخابات الرئاسية والتي ستضمن إزاحة ترامب عوضاً عن إجراءات التحقيق والعزل.
وأعربت غابارد عن اعتقادها بأن "إجراءات العزل عند هذه النقطة المفصلية ستؤدي لانقسامات عميقة في المجتمع في ظل حالة الانقسام الحادة السائدة." ومن المتوقع أن ينضم لها آخرون في الحزب الديموقراطي والذين فازوا بمنصبهم عن دوائر انتخابية تقع في الولايات المتأرجحة أو المؤيدة بغالبيتها لترامب.
ونوهت لتلك النتيجة نشرة (بريتبارت) المؤيدة لترامب معتبرة ان "المعتدلين" من النواب الديموقراطيين، سبعة منهم أيدوا نداء العزل في البداية، يغامرون بمستقبلهم السياسي متسائلين عن الحكمة من قرار البدء بإجراءات العزل.
بما أن الحزب الجمهوري لديه أغلبية في مجلس الشيوخ، 53 مقعداً مقابل 45 للديموقراطيين ومقعدين للمستقلين اللذين يصوتان مع الحزب الديموقراطي في العادة، فإن الحصول على الأغلبية المطلقة، 67، أي بانضمام 20 عضواً من الحزب الجمهوري ضد الرئيس، تصبح مهمة مستحيلة ضمن موازين القوى الراهنة.
حينئذ سيعمد مجلس الشيوخ لإسقاط التهم الموجهة للرئيس ترامب دون الحاجة للنظر في الأدلة؛ وضمان فوز الرئيس ترامب لولاية ثانية، مدعوماً بنحو ثلثي رؤساء كبريات الشركات والذين أعربوا عن ثقتهم بإعادة انتخابه، حسبما أفادت استطلاعات الرأي.
تداعيات العزل
بداية يدرك الحزب الديموقراطي جيداً بأن جهوده ستواجه بفشل محتم في مجلس الشيوخ، وتقتصر مراهنته على استثمار الأجواء الناجمة عن الشكوى المقدمة ضد ترامب في السباق الانتخابي العام المقبل.
حظوظ نائب الرئيس السابق جو بايدن، ضمن تلك المعادلة محفوفة بالخطر، أوجزتها يومية يو اس ايه توداي، بأنه سيواجه معضلة حقيقية جراء ترسيخ تورطه بالفساد عند الناخب العادي (26 أيلول/سبتمبر 2019).
أستاذة العلوم السياسية في جامعة أيوا، مارين كيدروسكي، أوضحت للصحيفة أن بايدن يواجه قلقاً حقيقياً مصدره شكوك العامة بقدرته على اتخاذ القرار الصائب، مما يعزز اتهامات الرئيس ترامب له ليس لتورطه في الفساد فحسب، بل لما فعله المرشح ترامب بالإطاحة بمنافسته هيلاري كلينتون ومحاصرتها بسيل من الاتهامات المشروعة.
شبح الحرب الأهلية
التحقيقات الجارية في مجلس النواب من قبل خصوم الرئيس ترامب قد تتصاعد لتقديم توصية لمجلس الشيوخ للبت في مصيره، رد عليها بأنها بمثابة "انقلاب على السلطة .. وما قاموا به يرتقي لخيانة الدولة وانتهاكاً للدستور."
وهدد في سلسلة تغريداته، 2 أكتوبر الجاري، باندلاع حرب أهلية إذا ما قرر الكونغرس عزله عن منصبه.
ليست المرة الأولى التي يعيد فيها ترامب شبح حرب أهلية لصدارة المشهد السياسي، لكن نبرته الحادة ومفردات تغريداته العنيفة تضيف لمسة من الجدية موجهة ضد عدة خصوم في آن واحد: أولاً، رسالة لنواب الحزب الجمهوري لردعهم عن المضي في استكمال إجراءات العزل؛ ثانياً، لخصومه الديموقراطيين؛ والأهم للأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي ما انفك عن توجيه الاتهامات لها، ووكالة الاستخبارات المركزية تحديدا.
التلويح أو التهديد بحرب أهلية هي ايضاً رسالة لمناصريه المدججين بالسلاح وعلى أهبة الاستعداد للنزول إلى الشارع والاصطدام بالقوى الأمنية؛ وهم بمعظمهم خليط تحالف بين العنصريين البيض وأتباع التيار الديني المتشدد والأفراد الداعين لحماية حقوقهم بحمل السلاح، لا سيما في الأماكن العامة.
في جولة التحقيق السابقة، التي ترأسها المحقق الخاص موللر للنظر في تهمة تورط الرئيس ترامب مع روسيا، هدد ترامب من إمكانية حدوث فتنة أهلية مستنداً إلى قواعد تأييده الثابتة والتي لن تسلِّم بتوجيه تهمة بإدانته أو بقرار عزله.
المعلق اليميني المشهور، راش ليمبو، وعبر برنامجه اليومي في الراديو عبأ مستمعيه وأنصار ترامب ضد المشهد السياسي الراهن في واشنطن، بوصف ملاحقة الكونغرس للرئيس بمثابة "حرب أهلية باردة .. ومقدمة للثورة الفرنسية."
يشار إلى أن تقرير المحقق موللر "لم يجزم ولم يبريء" الرئيس من تهمة التورط، وربما كان الدافع الحقيقي للغموض في نتائج التحقيق ترجمة لمخاوف النخب السياسية من اشتعال فتنة مجهولة المدى والتداعيات، يحركها ويرعاها رئيس الولايات المتحدة.
مركز الدراسات الأميركية والعربية، واشنطن
رئيس التحرير: د. منذر سليمان
نائب رئيس التحرير: جعفر الجعفري
يواجه الرئيس ترامب "إمكانية" عزله من منصبه، وهي ليست المحاولة الأولى لخصومه في الحزب الديموقراطي وأجهزة الاستخبارات، على خلفية اتهامه بالتدخل في شؤون القضاء الاوكراني للنيل من منافسه المرشح الديموقراطي جو بايدن.
رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، أعلنت يوم 29 أيلول/سبتمبر الماضي رسميا البدء في إجراءات التحقيق تمهيداً للعزل داخل مجلس النواب، وفق مقتضيات آليات الدستور، مشددة على أن "تفويض الكونغرس لمحاسبة الرئيس هو أكثر أهمية من (مكاسب) السياسة .. ويستحق خسارة (الحزب الديموقراطي) للأغلبية في مجلس النواب" في انتخابات العام المقبل. (نشرة ذا هيل، 29 سبتمبر).
صاعق تفجير الاتهام والإجراءات المتتالية كانت مكالمة هاتفية أجراها الرئيس ترامب مع نظيره الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، يحثه على التحقيق في إقالة سلفه بوروشينكو للمدعي العام السابق، فيكتور شوكين، الذي كان يحقق في أنشطة شركة بوريسما التي كان من بين أعضاء مجلس إدارتها نجل نائب الرئيس السابق جو بايدن، بمكافأة مالية شهرية قيمتها 50 ألف دولار.
رد الرئيس ترامب، في تغريدة له، على قرار رئيسة مجلس النواب بالقول "تزداد قناعتي يوما بعد آخر بأن ما يحدث ليس إجراءات عزل، بل انقلاب يهدف إلى نزع السلطة .."
إلى هنا، تبدو المسألة ذاهبة حتماً لإقصاء الرئيس عبر القنوات الدستورية والقضائية، والتي ستترافق زمنياً مع حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة، وما ستخلفه من تداعيات ستطال الحزبين معاً، سلباً على الأرجح، نتيجة حالة الاستقطاب الحادة والانقسامات العمودية والأفقية داخل المجتمع.
لندع آليات التحقيق وإجراءات العزل جانباً، فنصوصها واضحة وسنعالجها في مكان آخر؛ ونركز على الأبعاد والنوايا الحقيقية والتشكلات الجديدة في موازين القوى داخل المشهد السياسي الأميركي، التي يعسر الوصول لفهم واقعي وما سيبنى عليه من استنتاجات وتوجهات في حال تم القفز عليها، والتمسك بالسردية الرسمية عوضا عنها التي تروجها معظم المؤسسات الإعلامية الأميركية.
ضابط استخبارات سابق في الوكالة المركزية أبلغ الصحف عن حيثيات ومحتويات المكالمة الهاتفية، بعد اطلاعه على سجلات السي آي ايه بالقول ".. ما صدر عن الرئيس ترامب خلال المكالمة الهاتفية لم يكن شائناً. المسألة بوضوح تكمن في اختلاف وجهات النظر حول القضايا السياسية العامة." ليس من العسير استنتاج ما قامت به وسائل الإعلام الرئيسة من طمس ذاك التصريح واحتفاظها بهوية الضابط المذكور.
استبق الرئيس ترامب مطالبة قادة الحزب الديموقراطي بإزالته التصنيف السري عن سجل المكالمة، والإفراج عن نسخة خطية لتفاصيلها بعكس توقعاتهم، مما أفقد خصومه زخم التعبئة والتحريض الإعلامي، بإصراره أنه ليس لديه ما يخفيه.
قراءة متأنية لما نُشر من قبل البيت الأبيض لا تؤيد مزاعم خصومه بانتهاكه القوانين السارية في التعامل مع أوكرانيا، بصرف النظر عن مدى تطابق أو تنافر التقييم الشخصي للرئيس وتصريحاته المتناقضة، لكن لا تتوفر أرضية تدعم تهمة "انتهاك القانون."
ترتبط أوكرانيا والولايات المتحدة بمعاهدة تبادل المعلومات فيما يخص القضايا الجنائية وصون القانون، وقعتها كييف يوم 22 حزيران/يونيو 1998، في عهد الرئيس كلينتون، وصادق عليها مجلس الشيوخ في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2000 ، بآلية تصويت نادرة الاستخدام: قيام الأعضاء وقوفاً من مقاعدهم تعبيراً عن موافقتهم، دون تدوين التصويت الفردي في السجلات الرسمية. وعليه، يتعسر معرفة حقيقة تصويت السيناتور آنذاك جو بايدن بالذات على المعاهدة.
تنص المعاهدة على تبادل المعلومات الأمنية بين الدولتين، وتحديدهما الجهة القانونية المخولة لتطبيقها: الولايات المتحدة، من جانبها، تعين المدعي العام (الفيدرالي) أو ما يرتئيه وزير العدل؛ أوكرانيا تتمثل بوازرة العدل ومكتب المدعي العام.
الثابت في السجلات الرسمية الأميركية تقديم اللجنة المركزية للحزب الديموقراطي طلباً للرئيس الأوكراني، بيترو بوروشينكو، عام 2016، لتقديم ما لدى بلاده من وثائق تدين المرشح دونالد ترامب وكذلك المتعلقة برئيس حملته الانتخابية بول مانافورت.
سفارة أوكرانيا بواشنطن أكدت الحادثة لوسائل الإعلام الأميركية، عبر رسالة خطية جوابية موقعة من السفير الأوكراني فاليري شالي. (نشرة ذا هيل، 2 أيار/مايو 2019).
كما أن قياديين اثنين عن الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ، باتريك ليهي وديك ديربان، ناشدا أوكرانيا في أيار/مايو 2016 تقديم أي معلومات تتعلق بالمرشح ترامب لناحية إحراجه وتسليط حملة إعلامية مكثفة عليه.
بالنظر إلى المعاهدة الأمنية المبرمة بين البلدين، يعتبر طلب الرئيس ترامب من نظيره الأوكراني، قبل نحو شهرين، متطابقاً مع نصوصها وليس تجاوزاً لما يتهم به من انتهاكه لصلاحياته بالتدخل لدى دولة أجنبية في مسألة داخلية صرفه.
بالعودة لتصريحات نائب الرئيس جو بايدن، فقد تباهى في محاضرة متلفزة ألقاها يوم 23 كانون الثاني/يناير 2018، في مجلس العلاقات الخارجية، موضحاً انه "ابتز الحكومة الأوكرانية للضغط عليها لإقالة المدعي العام فيكتور شوكين." ومضى متبجحاً أنه في إحدى زياراته لكييف "ربما رقم 12 أو 13 .. كنت مخولاً بالإعلان عن تقديم (واشنطن) ضمانات مصرفية قيمتها مليار دولار إضافي؛ وظفرت بالتزام (الرئيس) بوروشينكو (ورئيس الوزراء آرسيني) ياتسينيوك بأنهما سيتخذان إجراءات ضد المدعي العام. لكنهما لم يفعلا." الأمر الذي يعزز اتهام الرئيس ترامب له بالتدخل وتهديد دولة أجنبية وهو في قمة الهرم السياسي.
يشار إلى أن نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تسلم مسؤولية ملف أوكرانيا داخل إدارة الرئيس أوباما عقب الانقلاب المدعوم أميركياً في ساحة ميدان، 2014؛ وشرع في التحريض على المدعي العام الاوكراني فيكتور شوكين لمهنيته في التحقيق بشركة بورسيما.
أحد أبرز قادة الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ، كريس ميرفي، ترأس وفداً من أعضاء الحزبين مؤخراً لزيارة كييف واللقاء بالرئيس زيلينسكي، وجه فيها رسالة تهديد مبطنة للأخير موضحاً للصحافة الأميركية ".. تتمتع أوكرانيا بدعم من الحزبين وموافقتهما على تقديم المساعدات لها، لكن ذلك قد يتعرض للتقويض في حال إذعان الرئيس الجديد لمطالب محامي الرئيس ترامب، رودي جولياني، للتحقيق في مزاعم فساد سابقة تضم أميركيين، من بينهم عائلة نائب الرئيس السابق جو بايدن." (نشرة ذا هيل، 23 أيلول/سبتمبر 2019).
ما الذي يخشاه قادة الحزب الديموقراطي مما قد يكشفه تحقيق جديد في اوكرانيا، هو استفسار محوري تتغاضى عنه السردية الرسمية ومحطات التلفزة الرئيسة والوسائل المقروءة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار أن ملاحقتهم أو محاصرتهم للرئيس ترامب هي المحاولة الثانية، بعد اتهامه بالتواطؤ مع روسيا، لكنها تفتقد للزخم السياسي والعداء المتأصل في التركيبة السياسية الحاكمة للحزبين ضد موسكو.
من البديهي الافتراض أن الهدف الأسمى لمناوئي الرئيس ترامب يتجسد في حرمانه ومعاونيه أيضاً من إعادة فتح ملفات التحقيق بالاتهامات السابقة حول روسيا وتحديد هوية الشخصيات والهيئات المتورطة بذلك، بعد فشلهم في إدانته بالتورط معها، وعدم إتاحة الفرصة له بتحسين العلاقات مع موسكو في أي وقت قريب – حسبما أفاد ضابط الاستخبارات المركزية سالف الذكر.
وبدعم من أقرانه في عدد من أجهزة الاستخبارات الأميركية يفيد الضابط بأن الاتهام الأخير لترامب هو "على الأغلب من صنع وكالة الاستخبارات المركزية بالتعاون مع مؤسسات الحزب الديموقراطي .. باختلاق مسألة ثانوية مصطنعة يسخرها قادته لإرساء أرضية تبرر بدء إجراءات التحقيق تمهيداً للعزل."
وشاطرته الرأي يومية وول ستريت جورنال بمخاطبة قادة الحزب الديموقراطي "نتمنى لكم حظاً سعيداً في إقناع الشعب الأميركي بأن أرضية الاتهام تشكل جريمة عقابها العزل."
ما يعزز فرضية ضباط الاستخبارات هو إدراك قادة الحزب الديموقراطي وداعميهم بضعف تحقيق الاتهامات الموجهة وهدف العزل المرجو، طمعاً في إذكاء الصراع مع روسيا ومن ورائها الصين أيضاً، وعدم إتاحة الفرصة لأي توجه بانفراج في العلاقات خلال ما تبقى لولاية الرئيس ترامب.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى انعدام فرص عزل رئيس أميركي عن منصبه نتيجة إجراءات التحقيق. الرئيس الأسبق نيكسون قدم استقالته من منصبه عام 1974 قبل إتمام إجراءات مساءلته، بدعم من قادة حزبه الجمهوري الذين طالبوه بالتنحي لتفادي إرساء سابقة في العصر الحديث.
يومية وول ستريت جورنال نبهت الجمهور لحالة الانقسام استناداً لنتائج استطلاعات الرأي المتعددة لناحية دعم الأغلبية (49%) للبدء في التحقيق، مقابل 46% لا يؤيدون عزل الرئيس ترامب.
وعليه، لا يتوفر أي مؤشر حقيقي على "إمكانية" تخلي أعضاء الحزب الجمهوري عن الرئيس ترامب في المدى المنظور، لا سيما وأن الحزبين يقفان على أعتاب معركة انتخابية شرسة. بل قد يستفيد الحزب الجمهوري والرئيس ترامب من مضي الخصوم الديموقراطيين بتدابير تعزز الانقسام وإعانته على رغبة استعادته لأغلبية مقاعد مجلس النواب.
مشروعية العزل
ينص الدستور الأميركي (الفقرة الرابعة من المادة الثانية) على أن "لمجلس الشيوخ وحده سلطة أجراء محاكمة في جميع تهم المسؤولين؛" ويعقد جلسة خاصة بذلك بكامل أعضائه المئة، برئاسة رئيس المحكمة العليا، ويجري التصويت على المادة المقدمة والتي ينبغي فوزها بموافقة ثلثي الأعضاء، 67 نائباً.
بعد تخويل اللجنة القضائية في مجلس النواب البدء في إجراءات التحقيق، يحال ملف العزل إلى رئاسة المجلس للتصويت عليه بالأغلبية البسيطة (50 + 1)، من قبل كافة أعضاء المجلس البالغ عددهم 435. وبما أن الحزب الديموقراطي لديه الأغلبية البسيطة، 235 مقابل 199 للحزب الجمهوري، فمن المرجح أن يصادق على الخطوة الأولى ورفعه القضية برمتها لمجلس الشيوخ.
أقلية من أعضاء الحزب الديموقراطي في مجلس النواب أبدت تحفظها على قرار قادة الحزب، أبرزهم المرشحة للرئاسة تولسي غابارد، مطالبة بإحالة المسألة لمرحلة الانتخابات الرئاسية والتي ستضمن إزاحة ترامب عوضاً عن إجراءات التحقيق والعزل.
وأعربت غابارد عن اعتقادها بأن "إجراءات العزل عند هذه النقطة المفصلية ستؤدي لانقسامات عميقة في المجتمع في ظل حالة الانقسام الحادة السائدة." ومن المتوقع أن ينضم لها آخرون في الحزب الديموقراطي والذين فازوا بمنصبهم عن دوائر انتخابية تقع في الولايات المتأرجحة أو المؤيدة بغالبيتها لترامب.
ونوهت لتلك النتيجة نشرة (بريتبارت) المؤيدة لترامب معتبرة ان "المعتدلين" من النواب الديموقراطيين، سبعة منهم أيدوا نداء العزل في البداية، يغامرون بمستقبلهم السياسي متسائلين عن الحكمة من قرار البدء بإجراءات العزل.
بما أن الحزب الجمهوري لديه أغلبية في مجلس الشيوخ، 53 مقعداً مقابل 45 للديموقراطيين ومقعدين للمستقلين اللذين يصوتان مع الحزب الديموقراطي في العادة، فإن الحصول على الأغلبية المطلقة، 67، أي بانضمام 20 عضواً من الحزب الجمهوري ضد الرئيس، تصبح مهمة مستحيلة ضمن موازين القوى الراهنة.
حينئذ سيعمد مجلس الشيوخ لإسقاط التهم الموجهة للرئيس ترامب دون الحاجة للنظر في الأدلة؛ وضمان فوز الرئيس ترامب لولاية ثانية، مدعوماً بنحو ثلثي رؤساء كبريات الشركات والذين أعربوا عن ثقتهم بإعادة انتخابه، حسبما أفادت استطلاعات الرأي.
تداعيات العزل
بداية يدرك الحزب الديموقراطي جيداً بأن جهوده ستواجه بفشل محتم في مجلس الشيوخ، وتقتصر مراهنته على استثمار الأجواء الناجمة عن الشكوى المقدمة ضد ترامب في السباق الانتخابي العام المقبل.
حظوظ نائب الرئيس السابق جو بايدن، ضمن تلك المعادلة محفوفة بالخطر، أوجزتها يومية يو اس ايه توداي، بأنه سيواجه معضلة حقيقية جراء ترسيخ تورطه بالفساد عند الناخب العادي (26 أيلول/سبتمبر 2019).
أستاذة العلوم السياسية في جامعة أيوا، مارين كيدروسكي، أوضحت للصحيفة أن بايدن يواجه قلقاً حقيقياً مصدره شكوك العامة بقدرته على اتخاذ القرار الصائب، مما يعزز اتهامات الرئيس ترامب له ليس لتورطه في الفساد فحسب، بل لما فعله المرشح ترامب بالإطاحة بمنافسته هيلاري كلينتون ومحاصرتها بسيل من الاتهامات المشروعة.
شبح الحرب الأهلية
التحقيقات الجارية في مجلس النواب من قبل خصوم الرئيس ترامب قد تتصاعد لتقديم توصية لمجلس الشيوخ للبت في مصيره، رد عليها بأنها بمثابة "انقلاب على السلطة .. وما قاموا به يرتقي لخيانة الدولة وانتهاكاً للدستور."
وهدد في سلسلة تغريداته، 2 أكتوبر الجاري، باندلاع حرب أهلية إذا ما قرر الكونغرس عزله عن منصبه.
ليست المرة الأولى التي يعيد فيها ترامب شبح حرب أهلية لصدارة المشهد السياسي، لكن نبرته الحادة ومفردات تغريداته العنيفة تضيف لمسة من الجدية موجهة ضد عدة خصوم في آن واحد: أولاً، رسالة لنواب الحزب الجمهوري لردعهم عن المضي في استكمال إجراءات العزل؛ ثانياً، لخصومه الديموقراطيين؛ والأهم للأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي ما انفك عن توجيه الاتهامات لها، ووكالة الاستخبارات المركزية تحديدا.
التلويح أو التهديد بحرب أهلية هي ايضاً رسالة لمناصريه المدججين بالسلاح وعلى أهبة الاستعداد للنزول إلى الشارع والاصطدام بالقوى الأمنية؛ وهم بمعظمهم خليط تحالف بين العنصريين البيض وأتباع التيار الديني المتشدد والأفراد الداعين لحماية حقوقهم بحمل السلاح، لا سيما في الأماكن العامة.
في جولة التحقيق السابقة، التي ترأسها المحقق الخاص موللر للنظر في تهمة تورط الرئيس ترامب مع روسيا، هدد ترامب من إمكانية حدوث فتنة أهلية مستنداً إلى قواعد تأييده الثابتة والتي لن تسلِّم بتوجيه تهمة بإدانته أو بقرار عزله.
المعلق اليميني المشهور، راش ليمبو، وعبر برنامجه اليومي في الراديو عبأ مستمعيه وأنصار ترامب ضد المشهد السياسي الراهن في واشنطن، بوصف ملاحقة الكونغرس للرئيس بمثابة "حرب أهلية باردة .. ومقدمة للثورة الفرنسية."
يشار إلى أن تقرير المحقق موللر "لم يجزم ولم يبريء" الرئيس من تهمة التورط، وربما كان الدافع الحقيقي للغموض في نتائج التحقيق ترجمة لمخاوف النخب السياسية من اشتعال فتنة مجهولة المدى والتداعيات، يحركها ويرعاها رئيس الولايات المتحدة.