عالمُ ما بعد فيروسة كورونا!
صبحي غندور*
استطاعت فيروسة صغيرة لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة أن تُغيّر وجه العالم كلّه في أسابيع قليلة. فيروسة كورونا جعلت مليارات من الناس يخضعون معظم الأوقات للإقامة الجبرية في منازلهم، وأجبرت أيضاً دولاً وقوى عظمى على الانطواء على ذاتها وعلى تغيير نمط الحياة فيها رأساً على عقب، ولم تنفع خزائن أسلحة الدّمار الشامل التي تملكها في مواجهة أخطار هذا الفيروس المنتشر، خلال هذه الفترة، عالمياً.
أولويات الحكومات والشعوب على امتداد القارّات كلّها تغيّرت الآن، وإلى مدى زمني غير معروف، بانتظار الترياق من هذه الجهة أو تلك!. وما ظهر من نتائج سلبية اقتصادية عالمية هو رأس جبل الجليد حتّى الآن حيث الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، فإلى أين ذاهبٌ عالم اليوم؟ وكيف يمكن التعامل الفردي والجماعي مع هذا الوباء المجهول أصله وفصله؟!.
طبيب أميركي أعطى مثالاً جيداً عن واقع حال العاملين حالياً في المؤسّسات الطبّية والصحّية، فقد وصفهم بأنّهم يحسنون التحكّم بقيادة السفينة خلال العواصف، لكنّهم لا يقدرون على التحكّم في سرعة الريح وحركة الأمواج، وهاهو وباء كورونا أشبه بالأمواج العاتية التي تُهدّد السفينة ومن عليها.
إذن، هي مرحلةٌ زمنيةٌ صعبة تعيشها البشرية الآن، وقد شهد العالم حالاتٍ كثيرة مشابهة لها في السابق وربّما أشدّ خطورةً منها، كما حصل منذ مائة عام مع ظهور وباء الأنفلونزا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، وكان العالم آنذاك يكفيه ما كان عليه من حالاتٍ عصيبة بعد حربٍ مدمّرة ومجاعات وانهيارات اقتصادية، فجاء وباء الأنفلونزا ليصيب حوالي 500 مليون توفّي منهم ما بين 50 إلى 100 مليون، أي ضعف عدد ضحايا الحرب العالمية، إضافةً إلى أوبئةٍ أخرى أطاحت بملايين البشر في مراحل وأمكنة مختلفة.
الفارق المهمّ في عصرنا الحاضر هو تطوّر العلم والأبحاث ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تتيح جميعها إمكاناتٍ كبيرة لاكتشاف اللقاح المناسب من أجل وقف انتشار الوباء، ولعلاج المصابين به وتسهيل إيصال الإرشادات المناسبة لعموم الناس، وهي أمورٌ لم تكن متوفّرة كلّها في حالات الأوبئة السابقة.
الأمر الآخر المهمّ التوقّف عنده هو عدم حتمية الوفاة لمن يصيبهم هذا الوباء، وبأنّ ما يحصل من علاجاتٍ فورية الآن قد أدّى إلى شفاء العديد ممّن تعرّضوا للإصابة به. فتبعاً للموقع الإكتروني الخاصّ بجامعة جون هابكنز، والذي ينشر إحصاءاتٍ رسمية يومية بعدد المصابين بالعالم وبمن جرى النجاح في علاجهم في مختلف البلدان، فإنّ الأرقام هي حتّى تاريخ كتابة هذا المقال: حوالي 182 ألف مصاب بالوباء توفّي منهم حوالي 7 آلاف وشفي من الوباء حوالي 80 ألفاً، والعدد الباقي ما زال قيد العلاج.
وبالمقارنة مع حالات الأنفلونزا في الولايات المتحدة خلال الشهور الستّة الماضية (من أكتوبر إلى مارس) نجد هذه الإحصاءات المخيفة في أرقامها عن عدد المتوفّين نتيجة الأنفلونزا في الولايات المتحدة فقط: ما بين 370 ألف و670 ألف شخصاً دخلوا المستشفيات بأميركا للعلاج وتوفّي منهم ما بين 22 ألفاً و55 ألفاً، وذلك حسب الموقع الرسمي الأميركي CDC وهو المركز الخاصّ بمراقبة الأوبئة:
https://www.cdc.gov/flu/about/burden/preliminary-in-season-estimates.htm
نعم، من حقّ كل إنسان في أيّ مكان بالعالم اليوم أن يخاف هذا الوباء المجهول الذي دخل الأوطان خلسةً ولم يطرق أبوابها، لكن رغم الجهل بمصدره الحقيقي وبكيفية علاجه فهو أقلّ خطراً حتّى الآن من وباء الأنفلونزا الذي تعايش العالم معه على مدار عقود طويلة وما يزال. وسيكون من السليم طبعاً اتّباع الإرشادات الصحّية والاجتماعية كلّها التي صدرت عن المؤسّسات الصحّية وعن الحكومات، لكن ما هو غير صحّي وغير سليم الوقوع في حالة الهلع والفزع لأنّ ذلك لن يقدّم أو يؤخّر شيئاً بالنسبة للوباء ولمواجهته، بل سيزيد من ضعف المناعة في أجسام الناس ويجعلها أكثر قابلية للإصابة بالوباء.
وصحيحٌ أنّ هذا الوباء هو كعدوٍّ للإنسانية وللحياة، ويجب مقاومته بسيف العلاج واللقاح المنشود الوصول إليه، لكن الدرع الذي يحمي صدور الناس الآن يتوقّف عليهم وعلى مقدار تعزيز قوّة المناعة في أجسادهم، وعلى مدى التزامهم بإرشادات الصحّة والنظافة في سلوكهم اليومي مع أنفسهم ومع الآخرين.
فالنّاس جميعهم الآن هم جنودٌ ومقاتلون في المعركة ضدّ هذا الوباء، وكما في المعارك العسكرية كلّها يسقط شهداء وجرحى، سيحصل ذلك أيضاً في المواجهة مع فيروس كورونا. ولن يموت أي إنسان قبل حلول أجله.
وصحيحٌ أنّ بلدان العالم تقفل على نفسها الآن وتمنع السفر منها وإليها، وهذا يعني عزلة لشعوب العالم وأوطانه، وإسقاط اضّطراري لعصر "العولمة" الذي عاشه الناس في العقود الثلاثة الماضية، لكن أيضا هناك "عولمة صحّية" تحصل الآن. فهناك وحدة حال أنشأتها فيروسة كورونا بين النّاس على هذه الأرض، وهناك همٌّ واحدٌ مشترَك أصبح يجمع الشرق مع الغرب، والشمال مع الجنوب، والفقير مع الغني، والمهمّش مع المشهور والمعروف، والحاكم مع المعارض له، وهي حالة نادرة الحصول عادةً في تاريخ الصراع بين الأمم وداخلها. فعسى يكون فيروس كورونا منبّهاً لمخاطر استمرار سياسات ولّدت حروباً قُتِل أو يُقتَل فيها عشرات الألوف من الأبرياء في العالم، ولم يهتمّ حتّى الإعلام بهم أحياناً!.
ربّما تريد فيروسة كورونا أن تعكس ما حدث في العالم قبل مائة سنة، حيث شقيقتها "الإرهابية" فيروسة الأنفلونزا أرهبت الناس وقتلت الملايين منهم بعد الحرب العالمية الأولى، وحاولت تلقين حكّام العالم درساً هامّاً لم يتعلّموه أو يستفيدوا منه، وهو أنّ كل أسلحتهم الفتّاكة لم تقتل كما قتل الفيروس آنذاك، فإذا بالدول الكبرى تخوض حرباً عالمية أخرى في القرن الماضي، إضافةً لعديدٍ من الحروب الإقليمية وغزو واحتلال لشعوبٍ أخرى.
ربّما أرادت فيروسة كورونا الصغيرة أن تستبق حرباً عالمية بين الكبار لتظهر لهم كم هم عاجزون أمامها رغم ما هم عليه من قوّةٍ وجبروت، وبأنّ أولى بهم العمل لنهضة شعوب العالم وخدمة الناس لا التنافس على القتل والاستمرار في سباق التسلّح!.
17-3-2020
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.
صبحي غندور*
استطاعت فيروسة صغيرة لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة أن تُغيّر وجه العالم كلّه في أسابيع قليلة. فيروسة كورونا جعلت مليارات من الناس يخضعون معظم الأوقات للإقامة الجبرية في منازلهم، وأجبرت أيضاً دولاً وقوى عظمى على الانطواء على ذاتها وعلى تغيير نمط الحياة فيها رأساً على عقب، ولم تنفع خزائن أسلحة الدّمار الشامل التي تملكها في مواجهة أخطار هذا الفيروس المنتشر، خلال هذه الفترة، عالمياً.
أولويات الحكومات والشعوب على امتداد القارّات كلّها تغيّرت الآن، وإلى مدى زمني غير معروف، بانتظار الترياق من هذه الجهة أو تلك!. وما ظهر من نتائج سلبية اقتصادية عالمية هو رأس جبل الجليد حتّى الآن حيث الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، فإلى أين ذاهبٌ عالم اليوم؟ وكيف يمكن التعامل الفردي والجماعي مع هذا الوباء المجهول أصله وفصله؟!.
طبيب أميركي أعطى مثالاً جيداً عن واقع حال العاملين حالياً في المؤسّسات الطبّية والصحّية، فقد وصفهم بأنّهم يحسنون التحكّم بقيادة السفينة خلال العواصف، لكنّهم لا يقدرون على التحكّم في سرعة الريح وحركة الأمواج، وهاهو وباء كورونا أشبه بالأمواج العاتية التي تُهدّد السفينة ومن عليها.
إذن، هي مرحلةٌ زمنيةٌ صعبة تعيشها البشرية الآن، وقد شهد العالم حالاتٍ كثيرة مشابهة لها في السابق وربّما أشدّ خطورةً منها، كما حصل منذ مائة عام مع ظهور وباء الأنفلونزا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، وكان العالم آنذاك يكفيه ما كان عليه من حالاتٍ عصيبة بعد حربٍ مدمّرة ومجاعات وانهيارات اقتصادية، فجاء وباء الأنفلونزا ليصيب حوالي 500 مليون توفّي منهم ما بين 50 إلى 100 مليون، أي ضعف عدد ضحايا الحرب العالمية، إضافةً إلى أوبئةٍ أخرى أطاحت بملايين البشر في مراحل وأمكنة مختلفة.
الفارق المهمّ في عصرنا الحاضر هو تطوّر العلم والأبحاث ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تتيح جميعها إمكاناتٍ كبيرة لاكتشاف اللقاح المناسب من أجل وقف انتشار الوباء، ولعلاج المصابين به وتسهيل إيصال الإرشادات المناسبة لعموم الناس، وهي أمورٌ لم تكن متوفّرة كلّها في حالات الأوبئة السابقة.
الأمر الآخر المهمّ التوقّف عنده هو عدم حتمية الوفاة لمن يصيبهم هذا الوباء، وبأنّ ما يحصل من علاجاتٍ فورية الآن قد أدّى إلى شفاء العديد ممّن تعرّضوا للإصابة به. فتبعاً للموقع الإكتروني الخاصّ بجامعة جون هابكنز، والذي ينشر إحصاءاتٍ رسمية يومية بعدد المصابين بالعالم وبمن جرى النجاح في علاجهم في مختلف البلدان، فإنّ الأرقام هي حتّى تاريخ كتابة هذا المقال: حوالي 182 ألف مصاب بالوباء توفّي منهم حوالي 7 آلاف وشفي من الوباء حوالي 80 ألفاً، والعدد الباقي ما زال قيد العلاج.
وبالمقارنة مع حالات الأنفلونزا في الولايات المتحدة خلال الشهور الستّة الماضية (من أكتوبر إلى مارس) نجد هذه الإحصاءات المخيفة في أرقامها عن عدد المتوفّين نتيجة الأنفلونزا في الولايات المتحدة فقط: ما بين 370 ألف و670 ألف شخصاً دخلوا المستشفيات بأميركا للعلاج وتوفّي منهم ما بين 22 ألفاً و55 ألفاً، وذلك حسب الموقع الرسمي الأميركي CDC وهو المركز الخاصّ بمراقبة الأوبئة:
https://www.cdc.gov/flu/about/burden/preliminary-in-season-estimates.htm
نعم، من حقّ كل إنسان في أيّ مكان بالعالم اليوم أن يخاف هذا الوباء المجهول الذي دخل الأوطان خلسةً ولم يطرق أبوابها، لكن رغم الجهل بمصدره الحقيقي وبكيفية علاجه فهو أقلّ خطراً حتّى الآن من وباء الأنفلونزا الذي تعايش العالم معه على مدار عقود طويلة وما يزال. وسيكون من السليم طبعاً اتّباع الإرشادات الصحّية والاجتماعية كلّها التي صدرت عن المؤسّسات الصحّية وعن الحكومات، لكن ما هو غير صحّي وغير سليم الوقوع في حالة الهلع والفزع لأنّ ذلك لن يقدّم أو يؤخّر شيئاً بالنسبة للوباء ولمواجهته، بل سيزيد من ضعف المناعة في أجسام الناس ويجعلها أكثر قابلية للإصابة بالوباء.
وصحيحٌ أنّ هذا الوباء هو كعدوٍّ للإنسانية وللحياة، ويجب مقاومته بسيف العلاج واللقاح المنشود الوصول إليه، لكن الدرع الذي يحمي صدور الناس الآن يتوقّف عليهم وعلى مقدار تعزيز قوّة المناعة في أجسادهم، وعلى مدى التزامهم بإرشادات الصحّة والنظافة في سلوكهم اليومي مع أنفسهم ومع الآخرين.
فالنّاس جميعهم الآن هم جنودٌ ومقاتلون في المعركة ضدّ هذا الوباء، وكما في المعارك العسكرية كلّها يسقط شهداء وجرحى، سيحصل ذلك أيضاً في المواجهة مع فيروس كورونا. ولن يموت أي إنسان قبل حلول أجله.
وصحيحٌ أنّ بلدان العالم تقفل على نفسها الآن وتمنع السفر منها وإليها، وهذا يعني عزلة لشعوب العالم وأوطانه، وإسقاط اضّطراري لعصر "العولمة" الذي عاشه الناس في العقود الثلاثة الماضية، لكن أيضا هناك "عولمة صحّية" تحصل الآن. فهناك وحدة حال أنشأتها فيروسة كورونا بين النّاس على هذه الأرض، وهناك همٌّ واحدٌ مشترَك أصبح يجمع الشرق مع الغرب، والشمال مع الجنوب، والفقير مع الغني، والمهمّش مع المشهور والمعروف، والحاكم مع المعارض له، وهي حالة نادرة الحصول عادةً في تاريخ الصراع بين الأمم وداخلها. فعسى يكون فيروس كورونا منبّهاً لمخاطر استمرار سياسات ولّدت حروباً قُتِل أو يُقتَل فيها عشرات الألوف من الأبرياء في العالم، ولم يهتمّ حتّى الإعلام بهم أحياناً!.
ربّما تريد فيروسة كورونا أن تعكس ما حدث في العالم قبل مائة سنة، حيث شقيقتها "الإرهابية" فيروسة الأنفلونزا أرهبت الناس وقتلت الملايين منهم بعد الحرب العالمية الأولى، وحاولت تلقين حكّام العالم درساً هامّاً لم يتعلّموه أو يستفيدوا منه، وهو أنّ كل أسلحتهم الفتّاكة لم تقتل كما قتل الفيروس آنذاك، فإذا بالدول الكبرى تخوض حرباً عالمية أخرى في القرن الماضي، إضافةً لعديدٍ من الحروب الإقليمية وغزو واحتلال لشعوبٍ أخرى.
ربّما أرادت فيروسة كورونا الصغيرة أن تستبق حرباً عالمية بين الكبار لتظهر لهم كم هم عاجزون أمامها رغم ما هم عليه من قوّةٍ وجبروت، وبأنّ أولى بهم العمل لنهضة شعوب العالم وخدمة الناس لا التنافس على القتل والاستمرار في سباق التسلّح!.
17-3-2020
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.