أجندات أجنبية تملأ فراغاً عربياً
صبحي غندور*
إنّ الاحتلال في أيّ بلدٍ من العالم لا يتحقّق بسبب قوّة المحتل وجبروته فقط، بل عن ضعفٍ أيضاً في جسم البلد الذي يخضع للاحتلال، وهو أمرٌ بات يُعرف بمصطلح "القابلية للاستعمار أو الاحتلال". وبالتالي، فإنَّ كلاً من العنصريْن (قوّة الغازي وضعف المغزوّ) يؤدّي إلى تقوية الآخر. وهكذا كان الحال في الحروب العربية-الإسرائيلية، وما سبقها من حقبة الاستعمار الأوروبي في مطلع القرن العشرين، عقب الحرب العالمية الأولى.
ومواجهة الاحتلال لا تكون حصراً بالمواجهات العسكرية ضدّ الجيش المحتل، بل أيضاً في إسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وفي بناء قوّة ذاتية تنهي عناصر الضعف التي أتاحت للاحتلال أن يحدث أصلاً.
لذلك نجد أنَّ حال الضعف العربي المتراكم في العصر الحديث هو بناء تدريجي قام على انعدام التوافق أولاً على مفهوم "الأمّة العربية" – وهي هنا مشكلة تعريف "الوطن" - بعد انتهاء حقبة السيطرة العثمانية، ثمّ تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة العربية، وقيام أوطان ضَعُف فيها الولاء الوطني الواحد وانعدم فيها "مفهوم المواطنة" وساد في معظمها أوضاع انقسامية طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة في الأوطان.
اليوم، تعيش الأمّة العربية أوضاعاً مشابهة لما كانت عليه منذ مائة عام، وهي تدخل مرحلة شبيهة بما حصل عقب الحرب العالمية الأولى من دخول عدّة بلدان عربية في مرحلة "الانتداب" الدولي. وأيضاً، تتكرّر اليوم أخطاء القرن الماضي، من حيث الاشتراك العربي في وصف الواقع والحاضر لكن مع عدم الاتّفاق على مشروع عربي مشترَك للمستقبل.
فالمنطقة العربية في هذا القرن الحالي تشهد مرحلة سقوط "النظام العربي الرسمي المريض" في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير ل"دولة إسرائيل" على أحداثها وعلى القوّة الدولية الأعظم في هذه الحقبة الزمنية. طبعاً، هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال "النظام العربي الرسمي المريض" أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً فكر وبرامج وقيادات وأساليب سليمة وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات.
وللأسف، يصرّ بعض "الثوار العرب"، منذ بدء الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدّة دول بالمنطقة العربية في العام 2011 وإلى الآن، على الحديث فقط عن المسألة الديمقراطية بمعزلٍ كامل عن قضايا أخرى هامّة تتّصل بحاضر الأمَّة العربية وتاريخها المعاصر، كقضية التحرّر الوطني من الاحتلال أو الهيمنة الأجنبية، أو قضية الصراع العربي/الصهيوني التي هي فاعلة في كلّ ما تشهده الآن المنطقة من تطوّرات سياسية وأمنية، أو حتّى في قضية هويّة الأوطان العربية التي تطمسها الآن هُويات فئوية ضيقة تخدم مشاريع الدويلات الطائفية والإثنية.
فحبّذا لو يُدرك هؤلاء "الثوّار العرب الجدد" أنّهم بذلك يعيدون فتح أبواب الأوطان العربية للنفوذ الأجنبي ولإعادة حقبة "المستعمرات العربية" التي أسقطتها ثورات عربية تحرّرية حقيقية في منتصف القرن الماضي، بعد عقودٍ من النضال الوطني امتدّ من المغرب إلى جزائر المليون شهيد، إلى تونس، إلى ليبيا عمر المختار، إلى مصر عبد الناصر، إلى عدن والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان. فتلك كانت ثورات جادّة من أجل استقلال أوطانها، وأدّت إلى توحيد شعوبها وإلى تعزيز الهويّة العربية المشتركة، بينما بعض "الثوّار الجدد" اعتمدوا على التدخّل الأجنبي بوجيهه الإقليمي والدولي، هذا التدخّل الذي ساهم كثيراً في تسعير الأزمات وبالتفكّك الوطني والشعبي الذي يحدث في مجتمعات "الثوّار الجدد".
وهناك نماذج مختلفة من الحراك الشعبي الذي شهدته وتشهده المنطقة العربية. إذ أنّ أمراض جسم النظام العربي الراهن ليست لها وصفة طبية سياسية واحدة. وليست الظروف الداخلية فقط هي عناصر الاختلاف بين هذا البلد وذاك، بل تلعب أيضاً المصالح الدولية والإقليمية دوراً هامّاً في تقرير مصير بعض البلدان العربية. إلا أنّه مهما جرى من اختلافٍ بين القوى السياسية المحلّية على طبيعة الحكم، فإنّ الحسم مطلوبٌ أولاً لوحدة الشعب، ولحرّية الأرض، ولرفض أي هيمنة أجنبية، ولعدم تحطيم مؤسّسات الدولة الواحدة.
لكن إنصافاً للحقيقة، فإنّ معارك التحرّر الوطني في القرن العشرين لم تصل نتائجها إلى بناء مجتمعات حرّة يتحقّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية السليمة في الحكم وفي صنع القرار. وبسبب ذلك، كان سهلاً حدوث التدخّل الإقليمي والدولي في القضايا الداخلية العربية وعودة مشاريع الهيمنة الأجنبية من جديد. ربّما هي سمةٌ مشتركة بين عدّة بلدانٍ عربية أنّ شعوبها نجحت في مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ فشلت قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة.
فما يحدث الآن في داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالة هامّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.
ولعلَّ أهم دروس هذه القضايا العربية المتداخلة الآن هو تأكيد المعنى الشامل لمفهوم "الحرّية" حيث أنّ الحرّية هي (حرّية الوطن وحرّية المواطن معاً) ولا يجوز القبول بإحداها بديلاً عن الأخرى. كذلك هو التلازم بين الحرّيات السياسية والحرّيات الاجتماعية. وكم يكون حجم المأساة كبيراً حينما عانت وتعاني بعض الأوطان من انعدام كل مضامين مفهوم الحرّية!.
نجد أيضاً في ملاحظة ما يحدث على الأرض العربية الآن أنّ الشعوب عموماً تُهيمن عليها حالات سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو إثنية بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمع حيوي موحّد. وهذا الانقسام الطائفي والإثني يتمّ التشجيع عليه محلّياً وإقليمياً ودولياً، ويسبح في أوحاله إعلاميون وسياسيون وعلماء دين ومفكّرون، ولأغراض ومنافع مختلفة.
لقد مضى أكثر من أربعين عاماً من الزمن على محاولات تفكيك هموم الأمَّة العربية وتفكيك شعوبها من أجل تفكيك كياناتها ونزع هُويّتها الثقافية العربية واستبدالها بهُويات أخرى، وعاشت الأمَّة العربية طيلة هذه العقود الماضية جملةً من الأحداث والقضايا يصعب الفصل بينها، وربّما يكون العرب الآن حالة نادرة بين شعوب العالم المعاصر من حيث تشابك القضايا لديهم لكن في ظلّ اختلاف الأولويّات والاهتمامات لدى أبناء الأمّة الواحدة.
فلم تعد هناك قضية مركزيّة واحدة تشدّ اهتمام العرب جميعاً، كما كان الحال العربي قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي، وأصبح لكلِّ بلدٍ عربي قضيته الخاصّة التي تشغل شعبه وحكومته، رغم وجود عناوين مشتركة لهذه القضايا مثل: الإصلاح السياسي الداخلي، التخلّف الاجتماعي والركود الاقتصادي، تحدّي الأمن والاستقرار، الحفاظ على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي المشترك، إضافةً طبعاً إلى وجود مشكلة الاحتلال في بعض الأوطان.
لذلك، فإنّ انطلاق الحركات الشعبية العربية، بغضّ النظر عن عقائدها الفكرية وبرامجها السياسية ومواقعها العملية، من حسم مفهوم العروبة وتأكيد الانتماء لها، سيؤدّي مستقبلاً إلى تكامل الرؤى الإصلاحية الشاملة المرجوّة لدى العرب وبين البلاد العربية.
طبعاً الخطط والمشاريع الأجنبية ليست بمثابّة "قضاء وقدر"، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية. وربّما المشكلة الأكبر حالياً هي في وجود "مشاريع" أمريكية وأوروبية وروسية وصينية وإسرائيلية وتركية وإيرانية للتعامل مع متغيّرات المنطقة العربية أو لتوظيف حركة "الشارع العربي" لصالح أجندات غير عربية، لكن في ظلّ غيابٍ تام لأي "مشروع عربي" يُحافظ على وحدة أوطان هذه الأمَّة وعلى مصالحها، ويحفظ استقلال إرادتها وقرارها.
3-3-2020
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.
صبحي غندور*
إنّ الاحتلال في أيّ بلدٍ من العالم لا يتحقّق بسبب قوّة المحتل وجبروته فقط، بل عن ضعفٍ أيضاً في جسم البلد الذي يخضع للاحتلال، وهو أمرٌ بات يُعرف بمصطلح "القابلية للاستعمار أو الاحتلال". وبالتالي، فإنَّ كلاً من العنصريْن (قوّة الغازي وضعف المغزوّ) يؤدّي إلى تقوية الآخر. وهكذا كان الحال في الحروب العربية-الإسرائيلية، وما سبقها من حقبة الاستعمار الأوروبي في مطلع القرن العشرين، عقب الحرب العالمية الأولى.
ومواجهة الاحتلال لا تكون حصراً بالمواجهات العسكرية ضدّ الجيش المحتل، بل أيضاً في إسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وفي بناء قوّة ذاتية تنهي عناصر الضعف التي أتاحت للاحتلال أن يحدث أصلاً.
لذلك نجد أنَّ حال الضعف العربي المتراكم في العصر الحديث هو بناء تدريجي قام على انعدام التوافق أولاً على مفهوم "الأمّة العربية" – وهي هنا مشكلة تعريف "الوطن" - بعد انتهاء حقبة السيطرة العثمانية، ثمّ تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة العربية، وقيام أوطان ضَعُف فيها الولاء الوطني الواحد وانعدم فيها "مفهوم المواطنة" وساد في معظمها أوضاع انقسامية طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة في الأوطان.
اليوم، تعيش الأمّة العربية أوضاعاً مشابهة لما كانت عليه منذ مائة عام، وهي تدخل مرحلة شبيهة بما حصل عقب الحرب العالمية الأولى من دخول عدّة بلدان عربية في مرحلة "الانتداب" الدولي. وأيضاً، تتكرّر اليوم أخطاء القرن الماضي، من حيث الاشتراك العربي في وصف الواقع والحاضر لكن مع عدم الاتّفاق على مشروع عربي مشترَك للمستقبل.
فالمنطقة العربية في هذا القرن الحالي تشهد مرحلة سقوط "النظام العربي الرسمي المريض" في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير ل"دولة إسرائيل" على أحداثها وعلى القوّة الدولية الأعظم في هذه الحقبة الزمنية. طبعاً، هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال "النظام العربي الرسمي المريض" أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً فكر وبرامج وقيادات وأساليب سليمة وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات.
وللأسف، يصرّ بعض "الثوار العرب"، منذ بدء الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدّة دول بالمنطقة العربية في العام 2011 وإلى الآن، على الحديث فقط عن المسألة الديمقراطية بمعزلٍ كامل عن قضايا أخرى هامّة تتّصل بحاضر الأمَّة العربية وتاريخها المعاصر، كقضية التحرّر الوطني من الاحتلال أو الهيمنة الأجنبية، أو قضية الصراع العربي/الصهيوني التي هي فاعلة في كلّ ما تشهده الآن المنطقة من تطوّرات سياسية وأمنية، أو حتّى في قضية هويّة الأوطان العربية التي تطمسها الآن هُويات فئوية ضيقة تخدم مشاريع الدويلات الطائفية والإثنية.
فحبّذا لو يُدرك هؤلاء "الثوّار العرب الجدد" أنّهم بذلك يعيدون فتح أبواب الأوطان العربية للنفوذ الأجنبي ولإعادة حقبة "المستعمرات العربية" التي أسقطتها ثورات عربية تحرّرية حقيقية في منتصف القرن الماضي، بعد عقودٍ من النضال الوطني امتدّ من المغرب إلى جزائر المليون شهيد، إلى تونس، إلى ليبيا عمر المختار، إلى مصر عبد الناصر، إلى عدن والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان. فتلك كانت ثورات جادّة من أجل استقلال أوطانها، وأدّت إلى توحيد شعوبها وإلى تعزيز الهويّة العربية المشتركة، بينما بعض "الثوّار الجدد" اعتمدوا على التدخّل الأجنبي بوجيهه الإقليمي والدولي، هذا التدخّل الذي ساهم كثيراً في تسعير الأزمات وبالتفكّك الوطني والشعبي الذي يحدث في مجتمعات "الثوّار الجدد".
وهناك نماذج مختلفة من الحراك الشعبي الذي شهدته وتشهده المنطقة العربية. إذ أنّ أمراض جسم النظام العربي الراهن ليست لها وصفة طبية سياسية واحدة. وليست الظروف الداخلية فقط هي عناصر الاختلاف بين هذا البلد وذاك، بل تلعب أيضاً المصالح الدولية والإقليمية دوراً هامّاً في تقرير مصير بعض البلدان العربية. إلا أنّه مهما جرى من اختلافٍ بين القوى السياسية المحلّية على طبيعة الحكم، فإنّ الحسم مطلوبٌ أولاً لوحدة الشعب، ولحرّية الأرض، ولرفض أي هيمنة أجنبية، ولعدم تحطيم مؤسّسات الدولة الواحدة.
لكن إنصافاً للحقيقة، فإنّ معارك التحرّر الوطني في القرن العشرين لم تصل نتائجها إلى بناء مجتمعات حرّة يتحقّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية السليمة في الحكم وفي صنع القرار. وبسبب ذلك، كان سهلاً حدوث التدخّل الإقليمي والدولي في القضايا الداخلية العربية وعودة مشاريع الهيمنة الأجنبية من جديد. ربّما هي سمةٌ مشتركة بين عدّة بلدانٍ عربية أنّ شعوبها نجحت في مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ فشلت قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة.
فما يحدث الآن في داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالة هامّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.
ولعلَّ أهم دروس هذه القضايا العربية المتداخلة الآن هو تأكيد المعنى الشامل لمفهوم "الحرّية" حيث أنّ الحرّية هي (حرّية الوطن وحرّية المواطن معاً) ولا يجوز القبول بإحداها بديلاً عن الأخرى. كذلك هو التلازم بين الحرّيات السياسية والحرّيات الاجتماعية. وكم يكون حجم المأساة كبيراً حينما عانت وتعاني بعض الأوطان من انعدام كل مضامين مفهوم الحرّية!.
نجد أيضاً في ملاحظة ما يحدث على الأرض العربية الآن أنّ الشعوب عموماً تُهيمن عليها حالات سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو إثنية بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمع حيوي موحّد. وهذا الانقسام الطائفي والإثني يتمّ التشجيع عليه محلّياً وإقليمياً ودولياً، ويسبح في أوحاله إعلاميون وسياسيون وعلماء دين ومفكّرون، ولأغراض ومنافع مختلفة.
لقد مضى أكثر من أربعين عاماً من الزمن على محاولات تفكيك هموم الأمَّة العربية وتفكيك شعوبها من أجل تفكيك كياناتها ونزع هُويّتها الثقافية العربية واستبدالها بهُويات أخرى، وعاشت الأمَّة العربية طيلة هذه العقود الماضية جملةً من الأحداث والقضايا يصعب الفصل بينها، وربّما يكون العرب الآن حالة نادرة بين شعوب العالم المعاصر من حيث تشابك القضايا لديهم لكن في ظلّ اختلاف الأولويّات والاهتمامات لدى أبناء الأمّة الواحدة.
فلم تعد هناك قضية مركزيّة واحدة تشدّ اهتمام العرب جميعاً، كما كان الحال العربي قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي، وأصبح لكلِّ بلدٍ عربي قضيته الخاصّة التي تشغل شعبه وحكومته، رغم وجود عناوين مشتركة لهذه القضايا مثل: الإصلاح السياسي الداخلي، التخلّف الاجتماعي والركود الاقتصادي، تحدّي الأمن والاستقرار، الحفاظ على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي المشترك، إضافةً طبعاً إلى وجود مشكلة الاحتلال في بعض الأوطان.
لذلك، فإنّ انطلاق الحركات الشعبية العربية، بغضّ النظر عن عقائدها الفكرية وبرامجها السياسية ومواقعها العملية، من حسم مفهوم العروبة وتأكيد الانتماء لها، سيؤدّي مستقبلاً إلى تكامل الرؤى الإصلاحية الشاملة المرجوّة لدى العرب وبين البلاد العربية.
طبعاً الخطط والمشاريع الأجنبية ليست بمثابّة "قضاء وقدر"، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية. وربّما المشكلة الأكبر حالياً هي في وجود "مشاريع" أمريكية وأوروبية وروسية وصينية وإسرائيلية وتركية وإيرانية للتعامل مع متغيّرات المنطقة العربية أو لتوظيف حركة "الشارع العربي" لصالح أجندات غير عربية، لكن في ظلّ غيابٍ تام لأي "مشروع عربي" يُحافظ على وحدة أوطان هذه الأمَّة وعلى مصالحها، ويحفظ استقلال إرادتها وقرارها.
3-3-2020
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.