الوقوع في الربا.. هل تخدعنا البنوك الإسلامية؟
د. ناصر الزيادات
13/5/2018
أخبار من الجزيرة
كثر الحديث في الآونة الآخيرة عن تشبيه البنوك الإسلامية بنظيراتها التقليدية وكان هناك بعض الخلط في التشبيه. فمن المشبهين من وسم البنوك الإسلامية بأن تصرفاتها أو طريقة تفكير العاملين بها محكومة بـ "العقل الربوي". ومنهم من قال أنها محكومة بـ "الفكر الرأسمالي"، ومنهم من جمع بين الوصفين. وللتوضيح فإنه يجب التفريق بين "العقل الربوي" و"العقل الرأسمالي". فهناك العديد من البنوك الربوية في أوروبا تعرف باسم البنوك الاجتماعية أو البنوك التعاونية وهي لا تتسم بأنها بنوك رأسمالية. وعليه فإن كل رأسمالي ليس بالضرورة أن يكون ربوياً، وفي المقابل، كل ربوي ليس بالضرورة أن يكون رأسمالياً، مع التوضيح أن أي من الوصفين يعتبر نقيصة عندما يسقط على البنوك الإسلامية.
ولمعرفة الفرق، لابد من توضيح الفلسفة التي استندت و تستند إليها الرأسمالية على مر السنين. تلك الفلسفة ترتبط بشكل مباشر بشقين أساسيين. أولهما النظرة الوجودية للفرد، والمجتمع. وثانيها المرتكزات الأساسية التي تشكل أسس الإنتاج المعرفي في المدرسة الفكرية الرأسمالية لاسيما النيولبرالية منها وهي التي تحكم معظم اقتصادات العالم في الوقت الراهن. إلا أن هذه المقالة تركز على الشق الأول لضيق المساحة والوقت.
هل البنوك الإسلامية تهدف للربح حتى ولو كان هذا الربح فاحشاً؟ هل البنوك الإسلامية تعلن عن مشاريع خيرية أو إسهامات اجتماعية نفاقاً؟
تنظر الرأسمالية للفرد على أنه إنسان اقتصادي أناني مهتم بمصلحته الاقتصادية فقط. وتسمى هذه بـ"المصلحة الفردية" (Self-interest). لذلك تجد العديد من الدول الغربية تروج قيم فلسفة "الفردية" (Individualism Philosophy) في مجتمعاتها من خلال نظام التعليم بشكل أساس. هذا هو المعتقد الأساس الذي يحكم الرأسمالية منذ نشأتها بعد سقوط نظام الاقطاعيات في الدول الغربية. واستناداً إلى ذلك، فإن الفكر الرأسمالي لدى رجال الأعمال مهما اختلفت أديانهم أو أصولهم أو أماكن تواجدهم، يتمحور حول المصلحة الفردية المتمثلة في تعظيم الارباح. لهذه الأسباب كانت الرأسمالية ولا تزال تعاني من الانتقادات الموجهة إليها من النشطاء الاجتماعيين بوصفها مدعاة للطمع والجشع، في الوقت الذي كان ولايزال يصر فيه كبار الاقتصاديين العالميين من أمثال (ليفيت، وفريدمان) وأتباعهم أن الهدف الرئيس للشركات هو فقط تحقيق الأرباح وتعظيم ثروات المساهمين، وأن أي نشاط تطوعي أو اجتماعي أو خيري ما هو إلا وسيلة من وسائل المناورة من أجل امتصاص الانتقاد الموجه للرأسماليين. حتى أن الكثير من علماء الاجتماع والسياسة المعاصرين وصفوا قرارات الشركات المشاركة في الأمور الاجتماعية إنما تستند إلى مفارقة بين مواقف (trade-off) يكون الفيصل فيها تعظيم الربحية أو تعظيم قيمة المساهمين. أي أنه عندما تقرر شركة ما تحسين أجور العاملين على سبيل المثال، فإنها لن تقدم على هذه الخطوة إلا إذا كانت مربحة لها.
وقد ازداد طين الجشع الرأسمالي بلة منذ ثمانينيات القرن المنصرم عندما سيطر المحافظون على مقاليد الحكم في بلاد الأنلجوساكسونز (تاتشر في بريطانيا وريغان في أمريكا) فقرروا أن يتركوا الشركات تمارس نشاطاتها في السوق مع تخفيض القيود الحكومية إلى الحد الأدنى معتمدين على أيديلوجية الليبرالية الجديدة (Neo-Liberalism) التي في ضوئها تكون "اليد الخفية" للسوق (Invisible Hand) هي المنظم والمشرع لسلوك وتعاملات الشركات والمستهلكين وكل الأطراف الأخرى ذات العلاقة. وهذا ما جعل الشركات أكثر جشعاً وطمعاً وخداعاً ومراوغة ونفاقاً من أجل تحقيق ما تريد: المصلحة الفردية. كما أضافت النيوليبرالية نظرة جديدة للمجتمع مستندة إلى ما يعرف بـ"الداروينية الاجتماعية" التي تقول بأن الأفراد بمصالحهم الفردية سيتصارعون على المستوى الكلي لتحقيق أهدافهم فيكون البقاء في النهاية للأفضل. فمن هو الأفضل؟ لا شك هو من يحقق مصالحه.
المشكلة التي تواجهنا في هذه الأيام هي أن الدول الإسلامية عندما قررت أن تعمل وفقاً لحرية الأسواق وتخفيف القيود التشريعية استجابة للعولمة الأمريكية، أصبح الجو السائد هو الفكر الرأسمالي ذي فلسفة المصلحة الفردية مع اختراقات "لليد الخفية" هنا وهناك. وهنا يجب أن نعود إلى السؤال المطروح في عنوان هذه المقالة: هل البنوك الإسلامية رأسمالية؟ لا أريد أن أرتجل وأجاوب على هذا السؤال، بل إني أحبذ أن أطرح عددا من الأسئلة التي من شأنها أن تجعل القارئ الكريم يحدد بنفسه أن البنوك الإسلامية رأسمالية أم لا.
هل البنوك الإسلامية تهدف للربح حتى ولو كان هذا الربح فاحشاً؟ هل البنوك الإسلامية تعلن عن مشاريع خيرية أو إسهامات اجتماعية نفاقاً؟ هل البنوك الإسلامية تراعي الاحتياجات التمويلية للفقراء أم أنها بنوك متاحة فقط لمن هو مقتدر؟ هل البنوك الإسلامية تراوغ القوانين التي تحد من قدرتها فتذهب وتؤسس فروع أو أعمال لها في البلدان ذات القوانين المتراخية مثل جزر الكيمان أو جزيرة لوبان الماليزية؟ هل كبار المدراء في البنوك الإسلامية لا يلهثون وراء مكافآت نهاية العام؟ هل مكافآتهم كانت أقل من مكافآت مدراء البنوك التقليدية؟ هل البنوك الإسلامية تلتزم بالفتوى التي تتعارض مع القانون؟ هل البنوك الإسلامية تكيف وتطوع الفتوى مثلما تريد؟
هل البنوك الإسلامية تخرج منتجات مشتقة من رغبة السوق حتى لو كانت الرغبة تتعارض مع المقاصد الشرعية؟ هل المنتجات المالية الإسلامية أعلى سعراً من المنتجات التقليدية؟ هل الفتوى تحكم الصفقات الكبيرة أم أن الصفقات الكبيرة هي التي تحكم الفتوى؟ هل تستخدم البنوك الإسلامية أسماء المشايخ في عملياتها التسويقية؟ هل البنوك الإسلامية شركات ذات مسؤولية محدودة: اي أن ملاكها لا يتحملون مسؤولية شخصية عن أفعالهم وأفعال مدرائهم؟ (بالمناسبة: الشركات ذات المسؤولية المحدودة من أبرز سمات الشركات الرأسمالية، وقد روعي هذا الأمر في معيار الشركات في معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية). هل المدراء في البنوك الإسلامية مؤمنون بالعمل المالي الإسلامي أم أنهم قدموا إليه لأنه مربح فقط؟ هل العاملين في البنوك الإسلامية يظهرون التزاماً دينياً يميزهم عن نظرائهم في البنوك التقليدية؟
باختصار شديد: هل البنوك الإسلامية علمانية؟ فالرأسمالية هي الأساس الاقتصادي للديموقراطية العلمانية على اعتبار أن "البزنس لا دين له". كما ذكرت سالفاً أترك إجابة السؤال الرئيس للمقالة لفهم القارئ واستيعابه لمفهوم الرأسمالية، كما أنني أتمنى على كل من يعمل في المجال الشرعي في البنوك الإسلامية أن يجيب – بينه وبين نفسه- عن كل الأسئلة السابقة.
د. ناصر الزيادات
13/5/2018
أخبار من الجزيرة
كثر الحديث في الآونة الآخيرة عن تشبيه البنوك الإسلامية بنظيراتها التقليدية وكان هناك بعض الخلط في التشبيه. فمن المشبهين من وسم البنوك الإسلامية بأن تصرفاتها أو طريقة تفكير العاملين بها محكومة بـ "العقل الربوي". ومنهم من قال أنها محكومة بـ "الفكر الرأسمالي"، ومنهم من جمع بين الوصفين. وللتوضيح فإنه يجب التفريق بين "العقل الربوي" و"العقل الرأسمالي". فهناك العديد من البنوك الربوية في أوروبا تعرف باسم البنوك الاجتماعية أو البنوك التعاونية وهي لا تتسم بأنها بنوك رأسمالية. وعليه فإن كل رأسمالي ليس بالضرورة أن يكون ربوياً، وفي المقابل، كل ربوي ليس بالضرورة أن يكون رأسمالياً، مع التوضيح أن أي من الوصفين يعتبر نقيصة عندما يسقط على البنوك الإسلامية.
ولمعرفة الفرق، لابد من توضيح الفلسفة التي استندت و تستند إليها الرأسمالية على مر السنين. تلك الفلسفة ترتبط بشكل مباشر بشقين أساسيين. أولهما النظرة الوجودية للفرد، والمجتمع. وثانيها المرتكزات الأساسية التي تشكل أسس الإنتاج المعرفي في المدرسة الفكرية الرأسمالية لاسيما النيولبرالية منها وهي التي تحكم معظم اقتصادات العالم في الوقت الراهن. إلا أن هذه المقالة تركز على الشق الأول لضيق المساحة والوقت.
هل البنوك الإسلامية تهدف للربح حتى ولو كان هذا الربح فاحشاً؟ هل البنوك الإسلامية تعلن عن مشاريع خيرية أو إسهامات اجتماعية نفاقاً؟
تنظر الرأسمالية للفرد على أنه إنسان اقتصادي أناني مهتم بمصلحته الاقتصادية فقط. وتسمى هذه بـ"المصلحة الفردية" (Self-interest). لذلك تجد العديد من الدول الغربية تروج قيم فلسفة "الفردية" (Individualism Philosophy) في مجتمعاتها من خلال نظام التعليم بشكل أساس. هذا هو المعتقد الأساس الذي يحكم الرأسمالية منذ نشأتها بعد سقوط نظام الاقطاعيات في الدول الغربية. واستناداً إلى ذلك، فإن الفكر الرأسمالي لدى رجال الأعمال مهما اختلفت أديانهم أو أصولهم أو أماكن تواجدهم، يتمحور حول المصلحة الفردية المتمثلة في تعظيم الارباح. لهذه الأسباب كانت الرأسمالية ولا تزال تعاني من الانتقادات الموجهة إليها من النشطاء الاجتماعيين بوصفها مدعاة للطمع والجشع، في الوقت الذي كان ولايزال يصر فيه كبار الاقتصاديين العالميين من أمثال (ليفيت، وفريدمان) وأتباعهم أن الهدف الرئيس للشركات هو فقط تحقيق الأرباح وتعظيم ثروات المساهمين، وأن أي نشاط تطوعي أو اجتماعي أو خيري ما هو إلا وسيلة من وسائل المناورة من أجل امتصاص الانتقاد الموجه للرأسماليين. حتى أن الكثير من علماء الاجتماع والسياسة المعاصرين وصفوا قرارات الشركات المشاركة في الأمور الاجتماعية إنما تستند إلى مفارقة بين مواقف (trade-off) يكون الفيصل فيها تعظيم الربحية أو تعظيم قيمة المساهمين. أي أنه عندما تقرر شركة ما تحسين أجور العاملين على سبيل المثال، فإنها لن تقدم على هذه الخطوة إلا إذا كانت مربحة لها.
وقد ازداد طين الجشع الرأسمالي بلة منذ ثمانينيات القرن المنصرم عندما سيطر المحافظون على مقاليد الحكم في بلاد الأنلجوساكسونز (تاتشر في بريطانيا وريغان في أمريكا) فقرروا أن يتركوا الشركات تمارس نشاطاتها في السوق مع تخفيض القيود الحكومية إلى الحد الأدنى معتمدين على أيديلوجية الليبرالية الجديدة (Neo-Liberalism) التي في ضوئها تكون "اليد الخفية" للسوق (Invisible Hand) هي المنظم والمشرع لسلوك وتعاملات الشركات والمستهلكين وكل الأطراف الأخرى ذات العلاقة. وهذا ما جعل الشركات أكثر جشعاً وطمعاً وخداعاً ومراوغة ونفاقاً من أجل تحقيق ما تريد: المصلحة الفردية. كما أضافت النيوليبرالية نظرة جديدة للمجتمع مستندة إلى ما يعرف بـ"الداروينية الاجتماعية" التي تقول بأن الأفراد بمصالحهم الفردية سيتصارعون على المستوى الكلي لتحقيق أهدافهم فيكون البقاء في النهاية للأفضل. فمن هو الأفضل؟ لا شك هو من يحقق مصالحه.
المشكلة التي تواجهنا في هذه الأيام هي أن الدول الإسلامية عندما قررت أن تعمل وفقاً لحرية الأسواق وتخفيف القيود التشريعية استجابة للعولمة الأمريكية، أصبح الجو السائد هو الفكر الرأسمالي ذي فلسفة المصلحة الفردية مع اختراقات "لليد الخفية" هنا وهناك. وهنا يجب أن نعود إلى السؤال المطروح في عنوان هذه المقالة: هل البنوك الإسلامية رأسمالية؟ لا أريد أن أرتجل وأجاوب على هذا السؤال، بل إني أحبذ أن أطرح عددا من الأسئلة التي من شأنها أن تجعل القارئ الكريم يحدد بنفسه أن البنوك الإسلامية رأسمالية أم لا.
هل البنوك الإسلامية تهدف للربح حتى ولو كان هذا الربح فاحشاً؟ هل البنوك الإسلامية تعلن عن مشاريع خيرية أو إسهامات اجتماعية نفاقاً؟ هل البنوك الإسلامية تراعي الاحتياجات التمويلية للفقراء أم أنها بنوك متاحة فقط لمن هو مقتدر؟ هل البنوك الإسلامية تراوغ القوانين التي تحد من قدرتها فتذهب وتؤسس فروع أو أعمال لها في البلدان ذات القوانين المتراخية مثل جزر الكيمان أو جزيرة لوبان الماليزية؟ هل كبار المدراء في البنوك الإسلامية لا يلهثون وراء مكافآت نهاية العام؟ هل مكافآتهم كانت أقل من مكافآت مدراء البنوك التقليدية؟ هل البنوك الإسلامية تلتزم بالفتوى التي تتعارض مع القانون؟ هل البنوك الإسلامية تكيف وتطوع الفتوى مثلما تريد؟
هل البنوك الإسلامية تخرج منتجات مشتقة من رغبة السوق حتى لو كانت الرغبة تتعارض مع المقاصد الشرعية؟ هل المنتجات المالية الإسلامية أعلى سعراً من المنتجات التقليدية؟ هل الفتوى تحكم الصفقات الكبيرة أم أن الصفقات الكبيرة هي التي تحكم الفتوى؟ هل تستخدم البنوك الإسلامية أسماء المشايخ في عملياتها التسويقية؟ هل البنوك الإسلامية شركات ذات مسؤولية محدودة: اي أن ملاكها لا يتحملون مسؤولية شخصية عن أفعالهم وأفعال مدرائهم؟ (بالمناسبة: الشركات ذات المسؤولية المحدودة من أبرز سمات الشركات الرأسمالية، وقد روعي هذا الأمر في معيار الشركات في معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية). هل المدراء في البنوك الإسلامية مؤمنون بالعمل المالي الإسلامي أم أنهم قدموا إليه لأنه مربح فقط؟ هل العاملين في البنوك الإسلامية يظهرون التزاماً دينياً يميزهم عن نظرائهم في البنوك التقليدية؟
باختصار شديد: هل البنوك الإسلامية علمانية؟ فالرأسمالية هي الأساس الاقتصادي للديموقراطية العلمانية على اعتبار أن "البزنس لا دين له". كما ذكرت سالفاً أترك إجابة السؤال الرئيس للمقالة لفهم القارئ واستيعابه لمفهوم الرأسمالية، كما أنني أتمنى على كل من يعمل في المجال الشرعي في البنوك الإسلامية أن يجيب – بينه وبين نفسه- عن كل الأسئلة السابقة.