مِن سِدرةِ المُنتَهى؟!!
الظاهرُ أنَّ مَن قالت ذلك تحسَبُ أنَّ سِدرةَ المُنتهَى بجوارِ المَسمطِ التي تأكلُ فيه لحمةَ الرأسِ، وتشربُ مَرَقَتَهَا!!
ما هؤلاء الخَلْق؟!! ومِن أين خرجوا علينا؟!! ولماذا في هذا التوقيتِ؟!! ولماذا يُبَثُّ هذا بين العَوامِّ؟!!
إنَّ أكبرَ وظيفةٍ لوليِّ أمرِ المسلمين في بلادِ المسلمين الحفاظُ على دينِ الأُمَّةِ، وهذا الذي يتكلمونَ فيه يُناقضُ إيمانَ العَوامِّ –إيمانُ العامَّةِ-، وهو إيمانٌ فِطريٌّ، لماذا يُزْلِزلونَهُ؟!! هل هؤلاء العَوامُّ عندما يُبْحَثُ ما قالَهُ الفُقهاءُ وما يُعترَضُ به على أقوالِهِم، وما يتعلقُ بالسُّنَّةِ في تدوينِهَا ونقلِهَا وتحريرِهَا وبَثِّهَا، وما كان عليه البخاريُّ ومُسلم –رحمهما اللهُ رحمةً واسعةً-، هل هذا يُنَاقَشُ أمامَ العوامِّ؟!!
وما الذي يُفيدُهُ العوامُّ مِن هذا النِّقَاشِ؟!!
ما هي إلَّا زلزلةُ عقائدِ العوامِّ؛ لإحداثِ الفوضى في أثبتِ أمرٍ ينبغي أنْ يلتفَّ حولَهُ الناس وهو دينُهُم.
إنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- سَمَّى الكُفْرَ دينًا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1-2]، وفي آخر السورةِ {لَكُمْ دِينُكُمْ}: وهو الكُفْرُ، {وَلِيَ دِينِ} وهو الإسلامُ العظيم، ((وَإِنَّكَ لَنْ تُزَاوِلَ الرَّجُلَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ أَشَدُّ وَأَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ))، وكان يعني الكُفْرَ، هذا قولُ الأشَجِّ –أَشَجِّ عَبْدِ القَيْس-، يقولُهُ لرسولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّكَ لَنْ تُزَاوِلَ الرَّجُلَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ))، ودينُهُ الذي يَقْصِدُهُ هو عبادةُ الأوثانِ، إنما كانوا وثنيينَ يعبدونَ الأصنامَ مِن دونِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم، ومع ذلك أقرَّهُ النبيُّ ﷺ على ما قالَ، فهذا في حقِّ الكُفرِ والوثنيةِ، فكيف بالإسلامِ العظيم؟!!
هذا أعظمُ إخلالٍ بالأمنِ القوميِّ، ومِن أوجبِ الواجباتِ أنْ تُقَصَّ أطرافُ ألسنةِ هؤلاء المُهَرِّفينَ بما لا يعلمون، أو أطرافُ ألسنةِ أولئك الذين يعلمون ما يقولون، ولكنَّهُم أُرسِلُوا علينا مِنَ الأماكنِ المشبوهةِ مِن (جامعةِ ويلز) وغيرِهَا مِن كهوفِ المستشرقينَ الحاقدين، مِنَ اليهودِ الصهاينةِ الذين يُريدونَ مِن قديمٍ زعزعةَ عقائدِ دينِ الإسلامِ العظيمِ في نفوسِ المسلمين، ثم لا يزيدون، تحسَبُونَ أنَّ أحدًا مِن هؤلاء يمكُرُ بكم مِن أجلِ أنْ يُحَوِّلَكُم عن دينِكُم إلى دينٍ آخر؟!!
هذا ليس بمقصودٍ لهم، وإنما يُريدونكُم لا مسلمين ولا كافرين، فلا أنتم الذين يفهمون الدينَ، ولا أنتم بالذين ينسلخونَ مِنَ الدين، فتكونون خطرًا على الدينِ، وأشدَّ خطرًا على الدين ممن انسلخ مِن الدينِ.
نسألُ اللهَ الثباتَ والعافيةَ وأنْ يكفيَنَا شرَّ هؤلاء، وأنْ يُمَسِّكَ أُمَّتنَا دينَهَا، وأنْ يرزقَها التمسُّكَ بسُنَّةِ نبيِّها إنه على كلِّ شيءٍ قديرٍ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنما مَثَلُ هؤلاء التنويريين فيما يدَّعُونَهُ مِنَ الاستقلالِ وحريةِ الفكر والرأي مَثَلَ ذلك الخطيبِ الزنديقِ الأحمق الذي زعموا أنه كان يُبْطِنُ الكُفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، فتعالَمَ الناسُ ذلك منه؛ فَوَسِعُوه إشفاقًا عليه ونظرًا له، ثم أفشى طرفًا منه في بعضِ حديثِهِ، فقالوا: إنَّ المِلَّةَ سَمْحَةٌ وللتأويلِ أبوابٌ، ولكلِّ قولٍ وجوهٌ ومعانٍ، فإنْ لم يكُن في القولِ إلَّا جزءٌ واحدٌ مِنَ الإيمان، وكان فيه تسعةٌ وتسعونَ مِنَ الكُفرِ؛ وجبَ حملُهُ على الواحدِ دون التسعةِ والتسعين!!
فَغرَّهُ ذلك منهم، وحَسِبَهُ ضعفًا ومَعْجَزَةً، فتَقَحَّمَ في كُفرِهِ، وسَوَّلَت له نفسُهُ أنه فوقَ الناسِ، فهو المُستقِلُّ وهُم التابعون!! وهو الحُرُّ وهُم العبيد!! وَقَالَ: إِنَّهُ لَنْ يَكُونَ الكُفرُ في مِثْلِ هؤلاء الجامدين كُفرًا إلَّا في المسجدِ الجامعِ وعلى المِنبرِ، وفي يومِ الجُمعةِ، فليَهْمِس هامِسُهُم ولينطق ناطقُهُم، وَسَأَرَى مَا يَكُونُ مِن تِلْقَائِهِم، فإني لخطيبُ صلاتِهِم، ولكنِّي مُستقِلٌّ أُفَكِّرُ برأسي لا برؤوسِهِم، وإني لأرتزِق منهم ولكني مُستقِلٌّ آكلُ ببطني لا بِبُطُونِهِم، وإذا قالوا: كُفرٌ؛ فإنما هذا إيماني، وإذا قُلتُ: آمِنُوا؛ فإنما ذلك كُفرُهُم، ولهم عليَّ كلامٌ يسمعونَهُ، والكلامُ فنونٌ وأجناسٌ.
فلي أنْ أقولَ ما هَجَسَ في قلبي، أخطأتُ أو أصبتُ، غيَّرْتُ أو بدَّلْتُ، رضُوهُ أو كَرِهُوهُ، وعليهِم لي أجرٌ يدفعونَهُ، لم يكن يومًا ولا يكون ولن يكونَ إلَّا مِن جنسٍ واحدٍ ذَهَبًا خالصًا صحيحًا يَرِنُّ رنينًا صافيًا، لا أقبلُ فيه زائفًا ولا ناقصًا ولا مُغيَّرًا ولا مُبَدَّلًا، ثم لا أرضى فيه برأيي دونَ رأي الصيرفيِّ الحاذقِ البصيرِ، فكثيرُ غِشِّي إياهُم ليس بِغِشٍّ، وأنا بعدُ في عافيةٍ، وأنا مُستقِلٌّ، وأنا مُختارٌ، وأنا أُفَكِّرُ، فأنا موجود!! وإنَّ أهونَ الغِشِّ منهم ولو في دِرهمٍ وما دونَ الدِّرهم لهو الغِشُّ المفضوح والخيانةُ الأثيمةُ والخيانةُ المُوبِقَةُ، ولن يُفلتَهُم القانونُ ولا الشرعُ ولا العُرفُ، وهُم مأخوذونَ به فمُعَاقَبُون عليه.
فلمَّا كانت الجُمُعةُ، والتقى الناسُ لأداءِ المكتوبة، جاءَ الخطيبُ وكان رجُلا ضريرًا، فَشَقَّ المسجدَ حتى صَعِدَ المِنبرَ، فتنحْنَحَ وسَعَلَ، وقال: أيها الناس لقد وقعَ في قلبي الرِّثاءُ لكم، وداخَلَتْنِي الشفقةُ عليكم، فما أَغُشُّكُم بعد اليوم، ولقد غَشَشْتُ مِن قبلُ، إذ كُنتُ لا أقولُ ما أعلم، فلن أجَمْعَ على نَفْسِي بين ما تَرَوْنَهُ كُفرًا وما أراهُ غِشًّا، لقد كنتُ أقولُ لكم عبادَ اللهِ، وإنما أنتم عبادُ أنفُسِكُم، فإنَّ رَجُلًا عربيًّا وضعَ لكم شرعًا وكتابًا لَفَّقَ فيه مِن خُرافاتِ الأعرابِ الذين يبولونَ على أعقابِهِم، ثم مضى لسبيلِهِ فتوهَّمْتُم دينًا وإلَهًا، وتعبَّدْتُم بهذا وتعلَّقْتُم بذاك، فوَهْمَكُم تعبدون، وأنفسَكُم تُؤَلِّهُونَ، وزَعَمْتُم أنَّ الوحيَ كان ينزلُ كلامًا، ولو نزلَ كلامًا للمُهتدينَ؛ لنزلَ حجارةً على الكافرين!!
لمَّا انتهى مِن هذه الكلمةِ مِن قولِهِ؛ أصابَتْهُ حصاةٌ في وجهِهِ، حَصَبَهُ بها رَجُلٌ مِن عُرْضِ الناسِ، فقال: ها، كأنكم تُوهِمُونني أنَّ السماءَ تَرُدُّ عليَّ بهذه الحصاة، ولكنْ مِن أين جاءت؟ جاءت مِن ناحيةِ البابِ، لا مِن ناحيةِ السقفِ، وليس أحدٌ على البابِ، وليس أحدٌ إلَّا في المسجدِ، فَمِن المسجدِ أُصِبْتُ، هذا هو المنطق.
فرماهُ أحدُهُم بنعلٍ صَكَّت وجهَهُ، فقال: وهذا دليلٌ آخر، فما كانت السماءُ لتُرسِلَ نِعالًا، وهذه النعلُ كما أتحسسُهَا نعلٌ مُطيَّنَةٌ، وليس في السماءِ طينٌ، فمِن أين جاءَ الطينُ؟ جاء مِنَ الأرضِ، وكانت النَّعْلُ في قَدَمِ أحدِكُم فَالتَاثَ بها، فمنكم أُصِبْتُ، هذا هو المَنْطِقُ.
فصايحَ الناسُ وقالوا: أيها الشيخ، إنَّ أولَ الغيثِ قَطْرٌ وينسكِبُ، وهذا هو المنطقُ، ثُمَّ انهمرت عليه نِعالُهُم حتى ملأت جوفَ المنبر، ودفنوه فيها دَفْنًا، ثم تركوهُ وتركوها له، ومَشَوا حُفاةً، يرَوْنَ أنهم يُغَبِّرونَ أقدامَهُم في سبيلِ اللهِ.
ثم إنَّ شيخًا كان معهم، فخَالَفَهُم إلى المسجدِ، وتسَوَّرَ المنبرَ حتى علَاهُ، فكشفَ عن وجهِ الخطيبِ المسكين، وكان في برزخٍ بين الدنيا والآخرةِ، فتنفَّسَ حتى ثابَت إليه رُوحُهُ، ثم قالَ أيها الغبيُّ، لقد كُنتَ عالِمًا تكفُرُ في نفسِكَ وفي رأيك، فتركوا لك رأيَك ونَفْسَكَ، ولم يضطرُّوكَ إلى ما تكرهُ وَخَلَّاكَ ذَمٌّ، ولكنَّكَ كُنتَ رجُلًا حَمِقًا مخذولًا، لا تعرفُ موضعَ رأسِكَ مِن مواضعِ رؤوسِ الناسِ، فلمَّا أبَيْتَ إلَّا أنْ يكونَ على كلِّ عُنُقٍ مِثْلُ وجهِكَ الذَّمِيمِ، وأَبَيْتَ إلَّا حَمْلَهُم على كُفرِكَ، وجعلتَ باطِلَكَ أميرَ حقوقِهِم، وأَبَيْتَ إلَّا أنْ تُسَمَّى فيهم رأسًا، وما يعرفونكَ إلَّا ذيْلًا؛ كان منهم ما رأيْتَ، فعرَّفُوكَ أيها العالِمُ العظيمُ قيمةَ عِلمِكَ، إذ أهدَوْا إليك مكتبةً عظيمةً كلُّ مُجَلَّدَاتِهَا نِعالٌ.
فقال الخطيبُ: ولكنَّهُم أهانوا المسجدَ، وانتهكوا حُرمتَهُ، وأَبْطَلُوا الصلاة!! -هذا ذنبٌ عظيمٌ عنده!! وأمَّا كُفرُهُ على المنبرِ فليس بشيءٍ!! وأمَّا دعوتُهُم إلى الكفرِ باللهِ وكتابِهِ ورسولِهِ فليس بشيءٍ!!-، أهانوا المسجدَ، وانتهكوا حُرمتَهُ، وأَبْطَلُوا الصلاة!!
فقال الشيخُ: يا رقيع، ما أراكَ الساعةَ تتكلمُ إلَّا بلسانٍ مِن نعلٍ، قُم أخزاكَ اللهُ، فلو أنهم عرَفُوك بهذا الثِّقَلِ؛ لأَهْدَوْا إليك مكتبةً أخرى مِنَ الحجارةِ.
لقد تيقَّظَ السلفُ الصالحُ –رضوانُ اللهِ عليهم- لخطورةِ الطعنِ في الصحابةِ وسَبِّهِم، وحذَّروا مِنَ الطاعنينَ ومقاصِدِهِم، وذلك لعِلمِهِم بما قد يؤدي إليه ذلك السَّبُّ مِن لوازمَ باطلة، تُناقِضُ أصولَ الدين، فقالَ بعضُهُم كلماتٍ قليلةً لكنَّها جامعة.
مَا أَكْثَرَ مَا تَسْمَعُ اليوم مِن طَعْنٍ في أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، والذينَ يَطْعَنُونَ في أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ لا يَخْلُونَ عَنْ فَرْضيتيْن:
*الأولى: أنهم بِهِم جاهلونَ، فهؤلاء لا يستطيعُ الواحدُ منهم أنْ يقرأَ اسمَ الصحابيِّ، فَضْلًا عن أنْ يَعْرِفَ نَسَبَهُ، فضلًا أنْ يعرفَ ما اعتورَهُ من أحوالِه قبلَ الإسلامِ وبعدَهُ، وكذا ما كان مِن شأنِ مَن وُلِدَ في الإسلامِ، وشَبَّ فيه وتَرَعْرَعَ إلى أنِ اكتَهَلَ فشَابَ، إلى غيرِ ذلك مما يتعلقُ بهؤلاءِ الأصحابِ –رضي اللهُ تعالى عنهم-، فيكونُ جاهلًا بهؤلاء، وإذا جَهِلَهُم؛ قاسَهُم على مَن يُعاصرُهُم ويعرفُهُم مِن حُثَالةِ الناسِ، ولا يظُنُّ أنَّ صحابيًّا يُضَحِّي في سبيلِ ربِّهِ –تبارك وتعالى- ومِن أجلِ دينِهِ بنفسِهِ ومالِهِ وما يملِكُ، لا يتصورُ هذا؛ لأنَّ هذا إنما يَدينُ بمبدأ النفعيةِ، ولا يرى شيئًا إلَّا بمُقابلٍ، ويعرفُ الناسَ حولَهُ لا يَبْذُلُونَ إلَّا في مُقابلِ ما يأخذون، فيقيسُ السَّالفينَ على الخالفينَ، يقيسُ هؤلاء المُتقدمينَ مِن أصحابِ النبيِّ الأمين في شَرَفِهِم، وفي عِزِّهِم، وفي إبائِهِم، وفي إيمانِهِم على مَن يعرفُهُم مِنَ المُنخَنِقَةِ والنَّطيحةِ والموقوذةِ والمُترديةِ وما أَكَلَ السَّبُعُ، إذ لا يعرفُ إلَّا هؤلاء الذين يَبِيعُونَ للناسِ لحومَ الحَميرِ، والذين يَغُشُّونَ الخَلْقَ في كلِّ شيءٍ ولا يصدُقُون في لفظةٍ، ولا يُؤتَمَنُونَ على قشَّةٍ، فيقيسُ هؤلاء السالفين بهؤلاءِ المجرمينَ الهالكينَ المُتخلفينَ الخالفين!!
وهو قياسٌ لَعَمْري كقياسِ الدُّرَّةِ على البَعْرَةِ، كقياسِ الخطيئةِ على الفَضِيلَةِ، كقيَاسِ الهُدَى على الضلالِ، بجَعْلِ هذا كهذا شيئًا واحدًا، وقولًا لا مَثْنويةَ فيه، وهذا لا أقولُ ليس بما يرُدُّهُ العقلُ، بل هذا إنما هو جُنونٌ مُطْبِقٌ لا يُلْتَفَتُ إليه، هذا لا شيء.
فهذه هي الفرضيةُ الأولى.
*والفرضيةُ الثانية: أنَّ هؤلاء يُعمِلُونَ مَعاولَ الهدمِ في هذا الدينِ العظيمِ، وللظرفِ التاريخيِّ الذي تَمُرُّ به الأُمَّةُ الإسلاميةُ ومِصرُ خاصة؛ وجدوهَا فرصة لكي يَتَكَلَّمُوا، ولكي يظهروا؛ لأنَّ قانونَ الضغطِ الاجتماعيِّ قد تحلَّلت أواصرُهُ، وانفكَّت عُرَاهُ، وَصَارَ عَدَمًا، صَارَ لا شيء، فترى المرأةَ في العِقْدِ السادس وهي حيزبون، إذا مَا صُوِّرَت صورةً تُرْفَقُ بِمَقَالٍ لَهَا في صحيفةٍ مِنَ الصُّحُفِ، تلبَسُ ما يُقالُ عند العوامِّ: فَانلة بِحَمَّالَّات، مع إنَّ عِلْمَ وظائف الأعضاء، ولأنَّ العقلَ والفِكرَ والطبيعةَ والنظرَ، كلُّ ذلك يقولُ إنَّ المرأةَ في هذه السِّنِّ ينبغي عليها ألَّا تُظهِرَ ذلك، فإنه مِن عَوْرَاتِهَا الجنسيةِ التي تَصُدُّ الذكورَ والرجالَ عنها، ما هذا؟!!
امرأةٌ بَلَغَت مِن العُمرِ هذا المبلغَ، ومع ذلك لا تَظْهَرُ إلَّا بهذا المَظْهَرِ، ثم تتكلمُ في شيءٍ لا تتكلمُ فيه ذاتُ مثانة، لا تُحسِنُهُ، ويُقالُ إنها تقولُ الشِّعر، أيُّ شِعر؟!! ما هو هذا الشِّعْرُ؟!!
هو الشِّعْرُ الذي دَعَا إليه أدونيس، هَدْمٌ في ثوابتِ الأُمَّةِ وفي بُنيانِهَا المُتماسِك، وهيهات!!
لا تَقُل: إنَّ كَلْبًا ينبحُ والسَّحَابُ يَمُرُّ.
لا؛ إنَّ هؤلاء يظُنُّونَ أنهم كالتِّيوسِ، التي تقومُ بِنَطْحِ الجَبَلِ مِن أجلِ أنْ تُزِيلَهُ مِن مَوْضِعِهِ، ولا والله؛ ما الواحدُ مِنْهُم إلَّا كالنملةِ تحاولُ أنْ تنطحَ الجبلَ مِن أجلِ أنْ تُزيلَهُ مِن مَوضِعِهِ.
الإسلام؛ هذا الذي يحاولون هدمَهُ دينُ اللهِ، الذي حَفِظَهُ –جلَّ وعلا-، سُنَّةُ رسولِ اللهِ ﷺ، أين هؤلاء مِن الزَّنَادِقَةِ المُتقدمين؟! كان عِندَهُم عِلْم، وكان عندهم حِفْظ.
أين هم مِن المستشرقينَ المُعادينَ للدينِ العظيم، وعندهم دراسةٌ، وعندهم بحثٌ، وعندهم نَظَرٌ، وعندهم بعضُ أمانةٍ في النقل، مع ما هم عليه مِن الحقدِ الشديدِ لدِينِ الإسلامِ العظيمِ، ولنبيِّهِ الكريم، ولقُرآنِهِ الكريم التامِّ العظيمِ؟!! ولكنَّهُم أشرفُ مِن هؤلاء، وأكثرُ منهم عِلمًا، الواحدُ مِن هؤلاء لا يستطيعُ أنْ يتكلمَ، لا يُرَكِّبُ جُملةً واحدةً صحيحةً، هذا شيءٌ عجيب!!
لا يُقْبَلُ مِن أَحَدٍ إذا مَا أَصَابَ عزيزًا لديْهِ مَغَصٌ كُلويٌّ أنْ يَذْهَبَ إلى سَبَّاكٍ مِن أَجْلِ هذه المَجَارِي البَوْليةِ –وكلُّهَا مجاري!!-.
لا يُقْبَلُ مِن أحدٍ أنه إذا ما أصابَ العطبُ جهازًا مِن أجهزتِهِ الكهرُبائيةِ الثمينةِ أنْ يذهبَ إلى غيرِ مُختصٍّ بإصلاحِهَا، وربما ذهبَ بها إلى الشَّركةِ التي أنتجتَهَا رَأْسًا حِفاظًا عليها!!
وأمَّا هؤلاء فيتعرضونَ لماذا؟!!
يتعرضونَ لتُراثِ أُمَّةٍ، لحركةِ عقولٍ مَوَّارَةٍ فوَّارَةٍ، ليس كمِثْلِهَا عقولٌ في تاريخِ البشريةِ، علماؤنا لم يُسبَقُوا، لا مِن اليونانِ، ولا مِنَ الإغريق، ولا مِنَ الهندِ، ولا مِنَ الفُرسِ، ولا مِن غيرِ هؤلاء، والحضارةُ الأنجلو سكسونية، وكذلك ما يتعلقُ بجميعِ الحضارات، ليس فيها رجالٌ كرجالِنَا، علماؤنَا.
وخُذ مَثَلًا واحدًا: عالمٌ مِن علمائِنَا يهدِمُ على أرسطو مَنْطِقَهُ، ويأتي الغربيونَ في هذا العصرِ، لكي يقولوا: إنَّ المنطقَ الأرسطيِّ صارَ باليًا قديمًا، فتجاوزُوهُ، الذي وضعَ أصولَ العِلمِ التجريبيِّ ليس (بيكون)، وإنما هو شيخُ الإسلامِ ابن تيمية، وهو الذي نَقَضَ المنطقَ في ((الرَّدِّ على المنطقيين))، وفي ((نَقْضِ المنطقِ)) وحدَهُ بعقلِهِ، وهو مِن أعظمِ العقولِ في تاريخِ هذا الكوكبِ البشريِّ –رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً-.
فيأتي طفلٌ مغمورٌ كصبيِّ الخطيئةِ في بَعْضِ الأفلامِ القديمةِ لكي يَعْتَدِي عليه!! الأستاذ ابن تيمية الذي يدعو إلى الدماء..والذي..!!
نعم، ما اعترضتَ عليه به؛ قَيِّدْهُ، ائتنا بمشروعٍ جديدٍ، ائتِنَا بفقهٍ جديدٍ في بابٍ واحدٍ مِن أبوابِ الفقه، في بابِ الدِّمَاءِ الذي تُزَايدُونَ فيه، لأنَّ بعضَ الحمقى ممن ينتسبونَ إلى هذا الدينِ، وهُم مِن الجُهَّالِ بدينِ اللهِ ربِّ العالمين، فعلُوا ما فعلُوا ونسبُوهُ إلى الدين، أفَمِن أجلِ هذا يُشَوَّهُ الدين؟
هذا هو الظُّلمُ العظيم، فيُزَايدُونَ على الدماءِ، لا يقبلُ الإسلامُ سَفْكَ الدماءِ، بل إنَّ الإسلامَ يحترمُ دماءَ الحيوانات، الإسلامُ يحترمُ الحياةَ -مُطلقَ الحياة-، وَتَأَمَّل في قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «إنَّ نبيًّا وَضَعَ رَحْلَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ، كانت هُنالِكَ قريةٌ مِن قُرَى النَّملِ، فقَرَصَتْهُ نملةٌ، فأمرَ برفعِ رَحْلِهِ –بما كان معه مِن متاعِهِ-، ثُمَّ أَمَرَ بقريةِ النَّمْلِ فأُحرِقَت، فَعَتَبَ اللهُ علَيْهِ، أَمِن أجلِ أنْ قَرَصَتْكَ نملةٌ أهلكتَ أُمَّةً تُسَبِّحُ اللهَ –جَلَّ وعلا-؟».
«إِذَا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَإِذَا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ».
وهذا في الحيواناتِ التي أباحَ اللهُ قَتْلَهَا، لا في النَّاسِ.
«لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا».
ليس هذا في دينٍ على وَجْهِ الأرضِ، وإنْ أَحْيَانَا اللهُ –تبارك وتعالى- أَتيْنَا بالنصوصِ مِنَ «العهدِ القديمِ»، فيها مِنَ الدمويةِ ما لا يُمكنُ أنْ يوصَفَ؛ بإبادةِ الخَلقِ، بحَرقِ الأخضرِ واليابسِ، بالدعوةِ إلى إزهاقِ الحياةِ مِن كلِّ جسدٍ حيٍّ، سيأتي هذا، كلُّهُ بِاسْمِ (يَهْوَه) ربِّ الجنود، ولا يُتَّهَمُ إلَّا دينُ الإسلامِ العظيم!!
يقولُ المَفْلُوكُ الصُّعلوكُ الذي بُرمِجَ هنالك في كهوفِ الاستشراقِ على أيدي أولئك المُستشرقينَ مِنَ الحَقَدَةِ الصهاينةِ والصليبيين على دينِ الإسلامِ العظيم: لا يُوجَدُ دينٌ على ظَهْرِ الأرضِ يُبيحُ القتلَ كدينِ الإسلامِ اليوم، والقاتلُ يَقْتَلُ مِن غيرِ ما مراجعةٍ للنفسِ –في مَعْنَى مَا قَالَ-!!
هذا في دينِ الإسلامِ العظيم؟!!
فَمَا الذي تَقْتَرِحُهُ أنت؟!!
إزالةُ الدين!! إزالةُ السُّنَّةِ!!
لماذا؟!!
لأنه كما قال علماؤنَا في الصحابةِ –رضي الله عنهم-: الذين يَسبُّونَ الصحابة:
يقولُ مالكٌ: «إنما هؤلاء أقوامٌ أرادوا القدحَ في النبيِّ ﷺ، فلم يُمكنهُم ذلك، فقدَحُوا في أصحابِهِ حتى يُقالَ: رجلُ سُوءٍ، ولو كان رجُلًا صالحًا، لكان أصحابُهُ صالحين».
وقال الإمامُ أحمد: «إِذَا رَأيتَ رَجُلًا يَذْكُرُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِسُوءٍ فَاتَّهِمْهُ عَلَى الإِسْلَامِ».
قالَ أبو زُرعة -رحمهُ اللهُ-: «إذا رَأيتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رسولِ اللهِ؛ فَاعْلَمْ أنَّه زِنْدِيقٌ، وَذَلِكَ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ عِنْدَنَا حَقٌّ، وَالقُرْآنَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا القُرْآنَ وَالسُّنَةَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وإنَّما يُرِيدُونَ –يعني: الذين يَطْعَنُونَ في الصحابةِ- أن يَجْرَحُوا شُهودَنَا لِيُبْطِلُوا الكِتَابَ والسُّنَّةَ، والجَرحُ أَوْلَى بِهِم، وَهُمْ زَنادِقَةٌ».
معاوية سِتَارَةُ الصَّحَابَةِ، فإذا انْكَشَفَت وَخُرِّقَتِ السِّتَارةُ؛ اعتُدِيَ على ما وراءَهَا، الصحابةُ سِتَارَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فإذا انْكَشَفَتِ السِّتَارَةُ وخُرِّقَت؛ اعتُدِيَ على رسولِ اللهِ، وَمَا الذي وراءَ الاعتداءِ على السُّنَّةِ، والنَّقدِ لها بطريقةٍ عشوائيةٍ جاهلةٍ مُغْرِقَةٍ في جَهْلِهَا؟!!
لَيْسَ الغَرَض أنْ يَعْتَدُوا على السُّنَّةِ، وإنما هي خُطوةٌ مِن أجلِ الاعتداءِ على القُرآنِ، وقد بَدَءوا في ذَلِكَ على نَحْوٍ مِن الأَنْحَاءِ.
نسألُ اللهَ –تبارك وتعالى- أنْ يكفيَ الأُمَّةَ شرَّهُم، وأنْ يفضحَ أمرَهُم، وأنْ يُخزيَهُم، وأنْ يأخذَهُم أَخْذَ عزيزٍ مُقتدر، وأنْ يُنجِّيَ هذه الأُمَّةَ مِن شرِّ هؤلاء الأشرار، وحِقْدِ هؤلاء الحَاقِدِينَ الفُجَّار، إنه تعالى على كلِّ شيءٍ قدير.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الظاهرُ أنَّ مَن قالت ذلك تحسَبُ أنَّ سِدرةَ المُنتهَى بجوارِ المَسمطِ التي تأكلُ فيه لحمةَ الرأسِ، وتشربُ مَرَقَتَهَا!!
ما هؤلاء الخَلْق؟!! ومِن أين خرجوا علينا؟!! ولماذا في هذا التوقيتِ؟!! ولماذا يُبَثُّ هذا بين العَوامِّ؟!!
إنَّ أكبرَ وظيفةٍ لوليِّ أمرِ المسلمين في بلادِ المسلمين الحفاظُ على دينِ الأُمَّةِ، وهذا الذي يتكلمونَ فيه يُناقضُ إيمانَ العَوامِّ –إيمانُ العامَّةِ-، وهو إيمانٌ فِطريٌّ، لماذا يُزْلِزلونَهُ؟!! هل هؤلاء العَوامُّ عندما يُبْحَثُ ما قالَهُ الفُقهاءُ وما يُعترَضُ به على أقوالِهِم، وما يتعلقُ بالسُّنَّةِ في تدوينِهَا ونقلِهَا وتحريرِهَا وبَثِّهَا، وما كان عليه البخاريُّ ومُسلم –رحمهما اللهُ رحمةً واسعةً-، هل هذا يُنَاقَشُ أمامَ العوامِّ؟!!
وما الذي يُفيدُهُ العوامُّ مِن هذا النِّقَاشِ؟!!
ما هي إلَّا زلزلةُ عقائدِ العوامِّ؛ لإحداثِ الفوضى في أثبتِ أمرٍ ينبغي أنْ يلتفَّ حولَهُ الناس وهو دينُهُم.
إنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- سَمَّى الكُفْرَ دينًا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1-2]، وفي آخر السورةِ {لَكُمْ دِينُكُمْ}: وهو الكُفْرُ، {وَلِيَ دِينِ} وهو الإسلامُ العظيم، ((وَإِنَّكَ لَنْ تُزَاوِلَ الرَّجُلَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ أَشَدُّ وَأَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ))، وكان يعني الكُفْرَ، هذا قولُ الأشَجِّ –أَشَجِّ عَبْدِ القَيْس-، يقولُهُ لرسولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّكَ لَنْ تُزَاوِلَ الرَّجُلَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ))، ودينُهُ الذي يَقْصِدُهُ هو عبادةُ الأوثانِ، إنما كانوا وثنيينَ يعبدونَ الأصنامَ مِن دونِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم، ومع ذلك أقرَّهُ النبيُّ ﷺ على ما قالَ، فهذا في حقِّ الكُفرِ والوثنيةِ، فكيف بالإسلامِ العظيم؟!!
هذا أعظمُ إخلالٍ بالأمنِ القوميِّ، ومِن أوجبِ الواجباتِ أنْ تُقَصَّ أطرافُ ألسنةِ هؤلاء المُهَرِّفينَ بما لا يعلمون، أو أطرافُ ألسنةِ أولئك الذين يعلمون ما يقولون، ولكنَّهُم أُرسِلُوا علينا مِنَ الأماكنِ المشبوهةِ مِن (جامعةِ ويلز) وغيرِهَا مِن كهوفِ المستشرقينَ الحاقدين، مِنَ اليهودِ الصهاينةِ الذين يُريدونَ مِن قديمٍ زعزعةَ عقائدِ دينِ الإسلامِ العظيمِ في نفوسِ المسلمين، ثم لا يزيدون، تحسَبُونَ أنَّ أحدًا مِن هؤلاء يمكُرُ بكم مِن أجلِ أنْ يُحَوِّلَكُم عن دينِكُم إلى دينٍ آخر؟!!
هذا ليس بمقصودٍ لهم، وإنما يُريدونكُم لا مسلمين ولا كافرين، فلا أنتم الذين يفهمون الدينَ، ولا أنتم بالذين ينسلخونَ مِنَ الدين، فتكونون خطرًا على الدينِ، وأشدَّ خطرًا على الدين ممن انسلخ مِن الدينِ.
نسألُ اللهَ الثباتَ والعافيةَ وأنْ يكفيَنَا شرَّ هؤلاء، وأنْ يُمَسِّكَ أُمَّتنَا دينَهَا، وأنْ يرزقَها التمسُّكَ بسُنَّةِ نبيِّها إنه على كلِّ شيءٍ قديرٍ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنما مَثَلُ هؤلاء التنويريين فيما يدَّعُونَهُ مِنَ الاستقلالِ وحريةِ الفكر والرأي مَثَلَ ذلك الخطيبِ الزنديقِ الأحمق الذي زعموا أنه كان يُبْطِنُ الكُفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، فتعالَمَ الناسُ ذلك منه؛ فَوَسِعُوه إشفاقًا عليه ونظرًا له، ثم أفشى طرفًا منه في بعضِ حديثِهِ، فقالوا: إنَّ المِلَّةَ سَمْحَةٌ وللتأويلِ أبوابٌ، ولكلِّ قولٍ وجوهٌ ومعانٍ، فإنْ لم يكُن في القولِ إلَّا جزءٌ واحدٌ مِنَ الإيمان، وكان فيه تسعةٌ وتسعونَ مِنَ الكُفرِ؛ وجبَ حملُهُ على الواحدِ دون التسعةِ والتسعين!!
فَغرَّهُ ذلك منهم، وحَسِبَهُ ضعفًا ومَعْجَزَةً، فتَقَحَّمَ في كُفرِهِ، وسَوَّلَت له نفسُهُ أنه فوقَ الناسِ، فهو المُستقِلُّ وهُم التابعون!! وهو الحُرُّ وهُم العبيد!! وَقَالَ: إِنَّهُ لَنْ يَكُونَ الكُفرُ في مِثْلِ هؤلاء الجامدين كُفرًا إلَّا في المسجدِ الجامعِ وعلى المِنبرِ، وفي يومِ الجُمعةِ، فليَهْمِس هامِسُهُم ولينطق ناطقُهُم، وَسَأَرَى مَا يَكُونُ مِن تِلْقَائِهِم، فإني لخطيبُ صلاتِهِم، ولكنِّي مُستقِلٌّ أُفَكِّرُ برأسي لا برؤوسِهِم، وإني لأرتزِق منهم ولكني مُستقِلٌّ آكلُ ببطني لا بِبُطُونِهِم، وإذا قالوا: كُفرٌ؛ فإنما هذا إيماني، وإذا قُلتُ: آمِنُوا؛ فإنما ذلك كُفرُهُم، ولهم عليَّ كلامٌ يسمعونَهُ، والكلامُ فنونٌ وأجناسٌ.
فلي أنْ أقولَ ما هَجَسَ في قلبي، أخطأتُ أو أصبتُ، غيَّرْتُ أو بدَّلْتُ، رضُوهُ أو كَرِهُوهُ، وعليهِم لي أجرٌ يدفعونَهُ، لم يكن يومًا ولا يكون ولن يكونَ إلَّا مِن جنسٍ واحدٍ ذَهَبًا خالصًا صحيحًا يَرِنُّ رنينًا صافيًا، لا أقبلُ فيه زائفًا ولا ناقصًا ولا مُغيَّرًا ولا مُبَدَّلًا، ثم لا أرضى فيه برأيي دونَ رأي الصيرفيِّ الحاذقِ البصيرِ، فكثيرُ غِشِّي إياهُم ليس بِغِشٍّ، وأنا بعدُ في عافيةٍ، وأنا مُستقِلٌّ، وأنا مُختارٌ، وأنا أُفَكِّرُ، فأنا موجود!! وإنَّ أهونَ الغِشِّ منهم ولو في دِرهمٍ وما دونَ الدِّرهم لهو الغِشُّ المفضوح والخيانةُ الأثيمةُ والخيانةُ المُوبِقَةُ، ولن يُفلتَهُم القانونُ ولا الشرعُ ولا العُرفُ، وهُم مأخوذونَ به فمُعَاقَبُون عليه.
فلمَّا كانت الجُمُعةُ، والتقى الناسُ لأداءِ المكتوبة، جاءَ الخطيبُ وكان رجُلا ضريرًا، فَشَقَّ المسجدَ حتى صَعِدَ المِنبرَ، فتنحْنَحَ وسَعَلَ، وقال: أيها الناس لقد وقعَ في قلبي الرِّثاءُ لكم، وداخَلَتْنِي الشفقةُ عليكم، فما أَغُشُّكُم بعد اليوم، ولقد غَشَشْتُ مِن قبلُ، إذ كُنتُ لا أقولُ ما أعلم، فلن أجَمْعَ على نَفْسِي بين ما تَرَوْنَهُ كُفرًا وما أراهُ غِشًّا، لقد كنتُ أقولُ لكم عبادَ اللهِ، وإنما أنتم عبادُ أنفُسِكُم، فإنَّ رَجُلًا عربيًّا وضعَ لكم شرعًا وكتابًا لَفَّقَ فيه مِن خُرافاتِ الأعرابِ الذين يبولونَ على أعقابِهِم، ثم مضى لسبيلِهِ فتوهَّمْتُم دينًا وإلَهًا، وتعبَّدْتُم بهذا وتعلَّقْتُم بذاك، فوَهْمَكُم تعبدون، وأنفسَكُم تُؤَلِّهُونَ، وزَعَمْتُم أنَّ الوحيَ كان ينزلُ كلامًا، ولو نزلَ كلامًا للمُهتدينَ؛ لنزلَ حجارةً على الكافرين!!
لمَّا انتهى مِن هذه الكلمةِ مِن قولِهِ؛ أصابَتْهُ حصاةٌ في وجهِهِ، حَصَبَهُ بها رَجُلٌ مِن عُرْضِ الناسِ، فقال: ها، كأنكم تُوهِمُونني أنَّ السماءَ تَرُدُّ عليَّ بهذه الحصاة، ولكنْ مِن أين جاءت؟ جاءت مِن ناحيةِ البابِ، لا مِن ناحيةِ السقفِ، وليس أحدٌ على البابِ، وليس أحدٌ إلَّا في المسجدِ، فَمِن المسجدِ أُصِبْتُ، هذا هو المنطق.
فرماهُ أحدُهُم بنعلٍ صَكَّت وجهَهُ، فقال: وهذا دليلٌ آخر، فما كانت السماءُ لتُرسِلَ نِعالًا، وهذه النعلُ كما أتحسسُهَا نعلٌ مُطيَّنَةٌ، وليس في السماءِ طينٌ، فمِن أين جاءَ الطينُ؟ جاء مِنَ الأرضِ، وكانت النَّعْلُ في قَدَمِ أحدِكُم فَالتَاثَ بها، فمنكم أُصِبْتُ، هذا هو المَنْطِقُ.
فصايحَ الناسُ وقالوا: أيها الشيخ، إنَّ أولَ الغيثِ قَطْرٌ وينسكِبُ، وهذا هو المنطقُ، ثُمَّ انهمرت عليه نِعالُهُم حتى ملأت جوفَ المنبر، ودفنوه فيها دَفْنًا، ثم تركوهُ وتركوها له، ومَشَوا حُفاةً، يرَوْنَ أنهم يُغَبِّرونَ أقدامَهُم في سبيلِ اللهِ.
ثم إنَّ شيخًا كان معهم، فخَالَفَهُم إلى المسجدِ، وتسَوَّرَ المنبرَ حتى علَاهُ، فكشفَ عن وجهِ الخطيبِ المسكين، وكان في برزخٍ بين الدنيا والآخرةِ، فتنفَّسَ حتى ثابَت إليه رُوحُهُ، ثم قالَ أيها الغبيُّ، لقد كُنتَ عالِمًا تكفُرُ في نفسِكَ وفي رأيك، فتركوا لك رأيَك ونَفْسَكَ، ولم يضطرُّوكَ إلى ما تكرهُ وَخَلَّاكَ ذَمٌّ، ولكنَّكَ كُنتَ رجُلًا حَمِقًا مخذولًا، لا تعرفُ موضعَ رأسِكَ مِن مواضعِ رؤوسِ الناسِ، فلمَّا أبَيْتَ إلَّا أنْ يكونَ على كلِّ عُنُقٍ مِثْلُ وجهِكَ الذَّمِيمِ، وأَبَيْتَ إلَّا حَمْلَهُم على كُفرِكَ، وجعلتَ باطِلَكَ أميرَ حقوقِهِم، وأَبَيْتَ إلَّا أنْ تُسَمَّى فيهم رأسًا، وما يعرفونكَ إلَّا ذيْلًا؛ كان منهم ما رأيْتَ، فعرَّفُوكَ أيها العالِمُ العظيمُ قيمةَ عِلمِكَ، إذ أهدَوْا إليك مكتبةً عظيمةً كلُّ مُجَلَّدَاتِهَا نِعالٌ.
فقال الخطيبُ: ولكنَّهُم أهانوا المسجدَ، وانتهكوا حُرمتَهُ، وأَبْطَلُوا الصلاة!! -هذا ذنبٌ عظيمٌ عنده!! وأمَّا كُفرُهُ على المنبرِ فليس بشيءٍ!! وأمَّا دعوتُهُم إلى الكفرِ باللهِ وكتابِهِ ورسولِهِ فليس بشيءٍ!!-، أهانوا المسجدَ، وانتهكوا حُرمتَهُ، وأَبْطَلُوا الصلاة!!
فقال الشيخُ: يا رقيع، ما أراكَ الساعةَ تتكلمُ إلَّا بلسانٍ مِن نعلٍ، قُم أخزاكَ اللهُ، فلو أنهم عرَفُوك بهذا الثِّقَلِ؛ لأَهْدَوْا إليك مكتبةً أخرى مِنَ الحجارةِ.
لقد تيقَّظَ السلفُ الصالحُ –رضوانُ اللهِ عليهم- لخطورةِ الطعنِ في الصحابةِ وسَبِّهِم، وحذَّروا مِنَ الطاعنينَ ومقاصِدِهِم، وذلك لعِلمِهِم بما قد يؤدي إليه ذلك السَّبُّ مِن لوازمَ باطلة، تُناقِضُ أصولَ الدين، فقالَ بعضُهُم كلماتٍ قليلةً لكنَّها جامعة.
مَا أَكْثَرَ مَا تَسْمَعُ اليوم مِن طَعْنٍ في أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، والذينَ يَطْعَنُونَ في أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ لا يَخْلُونَ عَنْ فَرْضيتيْن:
*الأولى: أنهم بِهِم جاهلونَ، فهؤلاء لا يستطيعُ الواحدُ منهم أنْ يقرأَ اسمَ الصحابيِّ، فَضْلًا عن أنْ يَعْرِفَ نَسَبَهُ، فضلًا أنْ يعرفَ ما اعتورَهُ من أحوالِه قبلَ الإسلامِ وبعدَهُ، وكذا ما كان مِن شأنِ مَن وُلِدَ في الإسلامِ، وشَبَّ فيه وتَرَعْرَعَ إلى أنِ اكتَهَلَ فشَابَ، إلى غيرِ ذلك مما يتعلقُ بهؤلاءِ الأصحابِ –رضي اللهُ تعالى عنهم-، فيكونُ جاهلًا بهؤلاء، وإذا جَهِلَهُم؛ قاسَهُم على مَن يُعاصرُهُم ويعرفُهُم مِن حُثَالةِ الناسِ، ولا يظُنُّ أنَّ صحابيًّا يُضَحِّي في سبيلِ ربِّهِ –تبارك وتعالى- ومِن أجلِ دينِهِ بنفسِهِ ومالِهِ وما يملِكُ، لا يتصورُ هذا؛ لأنَّ هذا إنما يَدينُ بمبدأ النفعيةِ، ولا يرى شيئًا إلَّا بمُقابلٍ، ويعرفُ الناسَ حولَهُ لا يَبْذُلُونَ إلَّا في مُقابلِ ما يأخذون، فيقيسُ السَّالفينَ على الخالفينَ، يقيسُ هؤلاء المُتقدمينَ مِن أصحابِ النبيِّ الأمين في شَرَفِهِم، وفي عِزِّهِم، وفي إبائِهِم، وفي إيمانِهِم على مَن يعرفُهُم مِنَ المُنخَنِقَةِ والنَّطيحةِ والموقوذةِ والمُترديةِ وما أَكَلَ السَّبُعُ، إذ لا يعرفُ إلَّا هؤلاء الذين يَبِيعُونَ للناسِ لحومَ الحَميرِ، والذين يَغُشُّونَ الخَلْقَ في كلِّ شيءٍ ولا يصدُقُون في لفظةٍ، ولا يُؤتَمَنُونَ على قشَّةٍ، فيقيسُ هؤلاء السالفين بهؤلاءِ المجرمينَ الهالكينَ المُتخلفينَ الخالفين!!
وهو قياسٌ لَعَمْري كقياسِ الدُّرَّةِ على البَعْرَةِ، كقياسِ الخطيئةِ على الفَضِيلَةِ، كقيَاسِ الهُدَى على الضلالِ، بجَعْلِ هذا كهذا شيئًا واحدًا، وقولًا لا مَثْنويةَ فيه، وهذا لا أقولُ ليس بما يرُدُّهُ العقلُ، بل هذا إنما هو جُنونٌ مُطْبِقٌ لا يُلْتَفَتُ إليه، هذا لا شيء.
فهذه هي الفرضيةُ الأولى.
*والفرضيةُ الثانية: أنَّ هؤلاء يُعمِلُونَ مَعاولَ الهدمِ في هذا الدينِ العظيمِ، وللظرفِ التاريخيِّ الذي تَمُرُّ به الأُمَّةُ الإسلاميةُ ومِصرُ خاصة؛ وجدوهَا فرصة لكي يَتَكَلَّمُوا، ولكي يظهروا؛ لأنَّ قانونَ الضغطِ الاجتماعيِّ قد تحلَّلت أواصرُهُ، وانفكَّت عُرَاهُ، وَصَارَ عَدَمًا، صَارَ لا شيء، فترى المرأةَ في العِقْدِ السادس وهي حيزبون، إذا مَا صُوِّرَت صورةً تُرْفَقُ بِمَقَالٍ لَهَا في صحيفةٍ مِنَ الصُّحُفِ، تلبَسُ ما يُقالُ عند العوامِّ: فَانلة بِحَمَّالَّات، مع إنَّ عِلْمَ وظائف الأعضاء، ولأنَّ العقلَ والفِكرَ والطبيعةَ والنظرَ، كلُّ ذلك يقولُ إنَّ المرأةَ في هذه السِّنِّ ينبغي عليها ألَّا تُظهِرَ ذلك، فإنه مِن عَوْرَاتِهَا الجنسيةِ التي تَصُدُّ الذكورَ والرجالَ عنها، ما هذا؟!!
امرأةٌ بَلَغَت مِن العُمرِ هذا المبلغَ، ومع ذلك لا تَظْهَرُ إلَّا بهذا المَظْهَرِ، ثم تتكلمُ في شيءٍ لا تتكلمُ فيه ذاتُ مثانة، لا تُحسِنُهُ، ويُقالُ إنها تقولُ الشِّعر، أيُّ شِعر؟!! ما هو هذا الشِّعْرُ؟!!
هو الشِّعْرُ الذي دَعَا إليه أدونيس، هَدْمٌ في ثوابتِ الأُمَّةِ وفي بُنيانِهَا المُتماسِك، وهيهات!!
لا تَقُل: إنَّ كَلْبًا ينبحُ والسَّحَابُ يَمُرُّ.
لا؛ إنَّ هؤلاء يظُنُّونَ أنهم كالتِّيوسِ، التي تقومُ بِنَطْحِ الجَبَلِ مِن أجلِ أنْ تُزِيلَهُ مِن مَوْضِعِهِ، ولا والله؛ ما الواحدُ مِنْهُم إلَّا كالنملةِ تحاولُ أنْ تنطحَ الجبلَ مِن أجلِ أنْ تُزيلَهُ مِن مَوضِعِهِ.
الإسلام؛ هذا الذي يحاولون هدمَهُ دينُ اللهِ، الذي حَفِظَهُ –جلَّ وعلا-، سُنَّةُ رسولِ اللهِ ﷺ، أين هؤلاء مِن الزَّنَادِقَةِ المُتقدمين؟! كان عِندَهُم عِلْم، وكان عندهم حِفْظ.
أين هم مِن المستشرقينَ المُعادينَ للدينِ العظيم، وعندهم دراسةٌ، وعندهم بحثٌ، وعندهم نَظَرٌ، وعندهم بعضُ أمانةٍ في النقل، مع ما هم عليه مِن الحقدِ الشديدِ لدِينِ الإسلامِ العظيمِ، ولنبيِّهِ الكريم، ولقُرآنِهِ الكريم التامِّ العظيمِ؟!! ولكنَّهُم أشرفُ مِن هؤلاء، وأكثرُ منهم عِلمًا، الواحدُ مِن هؤلاء لا يستطيعُ أنْ يتكلمَ، لا يُرَكِّبُ جُملةً واحدةً صحيحةً، هذا شيءٌ عجيب!!
لا يُقْبَلُ مِن أَحَدٍ إذا مَا أَصَابَ عزيزًا لديْهِ مَغَصٌ كُلويٌّ أنْ يَذْهَبَ إلى سَبَّاكٍ مِن أَجْلِ هذه المَجَارِي البَوْليةِ –وكلُّهَا مجاري!!-.
لا يُقْبَلُ مِن أحدٍ أنه إذا ما أصابَ العطبُ جهازًا مِن أجهزتِهِ الكهرُبائيةِ الثمينةِ أنْ يذهبَ إلى غيرِ مُختصٍّ بإصلاحِهَا، وربما ذهبَ بها إلى الشَّركةِ التي أنتجتَهَا رَأْسًا حِفاظًا عليها!!
وأمَّا هؤلاء فيتعرضونَ لماذا؟!!
يتعرضونَ لتُراثِ أُمَّةٍ، لحركةِ عقولٍ مَوَّارَةٍ فوَّارَةٍ، ليس كمِثْلِهَا عقولٌ في تاريخِ البشريةِ، علماؤنا لم يُسبَقُوا، لا مِن اليونانِ، ولا مِنَ الإغريق، ولا مِنَ الهندِ، ولا مِنَ الفُرسِ، ولا مِن غيرِ هؤلاء، والحضارةُ الأنجلو سكسونية، وكذلك ما يتعلقُ بجميعِ الحضارات، ليس فيها رجالٌ كرجالِنَا، علماؤنَا.
وخُذ مَثَلًا واحدًا: عالمٌ مِن علمائِنَا يهدِمُ على أرسطو مَنْطِقَهُ، ويأتي الغربيونَ في هذا العصرِ، لكي يقولوا: إنَّ المنطقَ الأرسطيِّ صارَ باليًا قديمًا، فتجاوزُوهُ، الذي وضعَ أصولَ العِلمِ التجريبيِّ ليس (بيكون)، وإنما هو شيخُ الإسلامِ ابن تيمية، وهو الذي نَقَضَ المنطقَ في ((الرَّدِّ على المنطقيين))، وفي ((نَقْضِ المنطقِ)) وحدَهُ بعقلِهِ، وهو مِن أعظمِ العقولِ في تاريخِ هذا الكوكبِ البشريِّ –رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً-.
فيأتي طفلٌ مغمورٌ كصبيِّ الخطيئةِ في بَعْضِ الأفلامِ القديمةِ لكي يَعْتَدِي عليه!! الأستاذ ابن تيمية الذي يدعو إلى الدماء..والذي..!!
نعم، ما اعترضتَ عليه به؛ قَيِّدْهُ، ائتنا بمشروعٍ جديدٍ، ائتِنَا بفقهٍ جديدٍ في بابٍ واحدٍ مِن أبوابِ الفقه، في بابِ الدِّمَاءِ الذي تُزَايدُونَ فيه، لأنَّ بعضَ الحمقى ممن ينتسبونَ إلى هذا الدينِ، وهُم مِن الجُهَّالِ بدينِ اللهِ ربِّ العالمين، فعلُوا ما فعلُوا ونسبُوهُ إلى الدين، أفَمِن أجلِ هذا يُشَوَّهُ الدين؟
هذا هو الظُّلمُ العظيم، فيُزَايدُونَ على الدماءِ، لا يقبلُ الإسلامُ سَفْكَ الدماءِ، بل إنَّ الإسلامَ يحترمُ دماءَ الحيوانات، الإسلامُ يحترمُ الحياةَ -مُطلقَ الحياة-، وَتَأَمَّل في قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «إنَّ نبيًّا وَضَعَ رَحْلَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ، كانت هُنالِكَ قريةٌ مِن قُرَى النَّملِ، فقَرَصَتْهُ نملةٌ، فأمرَ برفعِ رَحْلِهِ –بما كان معه مِن متاعِهِ-، ثُمَّ أَمَرَ بقريةِ النَّمْلِ فأُحرِقَت، فَعَتَبَ اللهُ علَيْهِ، أَمِن أجلِ أنْ قَرَصَتْكَ نملةٌ أهلكتَ أُمَّةً تُسَبِّحُ اللهَ –جَلَّ وعلا-؟».
«إِذَا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَإِذَا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ».
وهذا في الحيواناتِ التي أباحَ اللهُ قَتْلَهَا، لا في النَّاسِ.
«لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا».
ليس هذا في دينٍ على وَجْهِ الأرضِ، وإنْ أَحْيَانَا اللهُ –تبارك وتعالى- أَتيْنَا بالنصوصِ مِنَ «العهدِ القديمِ»، فيها مِنَ الدمويةِ ما لا يُمكنُ أنْ يوصَفَ؛ بإبادةِ الخَلقِ، بحَرقِ الأخضرِ واليابسِ، بالدعوةِ إلى إزهاقِ الحياةِ مِن كلِّ جسدٍ حيٍّ، سيأتي هذا، كلُّهُ بِاسْمِ (يَهْوَه) ربِّ الجنود، ولا يُتَّهَمُ إلَّا دينُ الإسلامِ العظيم!!
يقولُ المَفْلُوكُ الصُّعلوكُ الذي بُرمِجَ هنالك في كهوفِ الاستشراقِ على أيدي أولئك المُستشرقينَ مِنَ الحَقَدَةِ الصهاينةِ والصليبيين على دينِ الإسلامِ العظيم: لا يُوجَدُ دينٌ على ظَهْرِ الأرضِ يُبيحُ القتلَ كدينِ الإسلامِ اليوم، والقاتلُ يَقْتَلُ مِن غيرِ ما مراجعةٍ للنفسِ –في مَعْنَى مَا قَالَ-!!
هذا في دينِ الإسلامِ العظيم؟!!
فَمَا الذي تَقْتَرِحُهُ أنت؟!!
إزالةُ الدين!! إزالةُ السُّنَّةِ!!
لماذا؟!!
لأنه كما قال علماؤنَا في الصحابةِ –رضي الله عنهم-: الذين يَسبُّونَ الصحابة:
يقولُ مالكٌ: «إنما هؤلاء أقوامٌ أرادوا القدحَ في النبيِّ ﷺ، فلم يُمكنهُم ذلك، فقدَحُوا في أصحابِهِ حتى يُقالَ: رجلُ سُوءٍ، ولو كان رجُلًا صالحًا، لكان أصحابُهُ صالحين».
وقال الإمامُ أحمد: «إِذَا رَأيتَ رَجُلًا يَذْكُرُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِسُوءٍ فَاتَّهِمْهُ عَلَى الإِسْلَامِ».
قالَ أبو زُرعة -رحمهُ اللهُ-: «إذا رَأيتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رسولِ اللهِ؛ فَاعْلَمْ أنَّه زِنْدِيقٌ، وَذَلِكَ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ عِنْدَنَا حَقٌّ، وَالقُرْآنَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا القُرْآنَ وَالسُّنَةَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وإنَّما يُرِيدُونَ –يعني: الذين يَطْعَنُونَ في الصحابةِ- أن يَجْرَحُوا شُهودَنَا لِيُبْطِلُوا الكِتَابَ والسُّنَّةَ، والجَرحُ أَوْلَى بِهِم، وَهُمْ زَنادِقَةٌ».
معاوية سِتَارَةُ الصَّحَابَةِ، فإذا انْكَشَفَت وَخُرِّقَتِ السِّتَارةُ؛ اعتُدِيَ على ما وراءَهَا، الصحابةُ سِتَارَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فإذا انْكَشَفَتِ السِّتَارَةُ وخُرِّقَت؛ اعتُدِيَ على رسولِ اللهِ، وَمَا الذي وراءَ الاعتداءِ على السُّنَّةِ، والنَّقدِ لها بطريقةٍ عشوائيةٍ جاهلةٍ مُغْرِقَةٍ في جَهْلِهَا؟!!
لَيْسَ الغَرَض أنْ يَعْتَدُوا على السُّنَّةِ، وإنما هي خُطوةٌ مِن أجلِ الاعتداءِ على القُرآنِ، وقد بَدَءوا في ذَلِكَ على نَحْوٍ مِن الأَنْحَاءِ.
نسألُ اللهَ –تبارك وتعالى- أنْ يكفيَ الأُمَّةَ شرَّهُم، وأنْ يفضحَ أمرَهُم، وأنْ يُخزيَهُم، وأنْ يأخذَهُم أَخْذَ عزيزٍ مُقتدر، وأنْ يُنجِّيَ هذه الأُمَّةَ مِن شرِّ هؤلاء الأشرار، وحِقْدِ هؤلاء الحَاقِدِينَ الفُجَّار، إنه تعالى على كلِّ شيءٍ قدير.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.