الطاهر المعز :
(4)
دَوْر السياسة الجبائية وتوجيه عائدات الضرائب لتعميق الفجوة الطبقية
نموذج الولايات المتحدة الأمريكية
أدّى التخريب التّدريجي للقطاع العام، ومن ضمنه قطاع الرعاية الصحية، منذ حوالي أربعة عُقُود، إلى حرمان الملايين من نظام الرعاية الصحية الشاملة، ولجوئهم إلى القطاع الخاص، الذي يحكمه قانون الربح والخسارة، والمتاجرة، بل والمُضاربة بصحة البشر، ولما حل وباء "كوفيد 19" (كورونا)، أصبح سُكّان الولايات المتحدة، أعتى قوة امبريالية في العالم، عُرْضَةً للموت، وأصبحت أمريكا تتصدر قائمة بلدان العالم في عدد الإصابات الجديدة، وفي انتشار الوباء، قبل بضعة أشهر من تاريخ الإنتخابات الرئاسية (تشرين الثاني/نوفمبر 2020)، وتأثّر الوضع الإقتصادي، بسرعة، بانتشار الوباء وبارتفاع عدد الإصابات، فسارع الحزبان الحاكمان، ومؤسسات الدولة الإتحادية (البيت الأبيض والكونغرس)، إلى الإتفاق، يوم 27 آذار/مارس 2020، على تبديد المال العام لصالح الشركات الأمريكية العابرة للقارات، مع قليل من المال لدعم الأُسَر الأمريكية، لتتمكن من استهلاك القدر الأدنى من السلع، ومن دَفْعِ الإقتصاد الأمريكي الذي يعتمد بشكل كبير على الطلب والإستهلاك الدّاخِلِيّيْن للسلع والخدمات، واتخذ هذا التوزيع للمال العام عنوان "تحفيز الإقتصاد"، كما حصل خلال فترة رئاسة "باراك أوباما"، سنة 2009، ولكن هذا التحفيز مُصْطَنَع، لأنه لا يخضع للرقابة، ويفتقد توزيعه وإنفاقه للشفافية (رغم تحديد المبالغ لكل صنف من المُسْتَفِيدين)، ولن يكون ناتجًا عن إنتاج السلع والخَدَمات، ولأن الشركات الكبرى تستفيد من الجزء الأكبر من مبلغ الدّعم المُباشر، ومن الإعفاء من الرُّسُوم والضّرائب، ولم تشترط الدولة على الشركات المُسْتَفِيدة من المال العام، حماية حقوق العاملين، واستغل الجناح الأكثر تصلبا في الحكم، هذه الجائحة، لتشديد القبضة الأمنية على السكان، والإستعداد لاستدعاء مليون من جنود الإحتياط في كافة الجُيُوش للخدمة، لفترة سنَتَيْن، إذا اعتبر الرئيس أن الوضع يستوجب نَشْرَ القوات المُسلحة، وزيادة تضييق الخناق على الفُقَراء ("العدُوّ الدّاخلي") الذين قد ينتفضون، احتجاجًا على وضعهم، وعلى ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وغياب الرعاية الصحية والمَسْكن وغير ذلك...
تُشير التقديرات إلى حرمان ما لا يقل عن ثلاثين مليون أمريكي من التأمين والرعاية الصحية، رغم استفادة الشركات الكُبْرى للأدوية، وشركات التأمين الصحي، سنويا، من إعفاءات ضريبية هامة، وهي من بين أكبر الشركات المستفيدة من الدعم الحكومي الحالي، دون أية ضمانات للعاملين بها، ودون الإلتزام بتجميد أسعار الأدوية، أو خفض وتجميد تكلفة الرعاية الصحية للأُسَر وللأفراد، التي يُتَوَقَّعُ ارتفاع تكلفتها بنسبة 40% سنة 2021 (ما يُخَفِّضُ قيمة الأجر الحقيقي )، لتزيد الأرباح الصافية لهذه الشركات الضخمة، التي قاربت أربعين مليار دولارا بنهاية سنة 2019 (دون احتساب الحوافز العديدة والإعفاءات الضريبية)، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" (28 آذار/مارس 2020)، التي اعتبر مُحرّر افتتاحيتها أن وباء "كوفيد 19" يشكل اختباراً لسوء تصرف الإدارة الحالية، وعدم نجاعة سياساتها في كافة المجالات...
من جهة أخرى، وبشكل عام، تُعتبر السياسة الجبائية وطريقة تحديد مصدر إيرادات الضرائب وطريقة إنفاقها، منذ أكثر من أربعة عُقُود، إحدى أدوات تعميق الفوارق الطبقية، في حين تُحاول الطبقات الحاكمة التركيز على النمو الإقتصادي، وسبقت الإشارة أن ارتفاع نسبة النمو الإقتصادي لا تعني سوى زيادة حجم إيرادات السلع والخدمات في الإقتصاد الشمولي (على صعيد اقتصاد الدّول)، ولا تعني إطلاقًا زيادة دخل الأُجراء والفُقراء، وتفيد البيانات، منذ عُقود، أن الأُجَراء يُساهمون بمعدل 80% (في المتوسط) من الإيرادات الجبائية لمختلف دُول العالم...
يتمثل الحد الأدنى من "العدالة الجبائية" في إقرار مبدأ الضريبة التصاعدية، وهو ليس مبدأ اشتراكيًّا أبدًا، أي أن يُساهم الأثرياء في إيرادات الدولة، بما يناسب ثرواتهم، خاصة وأنهم يستفيدون أكثر من غيرهم من البُنى التحتية ومن الخدمات العمومية، فالفقراء لا يملكون سيارات في معظم بلدان العالم، ويستخدمون وسائل النقل العام المُهترئة والمُكْتَظّة، ولا يحتاجون إلى طرقات واسعة ترتفع تكلفة إنشائها وصيانتها، ولا يستخدمون المطارات سوى نادرًا، لأنهم لا يُسافرون كثيرًا بالطائرة، خاصة منذ إعلاق حدود الدول الغنية، وتعميم فرض التأشيرة، وبالإضافة إلى امتيازات الأثرياء، تمنحهم المصارف المركزية أموالا بدون فائض، أو بفائض ضعيف، تُعيد المصارف إقراضها للمواطنين وللشركات الصغيرة بفائض أعلى، كما حصل ويحصل منذ أزمة 2008/2009، وبالإضافة إلى ذلك خربت السياسات النيوليبرالية القطاع العام، لترتفع تكاليف المعيشة والنقل والرعاية الصحية، التي يُسدّدُها الأجراء والفُقراء، ما يُخفض من قيمة معدل الأجر الحقيقي، وتعتمد الدولة سياسة إعادة توزيع حصيلة الضرائب لفائدة الأكثر ثراء، عبر الإعفاء من الضريبة، وعبر ما يُسمّى "حوافز مالية"، بدون مقابل، فيما تحمي أجهزة الدّولة في البلدان الصناعية المتطورة الشركات الكبرى من منافسة شركات الصين أو روسيا، على سبيل المثال، بالمقابل يُموّل الأثرياء الحملات الإنتخابية (المَظْهَر البارز للديمقراطية البرجوازية) لمن يخدم مصالحهم، في عملية اندماج واضح لجهاز الدولة مع رأس المال، ما يجعل الأثرياء يحتكرون السلطة المالية والإقتصادية، وكذلك السلطة السياسية، التشريعية والتنفيذية، ويدعمون استدامة عدم المساواة، وانخفاض الدّخل الحقيقي، وتنظيم المنافسة بين عُمال ومُزارعي العالم، لنشر الصراع (الطبقي والقومي) داخل حدود البلدان، وخارجها، واستخدام السلاح (الحُرُوب) لحل مسائل ذات صبغة اقتصادية...
● ● ●
(4)
دَوْر السياسة الجبائية وتوجيه عائدات الضرائب لتعميق الفجوة الطبقية
نموذج الولايات المتحدة الأمريكية
أدّى التخريب التّدريجي للقطاع العام، ومن ضمنه قطاع الرعاية الصحية، منذ حوالي أربعة عُقُود، إلى حرمان الملايين من نظام الرعاية الصحية الشاملة، ولجوئهم إلى القطاع الخاص، الذي يحكمه قانون الربح والخسارة، والمتاجرة، بل والمُضاربة بصحة البشر، ولما حل وباء "كوفيد 19" (كورونا)، أصبح سُكّان الولايات المتحدة، أعتى قوة امبريالية في العالم، عُرْضَةً للموت، وأصبحت أمريكا تتصدر قائمة بلدان العالم في عدد الإصابات الجديدة، وفي انتشار الوباء، قبل بضعة أشهر من تاريخ الإنتخابات الرئاسية (تشرين الثاني/نوفمبر 2020)، وتأثّر الوضع الإقتصادي، بسرعة، بانتشار الوباء وبارتفاع عدد الإصابات، فسارع الحزبان الحاكمان، ومؤسسات الدولة الإتحادية (البيت الأبيض والكونغرس)، إلى الإتفاق، يوم 27 آذار/مارس 2020، على تبديد المال العام لصالح الشركات الأمريكية العابرة للقارات، مع قليل من المال لدعم الأُسَر الأمريكية، لتتمكن من استهلاك القدر الأدنى من السلع، ومن دَفْعِ الإقتصاد الأمريكي الذي يعتمد بشكل كبير على الطلب والإستهلاك الدّاخِلِيّيْن للسلع والخدمات، واتخذ هذا التوزيع للمال العام عنوان "تحفيز الإقتصاد"، كما حصل خلال فترة رئاسة "باراك أوباما"، سنة 2009، ولكن هذا التحفيز مُصْطَنَع، لأنه لا يخضع للرقابة، ويفتقد توزيعه وإنفاقه للشفافية (رغم تحديد المبالغ لكل صنف من المُسْتَفِيدين)، ولن يكون ناتجًا عن إنتاج السلع والخَدَمات، ولأن الشركات الكبرى تستفيد من الجزء الأكبر من مبلغ الدّعم المُباشر، ومن الإعفاء من الرُّسُوم والضّرائب، ولم تشترط الدولة على الشركات المُسْتَفِيدة من المال العام، حماية حقوق العاملين، واستغل الجناح الأكثر تصلبا في الحكم، هذه الجائحة، لتشديد القبضة الأمنية على السكان، والإستعداد لاستدعاء مليون من جنود الإحتياط في كافة الجُيُوش للخدمة، لفترة سنَتَيْن، إذا اعتبر الرئيس أن الوضع يستوجب نَشْرَ القوات المُسلحة، وزيادة تضييق الخناق على الفُقَراء ("العدُوّ الدّاخلي") الذين قد ينتفضون، احتجاجًا على وضعهم، وعلى ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وغياب الرعاية الصحية والمَسْكن وغير ذلك...
تُشير التقديرات إلى حرمان ما لا يقل عن ثلاثين مليون أمريكي من التأمين والرعاية الصحية، رغم استفادة الشركات الكُبْرى للأدوية، وشركات التأمين الصحي، سنويا، من إعفاءات ضريبية هامة، وهي من بين أكبر الشركات المستفيدة من الدعم الحكومي الحالي، دون أية ضمانات للعاملين بها، ودون الإلتزام بتجميد أسعار الأدوية، أو خفض وتجميد تكلفة الرعاية الصحية للأُسَر وللأفراد، التي يُتَوَقَّعُ ارتفاع تكلفتها بنسبة 40% سنة 2021 (ما يُخَفِّضُ قيمة الأجر الحقيقي )، لتزيد الأرباح الصافية لهذه الشركات الضخمة، التي قاربت أربعين مليار دولارا بنهاية سنة 2019 (دون احتساب الحوافز العديدة والإعفاءات الضريبية)، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" (28 آذار/مارس 2020)، التي اعتبر مُحرّر افتتاحيتها أن وباء "كوفيد 19" يشكل اختباراً لسوء تصرف الإدارة الحالية، وعدم نجاعة سياساتها في كافة المجالات...
من جهة أخرى، وبشكل عام، تُعتبر السياسة الجبائية وطريقة تحديد مصدر إيرادات الضرائب وطريقة إنفاقها، منذ أكثر من أربعة عُقُود، إحدى أدوات تعميق الفوارق الطبقية، في حين تُحاول الطبقات الحاكمة التركيز على النمو الإقتصادي، وسبقت الإشارة أن ارتفاع نسبة النمو الإقتصادي لا تعني سوى زيادة حجم إيرادات السلع والخدمات في الإقتصاد الشمولي (على صعيد اقتصاد الدّول)، ولا تعني إطلاقًا زيادة دخل الأُجراء والفُقراء، وتفيد البيانات، منذ عُقود، أن الأُجَراء يُساهمون بمعدل 80% (في المتوسط) من الإيرادات الجبائية لمختلف دُول العالم...
يتمثل الحد الأدنى من "العدالة الجبائية" في إقرار مبدأ الضريبة التصاعدية، وهو ليس مبدأ اشتراكيًّا أبدًا، أي أن يُساهم الأثرياء في إيرادات الدولة، بما يناسب ثرواتهم، خاصة وأنهم يستفيدون أكثر من غيرهم من البُنى التحتية ومن الخدمات العمومية، فالفقراء لا يملكون سيارات في معظم بلدان العالم، ويستخدمون وسائل النقل العام المُهترئة والمُكْتَظّة، ولا يحتاجون إلى طرقات واسعة ترتفع تكلفة إنشائها وصيانتها، ولا يستخدمون المطارات سوى نادرًا، لأنهم لا يُسافرون كثيرًا بالطائرة، خاصة منذ إعلاق حدود الدول الغنية، وتعميم فرض التأشيرة، وبالإضافة إلى امتيازات الأثرياء، تمنحهم المصارف المركزية أموالا بدون فائض، أو بفائض ضعيف، تُعيد المصارف إقراضها للمواطنين وللشركات الصغيرة بفائض أعلى، كما حصل ويحصل منذ أزمة 2008/2009، وبالإضافة إلى ذلك خربت السياسات النيوليبرالية القطاع العام، لترتفع تكاليف المعيشة والنقل والرعاية الصحية، التي يُسدّدُها الأجراء والفُقراء، ما يُخفض من قيمة معدل الأجر الحقيقي، وتعتمد الدولة سياسة إعادة توزيع حصيلة الضرائب لفائدة الأكثر ثراء، عبر الإعفاء من الضريبة، وعبر ما يُسمّى "حوافز مالية"، بدون مقابل، فيما تحمي أجهزة الدّولة في البلدان الصناعية المتطورة الشركات الكبرى من منافسة شركات الصين أو روسيا، على سبيل المثال، بالمقابل يُموّل الأثرياء الحملات الإنتخابية (المَظْهَر البارز للديمقراطية البرجوازية) لمن يخدم مصالحهم، في عملية اندماج واضح لجهاز الدولة مع رأس المال، ما يجعل الأثرياء يحتكرون السلطة المالية والإقتصادية، وكذلك السلطة السياسية، التشريعية والتنفيذية، ويدعمون استدامة عدم المساواة، وانخفاض الدّخل الحقيقي، وتنظيم المنافسة بين عُمال ومُزارعي العالم، لنشر الصراع (الطبقي والقومي) داخل حدود البلدان، وخارجها، واستخدام السلاح (الحُرُوب) لحل مسائل ذات صبغة اقتصادية...
● ● ●