ما القوة الحيوية؟ كورونا واختبار المفهوم التقليدي لقوة الدولة
تقتضي الحرب على فيروس كورونا مراجعة الكثير من المسلمات والأفكار والمفاهيم، سواء على مستوى السياسات الداخلية أم على صعيد العلاقات الدولية. تراجع هذه الورقة مفهوم قوة الدولة وضعفها في سياق المواجهة التي تخوضها مختلف بلدان العالم مع هذا الوباء المتفشي، مقارنة بالمفهوم التقليدي للقوة.
شارك
عز الدين عبد المولى
نشرت في: 29/03/2020
(الجزيرة)
(الجزيرة)
في ظرف قياسي، غيَّر فيروس "كورونا" الكثير من عادات الناس وسلوكهم ودفعهم لإعادة النظر في أشكال تواصلهم وأنماط روابطهم الاجتماعية. فالثورة الاتصالية المدعومة بفتوحات التكنولوجيا، والتي كيَّفت بدرجة متزايدة حركة العولمة ومساراتها في السنوات الأخيرة، تخضع هذه الأيام لاختبارات صعبة، سيُعاد بمقتضاها النظر في مجموعة من القيم والتصورات من قبيل الوصل والفصل والقرب والبعد والفرد والجماعة والعام والخاص والحرية والانضباط. على صعيد العلاقات الدولية، اندفعت الغالبية العظمى من دول العالم لاتخاذ إجراءات متسارعة تتعلق بحدودها وسيادتها وأمنها القومي، في ظل هشاشة النظم الإقليمية والدولية القائمة على مفاهيم ومقولات، أصبحت هي أيضًا محلَّ تساؤل عميق. فمقولة المجتمع الدولي وما أفرزته على مدى العقود الماضية من معاهدات وتحالفات وتكتلات وتجمعات ومنظمات للتعاون والشراكة، كل ذلك ستقع مراجعته وسيفقد صلابته التي كان العالم يعرفها ويسلِّم بها في السابق.
تراجع هذه الورقة، من بين تلك المفاهيم، مفهوم قوة الدولة في ضوء التغييرات الجارية، التي فرضها انتشار كورونا (كوفيد - 19) منذ ظهوره في مدينة ووهان الصينية خلال النصف الثاني من ديسمبر/ كانون الأول 2019، والتي وضعت العالم بأسره في حرب غير متكافئة مع عدو غير تقليدي. فما القوة في سياق المواجهة الكونية الدائرة مع كورونا؟ وما مقومات النصر والهزيمة في هذه الحرب؟
حالة حرب
سواء أكانت إعلانات الحرب المتتالية في مواجهة تفشي كورونا صريحة أم ضمنية، فإن دول العالم تخوض كفاحها الراهن ضد هذا الفيروس كما تخوض حربًا حقيقية ضد عدو حقيقي(1). وليس ثمة أفضل من حالة الحرب لاختبار قوة الدولة أو ضعفها. فحالة الحرب تفرض على الدولة استعدادات قصوى وتدفعها لاستخدام أكثر أسلحتها واستراتيجياتها فعالية سواء على مستوى الدفاع أو الهجوم. كل الدول تبذل مجهودات حربية متفاوتة الدرجة، متعددة الأبعاد كما تفعل في حالات الحرب الفعلية. استنفار عام يسنده خطاب تعبوي يتدرج حسب تصاعد خطورة المواجهة واتساع محاور الاشتباك مع العدو. تُجنّد لبث هذا الخطاب وترويجه وسائل الإعلام الرسمية والشعبية ويقوم بعملية التعبئة رموز الدولة ومسؤولوها، ونجوم الفن والرياضة والشخصيات الاعتبارية المؤثرة، ونشطاء المجتمع المدني وشبكات والتواصل الاجتماعي.
في حالة الحرب يُعاد ترتيب أولويات الدولة لخدمة هدف الحرب الأساسي وهو تحقيق الانتصار وتفادي الهزيمة من خلال "إخضاع العدو وتجريده من سلاحه"(2). لخوض الحرب والانتصار فيها تدور أولويات الدول حول محور القوات المسلحة. فهي عصب القوة الصلبة، وهي القيادة الميدانية التي تضع الاستراتيجيات وتخوض المعارك وتواجه العدو وتحمي الحدود. أما القيادة السياسية فتتكفَّل بتأمين الموارد وإدارتها، ورصِّ صفوف الجبهة الداخلية وتعبئتها، وتنسيق المجهود الحربي ودعمه بأقصى ما يمكن من الإمكانات لخدمة تلك الأولويات. الانتصار والهزيمة في الحرب هو الحاصل التفاعلي بين هذه العناصر مجتمعة، وعلى رأسها بالتأكيد القوة العسكرية بمرتكزاتها الصلبة ومدى فاعلية خططها على صعيد الاستراتيجية والتكتيك. حالة الحرب هذه، تنطبق على المواجهة التي تدور في الوقت الراهن بين دول العالم وفيروس كورونا. تتشابه الحالتان كثيرًا، وإن اختلفتا في بعض التفاصيل، فذلك من باب الاستثناءات التي تؤكد قاعدة أن البشرية الآن في حالة حرب حقيقية.
فالمعسكرات متقابلة والعدو محدد والآثار البشرية والاقتصادية والنفسية واضحة. لأول مرة في التاريخ تخوض البشرية حربًا وهي تقف في صف واحد بدلًا من الانقسام إلى معسكرين متقابلين. فقد اضطرت مؤقتًا، لمجابهة هذا العدو الذي يستهدف الجميع، إلى تأجيل بعض خلافاتها وصراعاتها البينية. يقابلها في المعسكر الآخر عدو من فصيلة مختلفة، لم تهيء الإنسانية المؤسسات الضرورية للتعامل معه ولم تنفع في مواجهته الأسلحة المجرَّبة في المعارك السابقة. سلاحه الوحيد قدرته على التخفي وسرعته الخارقة على الانتشار واحتلال المساحات، وإنهاك العدو بعزله وتحويله إلى جزر منفصلة وقطع طرق الإمداد فيما بينها. هنا برزت نقاط ضعف أساسية في معسكر البشرية: سوء تقدير لقوة العدو، عدم تهيئة الخطط والاستراتيجيات المناسبة للمواجهة، تأخر في رد الفعل وتباطؤ في اتخاذ الإجراءات اللازمة، قصور في فهم جغرافية المعركة وقراءة تحركات العدو، فالصين بالمفهوم التقليدي للجغرافيا وما يرتبط بها من أبعاد ومسافات بعيدة عن أوروبا وأميركا، ولكنها في قلب العالم المترابط وفق كافة الأنماط الاتصالية الحديثة. هذه التقديرات الخاطئة نتج عنها ارتباك ميداني واضح وتزايد في أعداد الضحايا وارتفاع في كلفة المواجهة.
التعامل مع ارتفاع أعداد الضحايا في حربنا الراهنة مع كورونا يتم وفق ذات القانون الذي تطبقه الجيوش في الحروب التقليدية، والذي يسمى بالطب الحربي. ففي الحالات القصوى، إذا تفاقمت أعداد الإصابات بين الجنود وتعذَّر إنقاذ الجميع أو علاجهم أو سحبهم من أرض المعركة، تلجأ القيادة إلى هذا القانون الذي يتيح لها الاختيار بين من ينبغي أن يعيش ومن ينبغي أن يُترك لمصيره فيموت. نفس هذا القانون يطبق الآن في المستشفيات على حالات الإصابة بفيروس كورونا ممن لا تستطيع الدولة أن توفر لهم العلاج. فالدول التي تعجز منظوماتها الصحية عن التعامل مع الأعداد المتزايدة من المرضى تلجأ إلى ترتيب أولوياتها إزاء معادلة الحياة والموت. فتختار القيادة الميدانية من بين ضحايا كورونا من تقدِّر أنهم يستحقون الحياة وتترك البقية يموتون، لاسيما إذا كانوا في سن متقدمة تجعلهم قليلي الفائدة لدفع عجلة الإنتاج والربح(3).
حالة الحرب تقتضي من الدولة أيضًا مجهودًا حربيًّا لإسناد وتجهيز القوات التي تخوض المعارك في الجبهات، ومن أبرز وظائف المجهود الحربي تعبئة الموارد المالية الضرورية. فقد أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على سبيل المثال نيته تأمين تريليوني دولار لمواجهة كورونا ودعم الاقتصاد، وهو أكبر مبلغ ترصده الولايات المتحدة في تاريخها لمواجهة عدو(4). من جهته، أعلن المصرف المركزي الأوروبي عن حزمة من المساعدات المالية بقيمة 750 مليار يورو للتخفيف من وقع الوباء على دول الاتحاد(5). نفس المبلغ رصدته ألمانيا كحزمة أولى لمواجهة تفشي الفيروس(6). أما فرنسا فقد رصدت 300 مليار يورو(7)، بينما وافقت الحكومة الإيطالية على صرف مبلغ 25 مليار يورو وطلبت من الاتحاد الأوروبي موارد إضافية(. وفي السادس والعشرين من مارس/آذار تعهدت مجموعة العشرين (G20) بضخ 5 ترليونات دولار في الاقتصاد العالمي لمواجهة هذا الوباء(9). هذه أرقام أولية يُتوقع أن ترتفع مع تقدم الوباء واتساع دائرة الإصابات في ظل محدودية الإمكانات وقصور المنظومات الصحية العالمية، مهما قيل عن تطورها وجاهزيتها، عن مواكبة متطلبات آثار هذه الحرب.
مقتضيات جديدة لإعادة تعريف القوة في سياق غير تقليدي
الحرب على كورونا إذن، حرب مكتملة الأركان ولكنها غير تقليدية. تتوفر فيها كل شروط الحرب وإِنْ اختلفت في بعض الوظائف والأدوار وأساليب القيادة مع الحرب التقليدية. هذه الاختلافات توفر لنا عناصر جديدة لإعادة النظر في مفهوم قوة الدولة في ضوء اختلاف السياقات. فالمفهوم التقليدي لقوة الدولة في سياق الحرب التقليدية التي تخوضها القوات المسلحة بدرجة أولى، لا يتَّسق مع مفهومها في سياق المواجهة مع عدو غير مرئي هدفه احتلال البلدن لا الأرض وتدمير صحة الإنسان لا قدرات الدولة العسكرية.
يرتبط قياس مؤشرات القوة بمعناها التقليدي ارتباطًا عضوياًّ بمستوى التسلح، ونوعية السلاح وكمياته ومصادره، وتوزيعه على القطاعات البرية والبحرية والجوية، وعديد القوات العسكرية، ومستوى تدريبها وجاهزيتها، وطبيعة الجغرافيا السياسية بما في ذلك تضاريس البلدان ومضائقها ومعابرها. في الحروب التقليدية، تؤخذ بعين الاعتبار أيضًا، لتقدير قوة الدول، المعاهدات الدفاعية والتحالفات العسكرية وعدد القواعد العسكرية وانتشارها الاستراتيجي، إلى غير ذلك من هذه المعطيات الصلبة والموضوعية والقابلة للقياس. كلما زادت هذه العناصر زادت قوة الدولة، وكلما نقصت تراجعت قوتها.
بالمقابل، تفقد هذه المعايير معناها في تحديد قوة الدولة في سياق مواجهتها لهذا العدو المستجد. لا عبرة في محاصرته وإخضاعه ونزع سلاحه والقضاء عليه بكميات الأسلحة، خفيفها وثقيلها، ونوعية العتاد الحربي الذي تراكمه الدول من طائرات وصواريخ ومدافع ودبابات ومدرعات ورشاشات وذخائر حية. قوة الدولة في هذا النوع من الحروب تتجلى في نمط مختلف من التسلح لا علاقة له بمجالات القوة التي نعرفها. أدوات قوة الدولة في سياق كهذا تتمثَّل في عدد الكمامات والمعقمات وأجهزة قياس حرارة الجسم وأجهزة التنفس وعدد المستشفيات والأسرة المجهزة بوسائل الإنعاش. قوة الدولة تتجلى في جاهزية المنظومة الصحية وعدد الأطباء والطواقم الطبية وشبه الطبية المدربة والمؤهلة. قوة الدولة في هذا الجيل من الحروب لا تتجلى في قدرتها على تعبئة مواطنيها للاحتماء بالملاجئ الجماعية المعدة لزمن الحرب أو للالتحاق بالجبهة وتعزيز مواقع القتال، بل في تحديد حركتهم وإقناعهم بالعزل الذاتي والتنازل الطوعي عن جزء من حريتهم لفائدة الانضباط لما تتخذه من إجراءات استثنائية.
في هذه الحرب تنقلب أدوار بعض مؤسسات الدولة وأولوياتها، فتتصدى مؤسسات الصحة لمواجهة العدو، ويتراجع دور القوات المسلحة لتصبح خادمة للاستراتيجية الصحية ولأهدافها. في الحرب على كورونا وعلى ما يمكن أن تشهده البشرية مستقبلًا من أعداء من هذ القبيل، يتغيَّر مضمار المنافسة بين الدول، فالسباق بينها لا يكون على التسلح بالقوة الصلبة بل باللقاحات الطبية ومضادات الفيروسات وبتطوير العلوم الجرثومية ومخابر التكنولوجيا الحيوية. وبدلًا من توجيه موارد المجهود الحربي لدعم وزارة الدفاع في المقام الأول، يقع توجيهها لدعم وزارة الصحة، فهي المحور الذي تدور عليه أولويات الدولة. فتستخدم تلك الموارد بالأساس لتسهيل عملها وتدريب طواقمها وتجهيز مرافقها وتعزيز نشاطها بالمتطوعين من المدنيين ومن جيوش الاحتياط. حتى المناورات، بدلًا من إجرائها في ميادين المعارك وبالخيرة الحية لمحاكاة أوضاع قتالية حقيقية، ستجرى مستقبلًا داخل المدن وفي الأحياء والحواري لعزل الناس بعضهم عن بعض وفض تجمعاتهم ودفعهم لانتهاج ما صار يُعرف بسلوك التباعد الاجتماعي.
هذا النمط الجديد من المعايير سيكيِّف نظرتنا لمؤشرات قوة الدولة وضعفها في سياق الحرب على كورونا. فالصين النووية، في ضوء هذه المعايير، ومن هذا المنظور بالذات، ليست بالضرورة أقوى من سنغافورة، وأميركا النووية ليست بالضرورة أقوى من كوبا، وفرنسا النووية ليست بالضرورة أقوى من فنلندا، وبريطانيا العظمى ليست بالضرورة أقوى من جارتها الصغيرة إيرلندا. هذه النسبية في تقدير القوة والضعف يفرضها علينا اختلاف السياقات وطبيعة الحروب التي تخوضها الدولة.
في سياقنا الراهن، وفي ظل تراجع القدرة التفسيرية للمفهوم التقليدي لقوة الدولة، يبدو مفهوم "القوة الحيوية" أقدر على استيعاب المعايير الجديدة، حيث حفظ الحياة هي الغاية، والديناميكية هي المقاربة، والبعد البيولوجي للحرب هو الأبرز.
خلاصات لعصر ما بعد كورونا
لم تكتف المواجهة مع كورونا بتعديل مفهومنا لقوة الدولة وضعفها، بل غيَّرت أيضًا من اتجاه البوصلة الذي ينبغي أن يشير إلى مكامن القوة الحقيقية. فهذا النمط من الحروب يفرض على الدولة أن تستثمر في عناصر القوة التي تتجه إلى الداخل بدرجة أولى وليس إلى الخارج. فالأمن القومي يتحقق بالأساس على قاعدة سلامة وقوة المنظومات الوطنية التي يكون محورها الإنسان: الإنسان العالِم والإنسان المنتِج والإنسان المحارِب. فقد أثبتت الحرب ضد كورونا أن الأولوية هي للعلم والعلماء والبحث العلمي. والدول التي تستثمر بشكل استراتيجي في منظوماتها العلمية والتعليمية ومخابر البحث لتطويرها وتهيئتها لخوض هذا النوع من الحروب ستكون هي الأقوى والأقدر على تحقيق الانتصار. حتى وسائل الإعلام التي لطالما أتخمت برامجها بالمحتوى الترفيهي والاستهلاكي وتجاهلت العلم والعلماء، فرضت عليها يوميات الحرب الفيروسية أن تعيد ترتيب أولوياتها وتفرد للمحتوى العلمي مساحة غير مسبوقة.
وعلى مستوى العلاقات الدولية، سيكون للتعاون في مجال البحث العلمي بين الدول وعبر التجمعات والمنظمات الإقليمية نصيب لم يكن له من قبل. فالعلم لن يكون مجرد مرفق روتيني تكميلي تسهر على إنتاجه جامعات ومراكز بحث معزولة في أغلبها عن حاجات المجتمع، بل سيحتل موقعه الطبيعي باعتباره نشاطًا إنسانيًّا حيويًّا وشرطًا أساسيًّا لبقاء الإنسان. ولن يتوقف الدفاع على بقاء الدولة والإنسان في المستقبل على قوة سلاحها وجاهزية قواتها العسكرية وحسب، بل أيضًا وبدرجة متزايدة على قوة منظومتها العلمية والتعليمية وجاهزية علمائها للمواجهة في حالات الحرب. يرتبط بذلك ويتأسس عليه مرفق الصحة، هيكلة وإدارة وتمويلًا وتجهيزًا وتدريبًا. فالدول القوية هي تلك التي تستثمر في منظوماتها الصحية الوطنية لتعزيز قدراتها وتطوير أدائها، خاصة إذا فرضت عليها الظروف أن تتبوَّأ موقع القيادة لإدارة المعارك أثناء الحروب الفيروسية والجرثومية. فالمجتمع خلال هذا النمط من الحروب ينظر إلى الأطباء والممرضين وقيادات المنظومة الصحية باعتبارهم جنرالات الحرب وجنودها الحقيقيين.
مما كشفته المواجهة مع كورونا أيضًا، أولوية نمط معين من النشاط الاقتصادي الوطني لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجالات حيوية محددة. فالانتشار السريع والمفاجئ للوباء حد من التواصل بين الأمم والشعوب، وأغلق الحدود بين الدول، وغيَّر طرق التجارة ومساراتها، وشلَّ وسائل النقل التي تربط العالم وتقرِّب بعضه إلى بعض، وقلَّص حركة البضائع والأشخاص والأموال. وفي حال طالت هذه الحرب لأشهر أخرى، فإن أثرها على المخزونات الاستراتيجية من الأغذية والأدوية، خاصة في الدول غير المنتجة، سيكون سلبيًّا. لذلك، فإن من دروس الحرب على كورونا إعادة هيكلة النشاط الاقتصادي وتوجيهه لتأمين حاجات الإنسان الاستهلاكية الأساسية في حالات الطوارئ، حين تجد الدولة نفسها محاصرة من كل جانب ولا أحد من خارجها مستعد أن يمد لها يد المساعدة. فالدولة القوية في مثل هذه الظروف هي الدولة المنتجة لغذائها ودوائها والمحافِظة على ثرواتها المائية والطاقية.
هل يعني هذا أن تفقد القوة التقليدية للدولة معناها نهائيًّا فتصبح غير ذات جدوى؟ وكيف سيكون دور المحارِب في هذا النمط من الحروب التي تحتاج بالدرجة الأولى العالِم والمنتِج؟ لقد فرضت المواجهة مع كورونا على الدول أن تعيد ترتيب أولوياتها وتغيِّر من طبيعة بعض وظائف مؤسساتها دون أن تلغيها أو تستغني عنها. إن ما نحن بصدده هنا هو أن يتراجع موقع القوة الصلبة لصالح القوة الذكية، وأن تتراجع الأجهزة العسكرية خطوة إلى الوراء لتتقدم إلى الواجهة أجهزة الصحة ومخابر البحث العلمي وأدوات الإنتاج الغذائي والدوائي. فالعلم والصحة والغذاء والدواء من مسائل الأمن القومي إذا تعلق الأمر بحرب يقف فيها الإنسان بمجموعه في معسكر ويقف فيها فيروس أو وباء أو جائحة في المعسكر المقابل. في الأخير، ستكون هذه الحرب مع كورونا، رغم ما خلفته وما ستخلفه في معسكر الإنسانية من خسائر، بمثابة مناورة مفيدة لحرب غير تقليدية. فقد فرضت هذه التجربة على دول العالم أن تفكر بجدية في كيفية خوض حروبها القادمة. وسيتنقل الوعي البشري باستراتيجياته الدفاعية وسياساته في التسلح والتدريب وتجهيز الجيوش إلى مستوى جديد. فللقوة أكثر من وجه.
نبذة عن الكاتب
608f92287d1d400ab582ad3559bb4d55_6.jpg
عز الدين عبد المولى
مدير إدارة البحوث بمركز الجزيرة للدراسات. حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة أكستر ببريطانيا. تغطي اهتماماته البحثية الشؤون العربية والعلاقات الدولية وقضايا الإعلام والديمقراطية والنظريات السياسية وحركات الإسلام السياسي. ترجم وحرر عددا من الكتب ونشر وشارك بأوراق علمية في عدد من المؤتمرات الإقليمية والدولية.