أضرار الفقراء جراء "كورونا"
الطاهر المعز
ينتشر وباء فيروس "كورونا" في جميع أنحاء العالم، لكن العُمّال والفلاحين يواصلون العمل في قطاع الخَدَمات ووسائل النّقل والإتصالات، وينتجون الغذاء والدواء وكل أسباب الحياة، أما العاملون في قطاع الصّحّة، فإنهم يُعالجون المرضى، ويُخاطرون بحياتهم، من أجل بقاء البشر على قَيْد الحياة، رغم نقص وسائل الوقاية، في حين يُمارس الرأسماليون "هوايتهم" المُفضّلة، والمتمثلة في الاستغلال والمُضاربة بقُوت وحياة البشر، وتكديس الأرباح، من خلال عرق ودم وحياة العاملين، وأورد "اتحاد النقابات العالمي" بعض نماذج الإستغلال والمضاربة، ففي "أثينا"، عاصمة اليونان، ارتفع سعر القناع الذي يُغطي الفم والأنف، من يورو واحد إلى عشرة يورو، وفي مدريد، عاصمة إسبانيا، ارتفع سعر نفس القناع، خلال عشرة أيام، من 2,5 يورو إلى 25 يورو، وفي "بنغلادش"، ارتفع سعر القناع من عشرين "تاكا" (العُمْلَة المَحلّيّة) إلى 150 "تاكا"، خلال عشرة أيام، وفي تركيا ارتفع سعر كيلو العجين (مكرونة) خلال خمسة أيام، من ليرة واحدة إلى 12 ليرة تركية، وفي عاصمة "نيجيريا"، ارتفع سعر السائل المُطَهّر لليَدَيْن دولارَيْن، إلى ثمانية دولارات، خلال عشرة أيام...
يضاعف الرأسماليون أرباحهم، من خلال استغلال عرق العاملين، وكذلك حاجة الفُقراء وأغلبية المواطنين، ومن خلال احتكار المواد الأساسية والمُضارَبَة بها وزيادة أسعارها أضعافًا، خلال فترة قصيرة، والمضاربة بمستلزمات الحماية والوقاية والعلاج، اللازمة لحماية المواطن العادي، وشكل انتشار وباء "كوفيد 19" فُرْصَةً لتركيز الثروات لدى قِلّة من الرأسماليين الإحتكاريين ومن المصارف، مع تدمير الحقوق الاجتماعية، فيما تُشَرِّعُ معظم الأنظمة القائمة في العالم الإحتكار والإستغلال الفاحش للعمال، وخفض الرواتب ومعاشات التقاعد، ويستغل الرأسماليون والحكومات انتشار وباء "كوفيد 19" (أو كورونا) لقَضْم بعض الحقوق والمكتسبات، وتنصُّل الحكومات من اتخاذ تدابير فورية للحماية الاجتماعية، ولذا فلا بديل عن النضال من أجل المحافظة على المكتسبات وتطويرها، في أي ظرف، وفي أي مكان من العالم...
تتزامن الأزمات الصحية (سارس و H1N1 وأبيولا وكورونا وغيرها) مع انتشار الحُروب العدوانية على شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ومع تدهور وضع المُحيط، والبيئة، وارتفاع قيمة الدّيْن العمومي، وارتفاع نسبته من الناتج المحلي الإجمالي، ومع تفكيك الهياكل التي كانت تَضُم العُمال (النقابات) والفُقراء، لترتفع نسبة العمل الهش والمُؤقت وبدوام جزئي والعمل في القطاع الموازي بين السكان، وخاصة في البلدان الفقيرة، وزاد نُفُوذ الشركات الإحتكارية الغذائية والصناعية، والمصارف الكُبْرى، وشركات المُختبرات وتصنيع الأدوية، ما يجعل الرأسمالية مسؤولة عن مآسي مليارات البشر، مقابل زيادة نُفُوذ وأرباح فئة صغيرة من الأثرياء تتراوح نسبتها بين 1% و 10% من سكان الكوكب، وتحتكر ما بين 90% و 99% من ثَروات العالم، بسبب سياسات الدُّوَل التي أقَرّت إعفاء أثرى الأثْرِياء من الضرائب على الأرباح، أو خفض الضريبة إلى أدْنى حد، وزيادة الضرائب على الرواتب وعلى استهلاك السلع والخدمات الأساسية...
بدأت الصين رفع الحَجْر الصحي على سكان مقاطعة "ووان"، حيث وقع اكتشاف الإصابات الأولى بالفيروس التّاجي (كوفيد 19)، زاد انتشار الوباء في العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا. أما في آسيا فقد قررت حكومة اليمين المتطرف في الهند حَظْر الجولان، وحجز المواطنين في بيوتهم (إن كانت لهم بيوت)، لفترة ثلاثة أسابيع، بدءًا من يوم الثلاثاء 24 آذار/مارس 2020، دون الإهتمام بتوفير الغذاء والعلاج والوقاية للفقراء والمحرومين، وهم كُثْرٌ، ما يرفع عدد الخاضعين للحَجْر الصّحّي في العالم إلى حوالي 2,7 مليار إنسان، وفيما ارتفع عدد المُصابين الذين وقع إحْصاؤُهُمْ إلى حوالي 362 ألف، وعدد حالات الوفاة إلى ما لا يقل عن 16 ألف ضحية، بحسب منظمة الصحة العالمية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفض تعميم حالة الطّوارئ الصحية، قائلا: "إن إعلان الحجر الصحي ومنع الجولان مُضِرٌّ بالإقتصاد وبعالم المال والأعمال" (أ.ف.ب 24/03/2020).
تسبب انتشار وباء "كوفيد 19" ( كورونا ) في انهيار الأسواق المالية العالمية، من الصين إلى الولايات المتحدة (التي أنكر رئيسها وجود أي حالة إصابة، لعدة أسابيع)، مرورًا بأوروبا وبقية العالم، فانخفض قيمة الأسهم الأمريكية بمعدّل 12% حتى منتصف شهر آذار/مارس 2020، وانخفض مؤشر "ستاندرد آند بورز"، بنسبة 30% خلال الفترة بين 12 شباط/فبراير و13 آذار/مارس 2020، وسجل مؤشر "داو جونز" أسوأ أداء، خلال ثلاثية عقود، بحسب وكالة "بلومبرغ"، وقّتوقّع مُحَلِّلُو مصرف "غولدمان ساكس"، انخفاض الناتج المحلّي الإجمالي الأمريكي بنسبة 5% في الربع الثاني من سنة 2020، وقد ترتفع النسبة إلى 14% بنهاية السنة الحالية (2020) بحسب مُحلِّلِي مصرف "جي بي مورغان"، مع احتمال ركود الإقتصاد العالمي، وارتفاع عدد العاملين المُسرّحين من الوظائف، وانخفاض هامش ربح رأس المال، وانهيار حركة التجارة وتبادل السّلع والخدمات في العالم، وشل الحركة داخل كل بلد، وإغلاق مؤسسات التعليم، والفنادق والمطاعم والمقاهي، وإغلاق الحدود، وتقييد حركة البشر والسّلع، ما يؤدي إلى خسارة ملايين الوظائف، وارتفاع نسبة البطالة في الولايات المتحدة، من نسبة 3,5% إلى 6% بنهاية سنة 2020، وربما ترتفع النسبة إلى 20% بنهاية الربع الثاني من سنة 2021، بحسب وزير الخزانة الأمريكي، بسبب انخفاض نشاط القطاع الصناعي (إضافة إلى القطاعات الأخرى) الذي يساهم بحصة ترليونَيْ دولار أو ما يعادل 10% من الناتج الإجمالي المحلي الأمريكي، ويُشغّل نحو 18 مليون عامل، ويؤدّي ارتفاع نسبة البطالة إلى انخفاض قيمة دَخْل الأفراد البالغين، والأُسَر، وانخفاض الإستهلاك والطلب على السلع والخدمات.
كتبت صحيفة "واشنطن بوست" أن الحَجْر الصّحّي شمل ما لا يقل عن 80 مليون عامل، وتسبب في توقف غالبية الأعمال، وانهيار الاقتصاد، وزيادة عدد المُعطّلين عن العمل، بنحو ثلاثة ملايين، خلال أسبوع واحد، من 16 إلى 21 آذار/مارس 2020، ويتوقع أن تُعلن عدد من الشركات إفلاسها، وأن تُغلق شركات صناعة السيارات الثلاث الكبرى مصانعها، قبل يوم يوم 30 آذار/مارس/آذار 2020، وأن تغلق شركات الفنادق محلاتها، مع ما ينتج عن ذلك من تسريح للعُمّال، وتتوقع مختلف المصارف وشركات الإستشارات والإستثمار انكماش الإقتصاد الأمريكي بنسَبٍ تتراوح ما بين 14% و 30%...
اهتمت الدولة (الإدارة الأمريكية ومجلس الاحتياطي الإتحادي ) بمصالح رأس المال، مع إهمال مصالح العاملين والمواطنين "العادِيِّين"، فخفض مجلس الإحتياطي (المصرف المركزي) أسعار الفائدة إلى الصفر، وشراء السندات بقيمة 700 مليار دولار، خلال فترة قصيرة، ثم أقرّ مجلس الشيوخ إنفاق الدولة 1,2 تريليون دولارا، "لإنقاذ الإقتصاد"، أي ضخ هذا المبلغ من المال العام، لصالح المصارف والشركات الكبرى...
استغلت كافة حكومات دول العالم فرصة انتشار الوباء لتشديد الرقابة على المواطنين، وإهمال جانب التّوعية ونشر المعرفة والإخبار العلمية، ليكون المواطنون على بينة من حقيقة الوباء ومخاطره ووسائل الوقاية، وغير ذلك، وأعلنت بعض حكومات الدول الأوروبية انها "في حالة حرب"، لكن المواطنين لا يرغبون في إرساء نظام استبدادي، يحكمهم كما في زمن الحرب، فالمواطنون لا يُواجهون عدوًّا خارجيا، جاء لغزْوِ بلادهم بالقوة، بل وباء، يتطلب نشر معلومات صحية وطبية وعلمية واضحة ومُبَسّطَة، ليتمكنوا من المشاركة الواعية والطوعية في احتواء الوباء، إلى جانب العاملين في قطاع الرعاية الصّحّية، ومعظمهم من النساء، فالنساء موجودات في الخط الأمامي لمواجهة هذا الوباء، حيث تُشكل النساء نسبة 90% من العاملين في مجال التمريض والسّهر على علاج وراحة المَرْضَى، وكبار السن، ومن العاملين في دور الحضانة ورعاية العاجزين عن الحركة، في العالم، كما تشكل النساء 82% من إجمالي المُدَرِّسِين في التعليم الإبتدائي...
اهتمت الحُكُومات بمواصلة النشاط الإقتصادي، وبحُرّية حركة السّلع ورأس المال، دون الإهتمام بحماية العاملين والمواطنين، فرغم تطور البحث العلمي والصّحّي والطّبّي، لم تتوجه جهود المختبرات الحكومية والخاصة نحو البحث عن لقاح أو علاج، لوباء "كوفيد 19" (كورونا) الذي يَضُرُّ بالفُقراء وبالعاملين في القطاع الموازي وبفاقدي المأوى، وكل من يعيشون في ظروف قاسية، في ظل نظام صحي ضعيف، نتيجة الخصخصة والتقشف وخفض ميزانيات الصحة العمومية، وخفض عدد العاملين والتجهيزات في قطاع الرعاية الصحة، وإلغاء أساليب الوقاية، وعدم الإهتمام بوقاية العاملين في قطاع الصحة، في معظم بلدان العالم، ما أدى إلى إطلاق إضرابات، خاصة في أوروبا، من أجل تأمين الظروف الطبيعية للعمل في قطاعات صناعية (صناعة السيارات)، وخدمات التنظيف وجمع النفايات، وعُمّال الصّحة، وغيرها.
يعيش في الولايات المتحدة أكثر من ثلاثين مليون مواطن، أو حوالي 10% من البالِغِين، بدون مظلة صحية (بدون تأمين صحي)، ما يجعل هؤلاء عُرْضَة للإصابة بشتى أنواع الأمراض، خصوصًا في فصل الشتاء.
في أوروبا قررت حكومات دول الإتحاد الأوروبي تقديم مِنح مالية للشركات بقيمة 1,260 تريليون يورو، وقرر المصرف المركزي الأووروبي، دعم الشركات الكبرى والمصارف، بسبب "الأضرار الناتجة عن انتشار وباء كوفيد 19"، بالمقابل، أغلقت الحكومات محلات توزيع الغذاء والملابس على الفُقراء، بسبب الحجْر الصحي، ما يُضاعف من مُعاناة الفُقراء، كما أغلقت محلات الإيواء الشّتْوي للفُقراء، من فاقدي المأوى (حوالي 4,5 ملايين في دول الإتحاد الأوروبي، يموت منهم حوالي 16 ألف شخص سنويا، وتشكل النساء نسبة 10% من حالات الوفيات، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية 29/10/2019)، بذريعة "الحَد من الإختلاط ومن نشر الوباء"، وتُشكل هذه القرارات كارثة صحية واجتماعية، وهي قرارات جائرة تستهدف الفُقراء، بشكل حَصْرِي، إذ يتهددُهُم الموت جوعًا وبَرْدًا ومَرَضًا، قبل بلوغ سن الخمسين، في المتوسّط، مقابل معدل ثمانين سنة لبقية المواطنين، ولا يمكن لهؤلاء الفُقراء المعدمين العمل في وظائف هَشّة، من حين لآخر، بشكل مؤقت، للحصول على بعض المال. أما من يسكنون بيوتًا غير صحية، فيجبرهم الحجر الصحي على الإكتظاظ ليلاً نهارًا، في مساحات صغيرة، بدون ألعاب أو وسائل ترفيه...
في فلسطين المحتلة، تذرعت أجهزة القمع لدولة الإحتلال بانتشار الوباء لفرض مزيد من العُزلة على سكان الأراضي المحتلة سنة 1967، وعلى الأسْرى، وعلى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1948، واستخدمت التقنيات المتطورة والوسائل الإلكترونية والرّقْمِيّة، للتجسس على الهواتف المحمولة والحواسيب، وكافة وسائل الإتصال، مع نصب مزيد من أجهزة المراقبة (كاميرا) في الشوراع وفي الفضاء العام، وفي دُور العبادة (الكنائس والمساجد)، وزرع برامج تجسُّس على الأشخاص (الفلسطينيين) لجمع المعلومات بشأن حوالي مليونَيْن من الفلسطينيين، من أبناء وأحفاد من تمكّنوا من البقاء في وطنهم، سنة 1948، "واحتمال استغلال هذه البيانات" من قِبَل الإحتلال، لأغراض "أمْنِيّة"، لتعَقُّب واعتقال الفلسطينيين، و"انتهاك حقوق الإنسان"، بدون رادع ولا رقيب، بحسب المركز الحُقُوقي "عدالة".
يُقدّر عدد العاملين المتضررين من انتشار وباء "كوفيد 19" بما لا يقل عن مائة مليون عامل وموظف وأجير، ناهيك عن المنتجين من مزارعين وحِرَفِيِّين، وغيرهم، ويعبر العاملون في قطاعات الرعاية الصحية والتجارة والتنظيف وغيرهم، في مواجهة مباشرة مع الوباء، خاصة وأن معظمهم لا يمتلكون وسائل الوقاية، من كَمّامات وغيرها، ويعملون في ظروف عسيرة، منذ تسريع وتيرة الخصخصة وتسليع الخدمات الأساسية، ما رَفَع من عدد حالات الوفيات بين العاملين، خاصة في القطاع الصحي والرعاية الإجتماعية، ناهيك عن المتضررين من إيقاف النشاط في قطاعات الصناعة والنقل والسياحة والتجارة، وغيرها، وما رفع عدد المُسرّحين من وظائفهم، بذريعة انتشار فيروس "كورونا"، وأقرت حكومات العالم دَعْم الشركات والأثرياء والمصارف وأرباب العمل، بدل دعم المواطنين، والفُقراء منهم بشكل خاص...
الطاهر المعز
ينتشر وباء فيروس "كورونا" في جميع أنحاء العالم، لكن العُمّال والفلاحين يواصلون العمل في قطاع الخَدَمات ووسائل النّقل والإتصالات، وينتجون الغذاء والدواء وكل أسباب الحياة، أما العاملون في قطاع الصّحّة، فإنهم يُعالجون المرضى، ويُخاطرون بحياتهم، من أجل بقاء البشر على قَيْد الحياة، رغم نقص وسائل الوقاية، في حين يُمارس الرأسماليون "هوايتهم" المُفضّلة، والمتمثلة في الاستغلال والمُضاربة بقُوت وحياة البشر، وتكديس الأرباح، من خلال عرق ودم وحياة العاملين، وأورد "اتحاد النقابات العالمي" بعض نماذج الإستغلال والمضاربة، ففي "أثينا"، عاصمة اليونان، ارتفع سعر القناع الذي يُغطي الفم والأنف، من يورو واحد إلى عشرة يورو، وفي مدريد، عاصمة إسبانيا، ارتفع سعر نفس القناع، خلال عشرة أيام، من 2,5 يورو إلى 25 يورو، وفي "بنغلادش"، ارتفع سعر القناع من عشرين "تاكا" (العُمْلَة المَحلّيّة) إلى 150 "تاكا"، خلال عشرة أيام، وفي تركيا ارتفع سعر كيلو العجين (مكرونة) خلال خمسة أيام، من ليرة واحدة إلى 12 ليرة تركية، وفي عاصمة "نيجيريا"، ارتفع سعر السائل المُطَهّر لليَدَيْن دولارَيْن، إلى ثمانية دولارات، خلال عشرة أيام...
يضاعف الرأسماليون أرباحهم، من خلال استغلال عرق العاملين، وكذلك حاجة الفُقراء وأغلبية المواطنين، ومن خلال احتكار المواد الأساسية والمُضارَبَة بها وزيادة أسعارها أضعافًا، خلال فترة قصيرة، والمضاربة بمستلزمات الحماية والوقاية والعلاج، اللازمة لحماية المواطن العادي، وشكل انتشار وباء "كوفيد 19" فُرْصَةً لتركيز الثروات لدى قِلّة من الرأسماليين الإحتكاريين ومن المصارف، مع تدمير الحقوق الاجتماعية، فيما تُشَرِّعُ معظم الأنظمة القائمة في العالم الإحتكار والإستغلال الفاحش للعمال، وخفض الرواتب ومعاشات التقاعد، ويستغل الرأسماليون والحكومات انتشار وباء "كوفيد 19" (أو كورونا) لقَضْم بعض الحقوق والمكتسبات، وتنصُّل الحكومات من اتخاذ تدابير فورية للحماية الاجتماعية، ولذا فلا بديل عن النضال من أجل المحافظة على المكتسبات وتطويرها، في أي ظرف، وفي أي مكان من العالم...
تتزامن الأزمات الصحية (سارس و H1N1 وأبيولا وكورونا وغيرها) مع انتشار الحُروب العدوانية على شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ومع تدهور وضع المُحيط، والبيئة، وارتفاع قيمة الدّيْن العمومي، وارتفاع نسبته من الناتج المحلي الإجمالي، ومع تفكيك الهياكل التي كانت تَضُم العُمال (النقابات) والفُقراء، لترتفع نسبة العمل الهش والمُؤقت وبدوام جزئي والعمل في القطاع الموازي بين السكان، وخاصة في البلدان الفقيرة، وزاد نُفُوذ الشركات الإحتكارية الغذائية والصناعية، والمصارف الكُبْرى، وشركات المُختبرات وتصنيع الأدوية، ما يجعل الرأسمالية مسؤولة عن مآسي مليارات البشر، مقابل زيادة نُفُوذ وأرباح فئة صغيرة من الأثرياء تتراوح نسبتها بين 1% و 10% من سكان الكوكب، وتحتكر ما بين 90% و 99% من ثَروات العالم، بسبب سياسات الدُّوَل التي أقَرّت إعفاء أثرى الأثْرِياء من الضرائب على الأرباح، أو خفض الضريبة إلى أدْنى حد، وزيادة الضرائب على الرواتب وعلى استهلاك السلع والخدمات الأساسية...
بدأت الصين رفع الحَجْر الصحي على سكان مقاطعة "ووان"، حيث وقع اكتشاف الإصابات الأولى بالفيروس التّاجي (كوفيد 19)، زاد انتشار الوباء في العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا. أما في آسيا فقد قررت حكومة اليمين المتطرف في الهند حَظْر الجولان، وحجز المواطنين في بيوتهم (إن كانت لهم بيوت)، لفترة ثلاثة أسابيع، بدءًا من يوم الثلاثاء 24 آذار/مارس 2020، دون الإهتمام بتوفير الغذاء والعلاج والوقاية للفقراء والمحرومين، وهم كُثْرٌ، ما يرفع عدد الخاضعين للحَجْر الصّحّي في العالم إلى حوالي 2,7 مليار إنسان، وفيما ارتفع عدد المُصابين الذين وقع إحْصاؤُهُمْ إلى حوالي 362 ألف، وعدد حالات الوفاة إلى ما لا يقل عن 16 ألف ضحية، بحسب منظمة الصحة العالمية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفض تعميم حالة الطّوارئ الصحية، قائلا: "إن إعلان الحجر الصحي ومنع الجولان مُضِرٌّ بالإقتصاد وبعالم المال والأعمال" (أ.ف.ب 24/03/2020).
تسبب انتشار وباء "كوفيد 19" ( كورونا ) في انهيار الأسواق المالية العالمية، من الصين إلى الولايات المتحدة (التي أنكر رئيسها وجود أي حالة إصابة، لعدة أسابيع)، مرورًا بأوروبا وبقية العالم، فانخفض قيمة الأسهم الأمريكية بمعدّل 12% حتى منتصف شهر آذار/مارس 2020، وانخفض مؤشر "ستاندرد آند بورز"، بنسبة 30% خلال الفترة بين 12 شباط/فبراير و13 آذار/مارس 2020، وسجل مؤشر "داو جونز" أسوأ أداء، خلال ثلاثية عقود، بحسب وكالة "بلومبرغ"، وقّتوقّع مُحَلِّلُو مصرف "غولدمان ساكس"، انخفاض الناتج المحلّي الإجمالي الأمريكي بنسبة 5% في الربع الثاني من سنة 2020، وقد ترتفع النسبة إلى 14% بنهاية السنة الحالية (2020) بحسب مُحلِّلِي مصرف "جي بي مورغان"، مع احتمال ركود الإقتصاد العالمي، وارتفاع عدد العاملين المُسرّحين من الوظائف، وانخفاض هامش ربح رأس المال، وانهيار حركة التجارة وتبادل السّلع والخدمات في العالم، وشل الحركة داخل كل بلد، وإغلاق مؤسسات التعليم، والفنادق والمطاعم والمقاهي، وإغلاق الحدود، وتقييد حركة البشر والسّلع، ما يؤدي إلى خسارة ملايين الوظائف، وارتفاع نسبة البطالة في الولايات المتحدة، من نسبة 3,5% إلى 6% بنهاية سنة 2020، وربما ترتفع النسبة إلى 20% بنهاية الربع الثاني من سنة 2021، بحسب وزير الخزانة الأمريكي، بسبب انخفاض نشاط القطاع الصناعي (إضافة إلى القطاعات الأخرى) الذي يساهم بحصة ترليونَيْ دولار أو ما يعادل 10% من الناتج الإجمالي المحلي الأمريكي، ويُشغّل نحو 18 مليون عامل، ويؤدّي ارتفاع نسبة البطالة إلى انخفاض قيمة دَخْل الأفراد البالغين، والأُسَر، وانخفاض الإستهلاك والطلب على السلع والخدمات.
كتبت صحيفة "واشنطن بوست" أن الحَجْر الصّحّي شمل ما لا يقل عن 80 مليون عامل، وتسبب في توقف غالبية الأعمال، وانهيار الاقتصاد، وزيادة عدد المُعطّلين عن العمل، بنحو ثلاثة ملايين، خلال أسبوع واحد، من 16 إلى 21 آذار/مارس 2020، ويتوقع أن تُعلن عدد من الشركات إفلاسها، وأن تُغلق شركات صناعة السيارات الثلاث الكبرى مصانعها، قبل يوم يوم 30 آذار/مارس/آذار 2020، وأن تغلق شركات الفنادق محلاتها، مع ما ينتج عن ذلك من تسريح للعُمّال، وتتوقع مختلف المصارف وشركات الإستشارات والإستثمار انكماش الإقتصاد الأمريكي بنسَبٍ تتراوح ما بين 14% و 30%...
اهتمت الدولة (الإدارة الأمريكية ومجلس الاحتياطي الإتحادي ) بمصالح رأس المال، مع إهمال مصالح العاملين والمواطنين "العادِيِّين"، فخفض مجلس الإحتياطي (المصرف المركزي) أسعار الفائدة إلى الصفر، وشراء السندات بقيمة 700 مليار دولار، خلال فترة قصيرة، ثم أقرّ مجلس الشيوخ إنفاق الدولة 1,2 تريليون دولارا، "لإنقاذ الإقتصاد"، أي ضخ هذا المبلغ من المال العام، لصالح المصارف والشركات الكبرى...
استغلت كافة حكومات دول العالم فرصة انتشار الوباء لتشديد الرقابة على المواطنين، وإهمال جانب التّوعية ونشر المعرفة والإخبار العلمية، ليكون المواطنون على بينة من حقيقة الوباء ومخاطره ووسائل الوقاية، وغير ذلك، وأعلنت بعض حكومات الدول الأوروبية انها "في حالة حرب"، لكن المواطنين لا يرغبون في إرساء نظام استبدادي، يحكمهم كما في زمن الحرب، فالمواطنون لا يُواجهون عدوًّا خارجيا، جاء لغزْوِ بلادهم بالقوة، بل وباء، يتطلب نشر معلومات صحية وطبية وعلمية واضحة ومُبَسّطَة، ليتمكنوا من المشاركة الواعية والطوعية في احتواء الوباء، إلى جانب العاملين في قطاع الرعاية الصّحّية، ومعظمهم من النساء، فالنساء موجودات في الخط الأمامي لمواجهة هذا الوباء، حيث تُشكل النساء نسبة 90% من العاملين في مجال التمريض والسّهر على علاج وراحة المَرْضَى، وكبار السن، ومن العاملين في دور الحضانة ورعاية العاجزين عن الحركة، في العالم، كما تشكل النساء 82% من إجمالي المُدَرِّسِين في التعليم الإبتدائي...
اهتمت الحُكُومات بمواصلة النشاط الإقتصادي، وبحُرّية حركة السّلع ورأس المال، دون الإهتمام بحماية العاملين والمواطنين، فرغم تطور البحث العلمي والصّحّي والطّبّي، لم تتوجه جهود المختبرات الحكومية والخاصة نحو البحث عن لقاح أو علاج، لوباء "كوفيد 19" (كورونا) الذي يَضُرُّ بالفُقراء وبالعاملين في القطاع الموازي وبفاقدي المأوى، وكل من يعيشون في ظروف قاسية، في ظل نظام صحي ضعيف، نتيجة الخصخصة والتقشف وخفض ميزانيات الصحة العمومية، وخفض عدد العاملين والتجهيزات في قطاع الرعاية الصحة، وإلغاء أساليب الوقاية، وعدم الإهتمام بوقاية العاملين في قطاع الصحة، في معظم بلدان العالم، ما أدى إلى إطلاق إضرابات، خاصة في أوروبا، من أجل تأمين الظروف الطبيعية للعمل في قطاعات صناعية (صناعة السيارات)، وخدمات التنظيف وجمع النفايات، وعُمّال الصّحة، وغيرها.
يعيش في الولايات المتحدة أكثر من ثلاثين مليون مواطن، أو حوالي 10% من البالِغِين، بدون مظلة صحية (بدون تأمين صحي)، ما يجعل هؤلاء عُرْضَة للإصابة بشتى أنواع الأمراض، خصوصًا في فصل الشتاء.
في أوروبا قررت حكومات دول الإتحاد الأوروبي تقديم مِنح مالية للشركات بقيمة 1,260 تريليون يورو، وقرر المصرف المركزي الأووروبي، دعم الشركات الكبرى والمصارف، بسبب "الأضرار الناتجة عن انتشار وباء كوفيد 19"، بالمقابل، أغلقت الحكومات محلات توزيع الغذاء والملابس على الفُقراء، بسبب الحجْر الصحي، ما يُضاعف من مُعاناة الفُقراء، كما أغلقت محلات الإيواء الشّتْوي للفُقراء، من فاقدي المأوى (حوالي 4,5 ملايين في دول الإتحاد الأوروبي، يموت منهم حوالي 16 ألف شخص سنويا، وتشكل النساء نسبة 10% من حالات الوفيات، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية 29/10/2019)، بذريعة "الحَد من الإختلاط ومن نشر الوباء"، وتُشكل هذه القرارات كارثة صحية واجتماعية، وهي قرارات جائرة تستهدف الفُقراء، بشكل حَصْرِي، إذ يتهددُهُم الموت جوعًا وبَرْدًا ومَرَضًا، قبل بلوغ سن الخمسين، في المتوسّط، مقابل معدل ثمانين سنة لبقية المواطنين، ولا يمكن لهؤلاء الفُقراء المعدمين العمل في وظائف هَشّة، من حين لآخر، بشكل مؤقت، للحصول على بعض المال. أما من يسكنون بيوتًا غير صحية، فيجبرهم الحجر الصحي على الإكتظاظ ليلاً نهارًا، في مساحات صغيرة، بدون ألعاب أو وسائل ترفيه...
في فلسطين المحتلة، تذرعت أجهزة القمع لدولة الإحتلال بانتشار الوباء لفرض مزيد من العُزلة على سكان الأراضي المحتلة سنة 1967، وعلى الأسْرى، وعلى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1948، واستخدمت التقنيات المتطورة والوسائل الإلكترونية والرّقْمِيّة، للتجسس على الهواتف المحمولة والحواسيب، وكافة وسائل الإتصال، مع نصب مزيد من أجهزة المراقبة (كاميرا) في الشوراع وفي الفضاء العام، وفي دُور العبادة (الكنائس والمساجد)، وزرع برامج تجسُّس على الأشخاص (الفلسطينيين) لجمع المعلومات بشأن حوالي مليونَيْن من الفلسطينيين، من أبناء وأحفاد من تمكّنوا من البقاء في وطنهم، سنة 1948، "واحتمال استغلال هذه البيانات" من قِبَل الإحتلال، لأغراض "أمْنِيّة"، لتعَقُّب واعتقال الفلسطينيين، و"انتهاك حقوق الإنسان"، بدون رادع ولا رقيب، بحسب المركز الحُقُوقي "عدالة".
يُقدّر عدد العاملين المتضررين من انتشار وباء "كوفيد 19" بما لا يقل عن مائة مليون عامل وموظف وأجير، ناهيك عن المنتجين من مزارعين وحِرَفِيِّين، وغيرهم، ويعبر العاملون في قطاعات الرعاية الصحية والتجارة والتنظيف وغيرهم، في مواجهة مباشرة مع الوباء، خاصة وأن معظمهم لا يمتلكون وسائل الوقاية، من كَمّامات وغيرها، ويعملون في ظروف عسيرة، منذ تسريع وتيرة الخصخصة وتسليع الخدمات الأساسية، ما رَفَع من عدد حالات الوفيات بين العاملين، خاصة في القطاع الصحي والرعاية الإجتماعية، ناهيك عن المتضررين من إيقاف النشاط في قطاعات الصناعة والنقل والسياحة والتجارة، وغيرها، وما رفع عدد المُسرّحين من وظائفهم، بذريعة انتشار فيروس "كورونا"، وأقرت حكومات العالم دَعْم الشركات والأثرياء والمصارف وأرباب العمل، بدل دعم المواطنين، والفُقراء منهم بشكل خاص...