الكينزية أم المارشالية والفاشية؟
موفق محادين
من مخلّفات الزوابع الأخيرة لفيروس كورونا، تساؤلات حول مستقبل العالم الرأسمالي وآفاقه، والذي سقط سقوطاً ذريعاً في كل حلقاته، المتطوّرة في الشمال، والضّعيفة في جنوب العالم وشرقه، فيما أظهرت "الشمولية" ومؤسّسات الدولة والقطاع العام والجيوش حضوراً أساسياً في مواجهة الوباء وتداعياته.
هكذا، في وقت راح تلاميذ البنك وصندوق النقد الدوليين وحكوماتهم والليبرالية الجديدة يستعدون لإعلان جديد عن نهاية التاريخ على عتبات النظام الرأسمالي المتوحش، جاءت كورونا لتبدّد أوهامهم وأحلامهم، وتلقي بها في مزابل التاريخ.
وكانت المفارقة الكبرى طوابير الأطباء الكوبيين وطائرات المساعدات الروسية والصينية للدول الرأسمالية المتطورة، التي اعتقد كثيرون أنها باتت ملاذ البشرية، قبل أن تسقط بالنقاط على حلبتها نفسها، وفي مراكز المتروبولات الرأسمالية التاريخية، مثل نيويورك- وول ستريت، ولندن- لومبارد، وباريس ومدريد، والشمال الصناعي الإيطالي.
هكذا، وفي ضربة مزدوجة، سقط آدم سميث ومدرسته وقاموس الحرية المختطفة بكل رموزها: فون هايك ممثل مدرسة فيينا وكتابه "دستور الحرية"، وملتون فريدمان ممثل مدرسة شيكاغو وكتابه "الرأسمالية والحرية"، ومعهما جائزة نوبل للاقتصاد التي احتفت بهما بعد دعمهما انقلاب الرأسمالية والليبرالية الدموي في تشيلي، والذي قاده عميل البنتاغون والبنك الدولي، الجنرال بينوشيه، على رئيس اشتراكي فاز عبر صناديق الاقتراع.
في ضوء ما سبق، تتراوح القراءات النظرية للمشهد الحالي للرأسمالية المأزومة وآفاقها بين المقاربات التالية:
أولاً- عودة الكينزية المنسوبة إلى كينز (1883-1946)، الاقتصادي البريطاني الذي يدعو إلى رأسمالية إصلاحية تسمح بتدخّل الدولة لضبط الأسواق ومواجهة الكساد، وبأشكال من الدعم الاجتماعي لبعض السلع والخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم.
ومن أبرز تعبيراتها ما يُعرف بالاشتراكية الدولية، التي ليس لها من اسمها الاشتراكي نصيب، مثل حزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الفرنسي. ومعروفة هنا العلاقة الوثيقة بين الاشتراكية الدولية، وخصوصاً الفرنسية، ومحفل الشرق الماسوني.
ثانياً- المارشالي نسبة إلى الجنرال جورج مارشال (1880-1959)، والمعاصر، كما هو واضح لكينز، الذي تولى قيادة الجيوش الأميركية في الحرب العالمية الثانية، ثم وزارة الخارجية. واستباقاً لتغلغل الاشتراكية السوفياتية في أوروبا المدمرة، تقدم بالمشروع الذي عرف باسمه، بهدف إعادة إعمار أوروبا ضمن الهيمنة الرأسمالية الأميركية.
اليوم، ومع الأزمة الاقتصادية التي تلفّ أوروبا والعالم كله، قد تُطرح المارشالية مجدداً، وخصوصاً مع تصاعد الأصوات في أوروبا لكسر الهيمنة الأميركية، التي اكتفت بمراقبة ما يجري بانتظار المزيد من خراب أوروبا قبل ابتلاعها مجدداً.
يشار هنا إلى أن هذه الأصوات لا تقتصر على شكر الصين وروسيا وكوبا مقابل إدانة الموقف الأميركي وشريكه البريطاني، كتعبير عن المالثوسية الرأسمالية المتوحشة التي تهتم بمصير الأسواق والشركات أكثر من البشر، بل تمتد كذلك إلى اليمين الشعبوي.
ثالثاً– إذا كانت الأزمة الرأسمالية المتفاقمة قد أنتجت ظواهر مثل المارشالية والكينزية، فقد تنتج مع رواسب الثقافات الشعبوية أشكالاً جديدة من النازية والفاشية، التي سبق أن ازدهرت في إيطاليا وإسبانيا والعديد من البلدان التي يكتسحها الوباء اليوم.
وفي هذه البلدان، ثمة من راح يتذكّر المفكر الأميركي العنصري هنتنغتون وكتابه "صراع الحضارات"، الذي وضع بلدان الكاثوليكية التاريخية، مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وأميركا اللاتينية، في معسكر أعداء الأنجلوساكسون البروتستانت واليهود، إلى جانب الصين الكونفوشية، وروسيا الأرثوذوكسية، والراديكالية الإسلامية المناهضة للغرب، بل هناك من يعتقد أن الوباء الأخير جزء من حرب جرثومية أميركية مصممة لهذه الغاية.
رابعاً- إضافة إلى الاحتمالات السابقة، فإن الشرق عموماً، والعرب خصوصاً، أمام مفترق طرق حاسم، فإما الخروج من التاريخ على هامش الصراعات الداخلية للمتروبولات الرأسمالية، وإما مغادرة الأوهام السائدة، من الليبرالية الجديدة وأدواتها وثوراتها الملونة، إلى خيارات الركود الآسيوي القاتل وطبعته العثمانية الجديدة، ناهيك بالوهابية التكفيرية، فلا خيار آخر سوى استعادة خطاب التحرر والمقاومة على مستوى الأمة، حيث لم يعد في الجغرافيا السياسية الجديدة وخرائطها الإثنية والطائفية أي مساحة للاعبين الصغار.
:::::
"الميادين"
موفق محادين
من مخلّفات الزوابع الأخيرة لفيروس كورونا، تساؤلات حول مستقبل العالم الرأسمالي وآفاقه، والذي سقط سقوطاً ذريعاً في كل حلقاته، المتطوّرة في الشمال، والضّعيفة في جنوب العالم وشرقه، فيما أظهرت "الشمولية" ومؤسّسات الدولة والقطاع العام والجيوش حضوراً أساسياً في مواجهة الوباء وتداعياته.
هكذا، في وقت راح تلاميذ البنك وصندوق النقد الدوليين وحكوماتهم والليبرالية الجديدة يستعدون لإعلان جديد عن نهاية التاريخ على عتبات النظام الرأسمالي المتوحش، جاءت كورونا لتبدّد أوهامهم وأحلامهم، وتلقي بها في مزابل التاريخ.
وكانت المفارقة الكبرى طوابير الأطباء الكوبيين وطائرات المساعدات الروسية والصينية للدول الرأسمالية المتطورة، التي اعتقد كثيرون أنها باتت ملاذ البشرية، قبل أن تسقط بالنقاط على حلبتها نفسها، وفي مراكز المتروبولات الرأسمالية التاريخية، مثل نيويورك- وول ستريت، ولندن- لومبارد، وباريس ومدريد، والشمال الصناعي الإيطالي.
هكذا، وفي ضربة مزدوجة، سقط آدم سميث ومدرسته وقاموس الحرية المختطفة بكل رموزها: فون هايك ممثل مدرسة فيينا وكتابه "دستور الحرية"، وملتون فريدمان ممثل مدرسة شيكاغو وكتابه "الرأسمالية والحرية"، ومعهما جائزة نوبل للاقتصاد التي احتفت بهما بعد دعمهما انقلاب الرأسمالية والليبرالية الدموي في تشيلي، والذي قاده عميل البنتاغون والبنك الدولي، الجنرال بينوشيه، على رئيس اشتراكي فاز عبر صناديق الاقتراع.
في ضوء ما سبق، تتراوح القراءات النظرية للمشهد الحالي للرأسمالية المأزومة وآفاقها بين المقاربات التالية:
أولاً- عودة الكينزية المنسوبة إلى كينز (1883-1946)، الاقتصادي البريطاني الذي يدعو إلى رأسمالية إصلاحية تسمح بتدخّل الدولة لضبط الأسواق ومواجهة الكساد، وبأشكال من الدعم الاجتماعي لبعض السلع والخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم.
ومن أبرز تعبيراتها ما يُعرف بالاشتراكية الدولية، التي ليس لها من اسمها الاشتراكي نصيب، مثل حزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الفرنسي. ومعروفة هنا العلاقة الوثيقة بين الاشتراكية الدولية، وخصوصاً الفرنسية، ومحفل الشرق الماسوني.
ثانياً- المارشالي نسبة إلى الجنرال جورج مارشال (1880-1959)، والمعاصر، كما هو واضح لكينز، الذي تولى قيادة الجيوش الأميركية في الحرب العالمية الثانية، ثم وزارة الخارجية. واستباقاً لتغلغل الاشتراكية السوفياتية في أوروبا المدمرة، تقدم بالمشروع الذي عرف باسمه، بهدف إعادة إعمار أوروبا ضمن الهيمنة الرأسمالية الأميركية.
اليوم، ومع الأزمة الاقتصادية التي تلفّ أوروبا والعالم كله، قد تُطرح المارشالية مجدداً، وخصوصاً مع تصاعد الأصوات في أوروبا لكسر الهيمنة الأميركية، التي اكتفت بمراقبة ما يجري بانتظار المزيد من خراب أوروبا قبل ابتلاعها مجدداً.
يشار هنا إلى أن هذه الأصوات لا تقتصر على شكر الصين وروسيا وكوبا مقابل إدانة الموقف الأميركي وشريكه البريطاني، كتعبير عن المالثوسية الرأسمالية المتوحشة التي تهتم بمصير الأسواق والشركات أكثر من البشر، بل تمتد كذلك إلى اليمين الشعبوي.
ثالثاً– إذا كانت الأزمة الرأسمالية المتفاقمة قد أنتجت ظواهر مثل المارشالية والكينزية، فقد تنتج مع رواسب الثقافات الشعبوية أشكالاً جديدة من النازية والفاشية، التي سبق أن ازدهرت في إيطاليا وإسبانيا والعديد من البلدان التي يكتسحها الوباء اليوم.
وفي هذه البلدان، ثمة من راح يتذكّر المفكر الأميركي العنصري هنتنغتون وكتابه "صراع الحضارات"، الذي وضع بلدان الكاثوليكية التاريخية، مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وأميركا اللاتينية، في معسكر أعداء الأنجلوساكسون البروتستانت واليهود، إلى جانب الصين الكونفوشية، وروسيا الأرثوذوكسية، والراديكالية الإسلامية المناهضة للغرب، بل هناك من يعتقد أن الوباء الأخير جزء من حرب جرثومية أميركية مصممة لهذه الغاية.
رابعاً- إضافة إلى الاحتمالات السابقة، فإن الشرق عموماً، والعرب خصوصاً، أمام مفترق طرق حاسم، فإما الخروج من التاريخ على هامش الصراعات الداخلية للمتروبولات الرأسمالية، وإما مغادرة الأوهام السائدة، من الليبرالية الجديدة وأدواتها وثوراتها الملونة، إلى خيارات الركود الآسيوي القاتل وطبعته العثمانية الجديدة، ناهيك بالوهابية التكفيرية، فلا خيار آخر سوى استعادة خطاب التحرر والمقاومة على مستوى الأمة، حيث لم يعد في الجغرافيا السياسية الجديدة وخرائطها الإثنية والطائفية أي مساحة للاعبين الصغار.
:::::
"الميادين"