ضرورة احياء علم - فقه اللغة -
فقه اللغة من العلوم التي استنبطها علماء اللغة والشرع في العصر العباسي، عصر الازدهار والرقي حيث توسعت الفتوحات، وظهرت الترجمات، واختلطت في بوتقة الامة الشعوب بثقافاتها ومعارفها، فاختل اللسان العربي القويم وبدأ الجنوح للحن في القول،واستعجمت الالفاظ العريقة على كثير من اهلها، فاظهر العلماء من امثال الثعالبي وابن فارس وابن سيده وابن جنى وغيرهم هذا العلم، وابرزوه من الخفاء الى الظهور لحاجة الناس اليه في الفقه واستنباط الاحكام، وفي التفسير وتمييز خصائص كلام التنزيل المحفوظ عن غيره من الكلام. والتنزيل بلا شك سواءً كان وحيا متلو - القران الكريم - ام وحي بالمعنى غير متلو - السنة المطهرة - كان له الفضل العظيم في حفظ اللغة واللسان وظهور علوم اللغة قاطبة.
وفقه اللغة هو العلم الذي يبحث في وضع الالفاظ وما طرأ عليها من تحولات في الاستعمال والدلالات والمعاني وخصائص اللغة ومفرداتها لمقصد فهم لغة التنزيل بمعاني اللفظ المستعملة في زمن التنزيل ، ومعرفة اساليب الكلام التي استعملها الكتاب المعجز لبلغاء وفصحاء العرب، و لفهمه على وجوه اساليب العرب في كلامهم الذي بلسانهم تحداهم واعجزهم واقام الحجة عليهم.
يقول الثعالبي في كتابه فقه اللغة واسرار العربية : "العربيّة خير اللّغات والألسنة . والإقبال على تفهّمها من الدّيانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقّه في الدّين وسبب إصلاح المعاش والمعاد .... ولولم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبّحر في جلائلها ودقائقها إلاّ قوة يقين في معرفة إعجاز القرآن" . اه
ومن المسلمات ان مفاهيم القران والسنة وبالتالي احكام الشرع، لا تدرك الا باللسان العربي وبيانه، وادراكها وعلمها واجب شرعي، وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب، فكيف اذا كان هو الوسيلة الوحيدة لادراك الخطاب الرباني؟
فبلا ادنى شك تعلم عربية القران وفقهها واجب شرعي على العرب والعجم على حد سواء، وبذلك يكون هذا الميدان في آن واحد علما ومادّة تعليميّة يتحدّد هدفها، في تمكين المسلم من التّكوين اللّغويّ اللاّزم الذي يحتاجه لامتلاك القدرة على فهم النصّ التشريعي من كتاب او سنة، ومن ثمّة للزّيادة في معرفة دينه. وهذه غاية كلّ علوم اللّغة . وهي التي سمّوها بعلوم الوسيلة، لاعتبارهم ان كلّ علوم اللّسان العربيّ تولدت من اجل خدمة الدّين ونصّه الأساس ، وهو القرآن العظيم وسنة الرسول الكريم، صلوات الله وسلامه عليه واله.
ومن هنا لاحظنا كيف كانت مسيرة التعريب مواكبة للفتوح في عصوره الاولى، فلذلك برز فطاحل علماء العربية من اخواننا الاعاجم .
وقد تنبه لهذا العلم واشاد به ابن خلدون عند تصنيفه العلوم. فقد جعل هذه الفوارق المعنويّة راجعة للاستعمال، خلافا لتلك المعاني الأولى الراجعة إلى الوضع. يقول في توضيح هذا الأمر: "ثمّ كانت العرب تضع الشّيء على العموم ثمّ تستعمل في الأمور الخاصّة ألفاظا أخرى خاصّة بها؛ فرّق ذلك عندنا بين الوضع والاستعمال، واحتاج إلى فقه عزيز المأخذ؛ كما وضع الأبيض بالوضع العامّ لكل ما فيه بياض، ثمّ اختصّ ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان بالأزهر ومن الغنم بالأبلج حتّى صار استعمال الأبيض في كلّها لحنا وخروجا عن لسان العرب" (مقدمة ابن خلدون).
وقد رفع ابن خلدون من منزلة العلم بهذا الفنّ، وجعله أجل حتّى من النّحو , وأشار إلى كتاب أبو منصور الثعالبي قائلا: "وهو آكد ما يأخذ به اللّغويّ نفسه أن يُحرّف استعمال العرب عن واضعه. فليس معرفة الوضع الأوّل بكاف في التّركيب حتّى يشهد له استعمال العرب. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فنّي نظمه ونثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللّغويّة في مفرداتها وتراكيبها وهو أشدّ من اللّحن في الإعراب وأفحش". (المقدمة)
ان علم فقه اللغة الذي اهملته الامة اليوم وغفلت عنه،لهو ضرورة من الضرورات اللازمة لنهضتها وافاقتها من غفلتها والتخلص من تبعيتها ، ومع كل اسف نجد الكثير ممن عجز عن الاستمرار في البناء على ما خططه وخطه الاولون، لجأ الى الكتابة في هذا العلم الى اتخاذ نظريات الغرب اساسا ليقيس عليها لغة العرب ويخضعها لمقاييسهم، فخرجوا لنا بنظريات ومذاهب لا يقبلها طبع العرب ولا طبع العربية ولا ذوقها الغوي وموازينها الكلامية.
واكثر من حاولوا الالتفات لهذا العلم وكتبوا عنه، انما كانوا يصفون فعل الاوائل ولا يزيدون، ما عدا الاستاذ فاضل السامرائي في مباحثه اللغوية وندرة ممن نحوا نحوه.
وكاني بحال الامة يقول هذا باب قد اوصد ولم يترك فيه الاوائل للاواخر مقالا ولا مجالا، وهذا عين العجز والوهم وقلة الحيلة ، ففقه اللغة ابوابه واسعة وضرورته ملحة،
واختم هنا بضرب مثل واحد وهو لفظ مصانع الوارد في قوله تعالى (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129الشعراء)،فلا يدل لفظ مصانع في الاية الكريمة على المصانع المعروفة من استعمال اللفظة اليوم، وكما يتبادر للذهن للوهلة الاولى ، حيث تطلق اليوم على معامل الانتاج الصناعي، وانما عنت ما كان اللفظ مستعملا له من اداء معنى وضع له اصلا، وهو القصور او برك الماء المحفورة في الصخور، ولربما لليوم نجد اللفظ مستعملا عند اهل الارياف والبوادي حيث يقولون وجدت صنعا ويقصدون به حوضا او حفرة منحوتة في الصخر . ففقه اللغة هو العلم الذي يتتبع اللفظ منذ وضعه ويتابع تحولات استعماله وتقلباتها لغاية ما وصل الينا اليوم . ولكم التحية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقه اللغة من العلوم التي استنبطها علماء اللغة والشرع في العصر العباسي، عصر الازدهار والرقي حيث توسعت الفتوحات، وظهرت الترجمات، واختلطت في بوتقة الامة الشعوب بثقافاتها ومعارفها، فاختل اللسان العربي القويم وبدأ الجنوح للحن في القول،واستعجمت الالفاظ العريقة على كثير من اهلها، فاظهر العلماء من امثال الثعالبي وابن فارس وابن سيده وابن جنى وغيرهم هذا العلم، وابرزوه من الخفاء الى الظهور لحاجة الناس اليه في الفقه واستنباط الاحكام، وفي التفسير وتمييز خصائص كلام التنزيل المحفوظ عن غيره من الكلام. والتنزيل بلا شك سواءً كان وحيا متلو - القران الكريم - ام وحي بالمعنى غير متلو - السنة المطهرة - كان له الفضل العظيم في حفظ اللغة واللسان وظهور علوم اللغة قاطبة.
وفقه اللغة هو العلم الذي يبحث في وضع الالفاظ وما طرأ عليها من تحولات في الاستعمال والدلالات والمعاني وخصائص اللغة ومفرداتها لمقصد فهم لغة التنزيل بمعاني اللفظ المستعملة في زمن التنزيل ، ومعرفة اساليب الكلام التي استعملها الكتاب المعجز لبلغاء وفصحاء العرب، و لفهمه على وجوه اساليب العرب في كلامهم الذي بلسانهم تحداهم واعجزهم واقام الحجة عليهم.
يقول الثعالبي في كتابه فقه اللغة واسرار العربية : "العربيّة خير اللّغات والألسنة . والإقبال على تفهّمها من الدّيانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقّه في الدّين وسبب إصلاح المعاش والمعاد .... ولولم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبّحر في جلائلها ودقائقها إلاّ قوة يقين في معرفة إعجاز القرآن" . اه
ومن المسلمات ان مفاهيم القران والسنة وبالتالي احكام الشرع، لا تدرك الا باللسان العربي وبيانه، وادراكها وعلمها واجب شرعي، وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب، فكيف اذا كان هو الوسيلة الوحيدة لادراك الخطاب الرباني؟
فبلا ادنى شك تعلم عربية القران وفقهها واجب شرعي على العرب والعجم على حد سواء، وبذلك يكون هذا الميدان في آن واحد علما ومادّة تعليميّة يتحدّد هدفها، في تمكين المسلم من التّكوين اللّغويّ اللاّزم الذي يحتاجه لامتلاك القدرة على فهم النصّ التشريعي من كتاب او سنة، ومن ثمّة للزّيادة في معرفة دينه. وهذه غاية كلّ علوم اللّغة . وهي التي سمّوها بعلوم الوسيلة، لاعتبارهم ان كلّ علوم اللّسان العربيّ تولدت من اجل خدمة الدّين ونصّه الأساس ، وهو القرآن العظيم وسنة الرسول الكريم، صلوات الله وسلامه عليه واله.
ومن هنا لاحظنا كيف كانت مسيرة التعريب مواكبة للفتوح في عصوره الاولى، فلذلك برز فطاحل علماء العربية من اخواننا الاعاجم .
وقد تنبه لهذا العلم واشاد به ابن خلدون عند تصنيفه العلوم. فقد جعل هذه الفوارق المعنويّة راجعة للاستعمال، خلافا لتلك المعاني الأولى الراجعة إلى الوضع. يقول في توضيح هذا الأمر: "ثمّ كانت العرب تضع الشّيء على العموم ثمّ تستعمل في الأمور الخاصّة ألفاظا أخرى خاصّة بها؛ فرّق ذلك عندنا بين الوضع والاستعمال، واحتاج إلى فقه عزيز المأخذ؛ كما وضع الأبيض بالوضع العامّ لكل ما فيه بياض، ثمّ اختصّ ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان بالأزهر ومن الغنم بالأبلج حتّى صار استعمال الأبيض في كلّها لحنا وخروجا عن لسان العرب" (مقدمة ابن خلدون).
وقد رفع ابن خلدون من منزلة العلم بهذا الفنّ، وجعله أجل حتّى من النّحو , وأشار إلى كتاب أبو منصور الثعالبي قائلا: "وهو آكد ما يأخذ به اللّغويّ نفسه أن يُحرّف استعمال العرب عن واضعه. فليس معرفة الوضع الأوّل بكاف في التّركيب حتّى يشهد له استعمال العرب. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فنّي نظمه ونثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللّغويّة في مفرداتها وتراكيبها وهو أشدّ من اللّحن في الإعراب وأفحش". (المقدمة)
ان علم فقه اللغة الذي اهملته الامة اليوم وغفلت عنه،لهو ضرورة من الضرورات اللازمة لنهضتها وافاقتها من غفلتها والتخلص من تبعيتها ، ومع كل اسف نجد الكثير ممن عجز عن الاستمرار في البناء على ما خططه وخطه الاولون، لجأ الى الكتابة في هذا العلم الى اتخاذ نظريات الغرب اساسا ليقيس عليها لغة العرب ويخضعها لمقاييسهم، فخرجوا لنا بنظريات ومذاهب لا يقبلها طبع العرب ولا طبع العربية ولا ذوقها الغوي وموازينها الكلامية.
واكثر من حاولوا الالتفات لهذا العلم وكتبوا عنه، انما كانوا يصفون فعل الاوائل ولا يزيدون، ما عدا الاستاذ فاضل السامرائي في مباحثه اللغوية وندرة ممن نحوا نحوه.
وكاني بحال الامة يقول هذا باب قد اوصد ولم يترك فيه الاوائل للاواخر مقالا ولا مجالا، وهذا عين العجز والوهم وقلة الحيلة ، ففقه اللغة ابوابه واسعة وضرورته ملحة،
واختم هنا بضرب مثل واحد وهو لفظ مصانع الوارد في قوله تعالى (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129الشعراء)،فلا يدل لفظ مصانع في الاية الكريمة على المصانع المعروفة من استعمال اللفظة اليوم، وكما يتبادر للذهن للوهلة الاولى ، حيث تطلق اليوم على معامل الانتاج الصناعي، وانما عنت ما كان اللفظ مستعملا له من اداء معنى وضع له اصلا، وهو القصور او برك الماء المحفورة في الصخور، ولربما لليوم نجد اللفظ مستعملا عند اهل الارياف والبوادي حيث يقولون وجدت صنعا ويقصدون به حوضا او حفرة منحوتة في الصخر . ففقه اللغة هو العلم الذي يتتبع اللفظ منذ وضعه ويتابع تحولات استعماله وتقلباتها لغاية ما وصل الينا اليوم . ولكم التحية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.